18 ديسمبر، 2024 10:54 م

رواء القريض -6-….اموي

رواء القريض -6-….اموي

التشبيه المتقن وطول النفس .
ما بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الْمَاءُ يَنْسَكِبُ……… كَأَنَّهُ مِنَ كُلى ً مَفْرِيَّة ٍ سَرِبُ
وَفْرَاءَ غَرْفِيَّة ٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا……….. مشلشلٌ ضيَّعتهُ بينها الكتبُ
أَسْتَحْدَثَ الرَّكْبُ عَنْ أَشْياَعِهِمْ خَبَراً…. أَمْ رَاجَعَ الَقْلبَ مِنْ أَطْرَابِهِ طَرَبُ
مِنْ دِمْنَة ٍ نَسَفَتْ عَنْهَا الصَّبَا سُفعاً……..كما تُنشَّرُ بعدَ الطِّيَّة ِ الكتُبُ
سَيْلاً مِنَ الدِّعْصِ أغْشتْهُ معَاَرِفَهَا……..نَكْبَآءُ تَسْحَبُ أَعْلاَهُ فَيَنْسَحِبُ
لاَ بَلْ هُوَ الشَّوْقُ مِنْ دَارٍ تَخَوَّنهَا……مَرّاً سَحَابٌ وَمَرّاً بَارِحٌ تَرِبُ
هذا مطلع قصيدة شهيرة ، نعم كله مطلع وليس البيت الاول فقط كما جرت العادة ، ذاك ان القصيدة (الملحمة) تزيد على المائة بيت ، ملئت وصفا والفاظا ولغة قيل عن صاحبها انه معجم العرب الناطق وكان كنزا من كنوز العلم بالشعر القديم واللغة، وقال عنه الناقد والراوية الشهيرابو عمرو بن العلاء : (فتح الشعر بامرئ القيس وختم بهذا الشاعر) في معرض حديثه عن الشعر الطللي. وقال عنه جرير: لو لم يقل الا هذه القصيدة لكفته.! …ولكن الذي يهمنا هنا ، ماقاله هو عن نفسه ، فالمقال ليس عن سيرته بل عن قدرته الهائله في فن من فنون البيان في الشعر وهو التشبيه ..فقد قال : “إذا قلت: -كأن-، فلم أجد وأحسن فقطع الله لساني” اي اذا انطلقت في التشبيه وصفا ولم ابدع ! ولذا فقد سد ثغرة تخلفه عن اقرانه ومعاصريه في المدح والهجاء كجرير والفرزدق بوصف الصحراء ومحبوبته والحيوان الذي كان يشخصه ويحمله مشاعر الانسان في كثير من شعره ويستانس به ويأنس له في وحدته في الصحراء التي احبها والفها ووصفها اكثر من وصفه ل (مي) ..المراة التي احب ..فقد ينظم القصيدة من المائة بيت في وصف مشهد واحد في صحراءه ..وذاك هو ذو الرمة غيلان بن عقبة العدوي ولك ان تتخيل القدرة الهائله على الوصف والذي عموده التشبيه ..فهو يقول في محبوبته مي:
لها جيد أم الخشف ريعت فأتْلعت … ووجه كقرن الشمس ريان مشرق
وعين كعين الرئم فيها ملاحةٌ ….. هي السحر أو أدهى التباساً وأعلق
التشبيه باختصار من فنون البيان (الذي يدرس المجاز والكناية ايضا الى جانب التشبيه ) والتشبيه: يلحق امرا بامر او شيئا بشيء في وصف وباستخدام اداة ولتحقيق غرض ..(الجندي كالاسد) و(العلم كالنور) وله اركان وادوات ،لانفصلها في هذا المقام ولكن ناتي على تبيانه لتسهيل امر الاستمتاع به للمتلقي والافادة للشاعر ، فاذا كان خبر( كأن ) مشتقا يكون تشكيك او ظن وليس تشبيه (كأنك واع لما اقول ) ، او (كأني ماسمعتك جيدا) ..وقد ياتي الفعل للتشبيه “اذا رايتهم حسبتهم لؤلؤا منثوا” ..واول انواعه ماتمت اركانه الاربعة كقولك (حاتم كالسحاب في الجود) التام، فاذا اردته بليغا قلت (حاتم سحاب وغمام ) فالبليغ منه ماحذفت اداته ووجه الشبه : فجعل المشيه نفس المشبه به .. ” وجعلنا الليل لباسا ” ..
ومن حيث وجه الشبه يكون التشبيه تمثيلي -وهو ماكان ماخوذا من صورة مركبة او متعددة ” كمثل الحمار يحمل اسفارا” ومفرد “كالاسد” و تفصيلي ” كالبحر في الجود” ومجمل ..”وجه كالقمر” ..ثم من حيث الغرض يقسم ايضا الى بيان الامكان وبيان الحال وهكذا ..والخلاصة ان التشبيه من الفنون الشعرية التي لاغنى عنها وبخاصة في غرض الوصف الذي يتداخل معه بشكل كبير ، وليس يبرع كل شاعر في التشبيه كما يدعي شاعرنا ذو الرمة..فلنتتبع صدق دعواه في نفسه ومعا نمرعلى ابيات يستخدم التشبيه و (كأن) ..من القصيدة نفسها :
فالبيت الاول انسكاب الدمع من العين كالماء المسال من القرب المثقوبة (مفرية)
والرابع ..الصبا (الريح) نسفت عن الدمنة (مايسود بالرماد من الطلل) الرمل فاستبانت الارض كما تنشر الكتب (تفتح ) بعد الطي (الغلق) ، والبيتان مذكوران في صدر المقال ، ثم نقرأ ونشرح :
إلى لوائحَ من أطلالِ أحوية ٍ ……كَأَنَّهَا خِللٌ مَوْشِيَّة ٌ قُشُبُ
مع لوائح ..( ما يلوح ويظهر من الأطلال.) أحوية (مجموعة بيوت ) كأنها خلل (بطائن أجفان السيوف الموشاة (مطرزة) وقشب (جديدة) فيشبه آثار الديار -تمثيليا – كما ترى .
برّاقة ُ الجيدِ واللَبّاتِ واضحة ٌ ….كأنَّها ظبية ٌ أفضى بها لببُ
بين النَّهارِ وبينَ اللّيلِ من عقدٍ عَلَى جَوَانِبِهِ الأْسْبَاطُ وَالْهَدَبْ
هذان البيتان قبلهما ابيات تجاوزتها طبعا وقد وصل الى وصف (مي ) الان ، حبيبته ويستخدم التشبيه ايضا ب (كأن) ، وقد احضرت البيت التالي لان التشبيه -تفصيلي- كما سترى وفيه وصف لتلك الظبية التي شبه بها محبوبته فقد أفضى بها لبب أي: بهذه الظبية. صيّرها في سعة واستواء و”اللبب”: ما استرق من الرمل و”لببٌ” متعلق بالبيت الذي بعده.فقد رعت الظبية (المراة) نهارها، فلما انقضى النهار صارت ممتلئة الجلد براقة قد صقلها الرعيُ. وبين ذلك قوله: “على جوانبه الأسباط والهدب”* فهي ترعى فيهما.وهي اسماء نباتات برية . تخيل كل هذه التفاصيل في بيت .
كَحْلآءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَآءُ فِي نَعَجٍ…. كأنَّها فضَّة ٌ قدْ مسَّها ذهبُ
لا حاجة لشرح البيت الرائع فهو ينبيء عن نفسه ، فقط اعلم ان (البرج ) سعة العين. يقال: امرأة برجاء. و(النعج) بياض الجسم والوجه ، فالنواعج: الإبل البيضُ. و(الكحلاء) التي تراها مكحولة، وإن لم تكتحل.وقد مستها اشعة الشمس في الرعي كما قدم قبل قليل فسمارالشمس وكحل العين وبياض الجسم ..يعني ، ماذا عسى شاعر ان يقول ! فقال ك (كانها فضة قد شابها ذهب )!
ليَالِيَ اللَّهْوُ يَطْبِينِي فَأَتْبَعُهُ….. كَأَنَّنِي ضَارِبٌ فِي غَمْرَة ٍ لَعِبُ
الان يشبه نفسه والتيه الذي هو فيه، فيقول : كانني ضارب ( سابح) في غمرة ( ماء كثير) اي : كأني في غفلةٍ وشرود أسبح في الماء. يطبيني”: يدعوني ويميل بي*
تشكو الخشاشَ ومجرى النِّسعتينِ كما…. أنَّ المريضُ إلى عوّادهِ الوصبُ
كَأّنَّهَا جَمَلٌ وَهْمٌ وَمَا بَقِيَتْ ………..إِلاَّ النَّحِيَزة ُ وَالأَلْواحُ وَالْعَصَبُ
والان يصف بعيره ويشبه ايضا ..والخشاش هو الذي يُجعل في أنف البعير.وهي من صفرٍ، وربما كانت من شعر. وتشكو ايضا مجرى النسعتين ..وهو موضع التصدير والحقب.: النسعة تكون أسفل بطن البعير على الحقر. و”التصدير”: حزام الرحل، يشد على صدره. و “كما أن المريض” فهو يأن الى زواره ويشتكي . “الوصب”: الوجع. يقال: “فلان يتوصب”، أي: يجد وصباً، (وجعاً شديدا) ..والبيت بعده يفيد
وما بقي منها رمق ، أي: فنيت من السير والتعب. وايضا في هذه القصيدة مما لن نشرحه لاستيفاء الغرض وعدم الاطالة ، ولك ان تتبعه في ديوانه ان شئت:
كأنّ راكبَها يهوي بمنخرقٍ…… مِنَ الْجَنُوبِ إذَا مَا رَكْبُها نَصِبُو
وَثْبَ الْمُسَحَّج مِنْ عَانَاتِ مَعْقُلَة ٍ….. كأنّه مستبانُ الشَّكِّ أو جنبُ
و..
كأنَّه معولٌ يشكو بلابلهُ…………. إذا تنكَّبَ من أجوازها نكبُ
كَأَنَّهُ كُلَّمَا ارْفَضَّتْ حَزِيقَتُهَا …..بالصُّلْبِ مِنْ نَهْشِهِ أَكْفَالَهَا كَلِبُ
و..
كأنَّها إبلٌ ينجو بها نفرٌ…….. من آخرينَ أغاروا غارة ً جلبُ
يستلُّها جدولٌ كالسَّيفِ منصلتٌ…. بينَ الأشاءِ تسامى حولهُ العُسُبُ
وايضا..
كأنَّهنّ خوافي أجدلٍ قرمٍ……. وَلاَ تُعَابُ وَلا تُرْمَى بِهَا الرِّيَبُ
كَأَنَّمَا نَفَضَ الأَحْمَالَ ذَاوِيَة ً…… أَنَّ الْمَرِيضُ إِلَى عُوَّادِهِ الْوَصِبُ
و
كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عفْرِيَة ٍ…….. مُسَوَّمٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ مُنْقَضِبُ
و
كَأَنَّهُ حَبَشِيٌّ يَبْتَغِي أَثَراً……….. أو منْ معاشرَ في آذانها الخُربُ
واخيرا ..
كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا كُرَّاثُ سَآئِفَة ٍ……… طارتْ لفائفهُ أو هيشرٌ سلُبُ
وللشاعر كثير غير ذلك في التشبيه فهو القائل :
لها بشرٌ مثل الحرير ومنطقٌ … رخيم الحواشي لا هُراءٌ ولا نزرُ
وعينان قال الله: كونا فكانتا … فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
وتبسم لَمح البرقِ عن متوضِّح … كلَون الأقاحي شاف ألوانَها القطرُ
فهذا البيت الاخير لوحده فيه أركان التشبيه كلها وانواعه من تشبيه بلاغي ثم تام ومفرد ثم تمثيلي ثم تفصيلي وفيه غرضان من اغراض التبيه ، وكلها عن (ابتسامة) ! ومن عجيب فعله انه شبه متغزلا الان وهو شاعر الصحراء الخشن ، باروع مما يفعله شعراء الاندلس!! وعندي ان هذا من اروع ماقالته العرب في التشبيه والوصف .
ولكننا انما اردنا ان نبين القدرة المتفردة على صياغة التشبيه بكل انواعه في قصيدة واحدة وطول النفس فيه ، فاخترنا هذه القصيده التي قال فيها جريرايضا: لو خرس ذو الرمة بعدها لكان اشعر الناس. فهل صدق هو في قوله السالف :” “إذا قلت: (كأن)، فلم أجد وأحسن ……”؟!