مدح الرجوله ووصف الكرم ..
سأمهد بالقصة هذه المرة -على غير مااعتدت- في هذه السلسلة ، لضرورة الفهم المسبق والتذوق حيث لايتأتيان بغير ذلك :
رجل من عشائر وسط العراق كنيته ابو صبري كما يظهر من القصيدة..واسمه سلمان بن غضبان واظنه من عشيرة السلامي استدلالا باحد ابيات الشاعر ..بذكره (السلامات )..هذا الرجل كان مضيفا (معزب) لبضعة رجال وفي الليلة ذاتها مات له ولد فكتم الخبر عن ضيفه وأمر عياله بضمنهم زوجته بعدم العويل ! وظل يسامر الضيف حتى الصباح..ولما رحل ضيفه ،جمع الناس لدفن ولده واقام مجلس العزاء..! وهنا وصل الخبر لضيوفه بعد وصولهم ديارهم فانكروا وقالوا : بل كنا عنده ولاميت ولامصاب لديه ..فاخبروهم بصنيعه من اجل راحتهم ..فعادوا وحضروا العزاء ..
الهوسة اولا، لمن لايعرفها -ادبيا- هي المربع الشعري كله (من الاشطر الثلاث الاولى من قافية واحدة دون جناس “الذي يصنع في ال ابو ذية” ..والشطر الرابع الاخير الذي عليه المعول وبه ينتهي المعنى المطلوب ويبدأ المثل المضروب ..وهذا اللون مشتق كما يبدو من بحر المتدارك ، مع زحاف كامل:
(فعلن فعلن فعلن فعلن …تندار الدنيا وهذا آنه ) كما أنشد الشيخ عبد الواحد الحاج سكر..
وقد تسمى الاشطر الاولى (حسجة) او (نظم) والاخير فقط هو الهوسة وهو الارجح عقلا ..او جريا على تسمية الكل بأسم البعض احيانا ..فتسمى الكل (هوسة) ..واريد ان الفت المهتمين بالشعر العامي العراقي ان (العكيلية) هي تسمية اقل شهرة للون مقارب لهذا الا ان الشطر الرابع فيه اطول عروضيا واكثر عدد كلمات ..وقد لايفصله كثيرون عن (الهوسه)..
مايهمنا ان هذا اللون من الشعر الذي ينفرد به وسط و جنوب العراق ويشيع بين عشائره وقراه ويكاد يحسنه المثقف والعامي على حد سواء وتقوله المراه كما الرجل ..وهاتان الميزتان تجعلان هذا اللون اكثر تفردا .. يؤرخ لاحداث ويظهرمالدى هؤلاء الناس من خزين لاينضب من السحر والرؤى الشعرية المرتبطة بأديم ارضهم الاسمرالمعتق من ضوء شمسهم اللاهبة واشعتها الممتده الى العالم الذي ارفدوه باولى حضاراته ..
هذا اللون سخر من قبل شعراءه بتفرد ايضا فهو يشد العزائم كالنشيد والاهزوجة ويحرض على الاقدام كهلاهل (زغاريد) الحرائر، كما وينعى الخيار من الموتى ويخلدهم ..وبامكانيته الهائلة على اختزال المعنى ووصول الغاية باقل عدد من الكلمات وهذا مالايتوفر للون آخر ..اشارة حادة الذكاء ، استعارة قريبة المنال..فمنه في السياسة:
وفي عهد الملكية ارادت السلطة اناطة تشكيل الوزارة بالسيد علي جودة الايوبي وهو معروف عنه ضعفه وعدم استقلالية قراراته , فجاءت ھذه ( الھوسة ) كتحریض لأستبداله بآخرأكثر قدرة على أدارة الدولة وھذا ما حصل فعلا :
یاشبان یا فرسان ثوروا ویاي
أتركوا النوم أتركوا الزاد أتركوا الماي
علي جودة رئیس عراكنه وي واي
من عیب من الله شھل عیله !؟
وقد اعجبني تشبيه بعض النقاد لهذا اللون الشعري بالمسرح وانا اؤيد ذلك اذا لحظنا ان (المهوال) وهذه هي التسمية التي تطلق على ناظم الهوسة حصرا..ذلك انه يعظم الامور الخطيرة اصلا ويضعها في نصابها وكذا يبرز ميزات الامر او الشخص والتي غابت عن عيون الاخرين ..هذا المهوال يرفق انشاده بتعبيرات حركية وهو في ساحة توازي خشبة المسرح ومن حوله جمهور هم النظارة الذين يتفاعلون معه بانجذاب كبير ويكون الشطر الرابع الهوسة منغما بطريقة تدفع الحاضرين على الدبكة الجماعية الرجولية غير المنظمة ..والتي يسميها البعض خطا “رقصة” ..وانما هي خليط بين التهديد اوالحزن والحسرة او التفاخر الرجولي العالي ولاتمت للرقص بصلة ..حتى في نسختها النسوية ..وبعد ايصال الرسالة ينفض الجمهور ويسدل الستار:
ففي زيارة للملك فيصل لاحدى عشائر الوسط (فتله) ، أنشد امامه السيد عبد المحسن ابو طبيخ غامزا اياه بدور العشائر في تثبيت عرشه بتقديم شبابها شهداءا ضد الانكليز ..وهذا مالايمكن ان يعوضه ثمن ..
أھنا یوم القیامة أو ّجت النیران
وسبع تشھر علینه مجلجل الدخان
لولانه یفیصل ھل العرش ما جان
شّبان أنطینـــه شتنطینـــه؟!
فأمتعض الملك وانتقل الى مكان آخر.، وانفض المسرح الحي..
الان وقد عرفت عن هذا الفن الشعري ..عد معنا الى قصتنا الاولى -مثار المقال- والرجل الذي لم يشأ ان يزعج ضيفه حتى وقد فقد ولده ..في حادثة مذهلة اوردنا اليك تفاصيلها، واليك تخليد الشاعر لهذه الواقعة الفريدة بأسلوب الحسجة والهوسة:
يبو صبري ، شباب المات ..ابنك لو ابن يارك (جارك)
ماضيكت خلكك خاف يدري ويمشي خطارك
ونين الام لابنها شلون ، كلي شسكتة بدارك
لو حاتم طي ماسواها
يخاطب الشاعر الرجل مذهولا، عجبا وياترى هل الشاب المتوفي ابنك ام ابن لجارك فمن غير المعقول ان يصبر رجل على فاجعة الدهر التي مابعدها ..فلايظهر حزنا بل ولايزعج باله خشية ان يبدو ذلك على ملامحه فيلحظ ضيفه (خطارك) ، بل الاعجب ان الام التي لاسبيل لها الى الصبر والكتمان ، كيف تسنى لها ان لاتظهر فجيعتها بضنينها وقرة عينها ..ولم يبد اي شيء على كامل الدار ..فوالله ، لو كان المفجوع حاتم الطائي لما قدر على ذلك ولافعله !
السلامات الهه عتبه اليوم عالتاريخ جي غلطان
ظاكر(ذاكر) عنترة وحاتم ولاظاكر كرم سلمان
اليشوف بعينه ابنه يموت ، ويرد للضيف بالديوان
هالليلة الكعدة شمحلاها
عشيرة الرجل صاحب الدار (السلامية) يعتبون ويلومون الان على التاريخ الذي اغفل ذكر رجلها (سلمان ابن غضبان) ولم يورده الى جنب عنترة وحاتم الطائي ، ولايخفى ماللوم المسبق للتاريخ واستحضار الماضي وافتراض المستقبل ..من تأثير معنوي على المتلقي الذي شعر ان رجلا بهذه الافعال الجسام ، حق له ان يصف الى جنب هؤلاء العظام في سطور التاريخ والا فاللوم حق..رجل يرى بعينيه ولده ميتا ومع هذا يرجع من فوره الى ضيفه متهللا قائلا والالم يعصر قلبه: مااسعدنا بحضوركم ومااحلى هذه الليلة..!
بس ماحرم الله دكول اهلنه نغدمة (نقدمه) للخطار
كول وفعل سواها ابن سلمان حار بحار
من اجوه بالفاتحه الضافوه .كالهم امر فدوة وصار
ابني ولاكومة خطاري
فذهبت مثلا..
وهاك امرا آخرفي هذه القصيدة الحدث، فان من يمدح -سلمان – لوحده فهو لابد نائم (غافي) ..كما يؤكد الشاعر، ووجب ايقاظه وتنبيهه ولومه ، فمابال المراة الزوجة ،، اتدرون كم يعز عليها ولدها وهاهي وقد انفطر قلبها وجزعت وكان حريا بها ان تلطم وتشق الجيوب كما تفعل كل قريناتها ولالوم عليهن ..غير انها وكأصائل النساء ماكسرت من عزيمة زوجها ولاخالفت له امرا ولاازعجت ضيفها ..فكتمت وشربت الحزن كأسا مترعة ،بل واستمرت في الطهي وخبز الدقيق اكراما للضيف ! فكان سبيلها الى تفريغ حزنها انها كانت تصب لوعة قلبها على قطعة العجين التي بين كفيها فتضربها بكل حرقة فهي تخبز وكانها تلطم الخدود..(وبلوعتها تطب -تضرب بكفيها بشدة- على مابين كفيها من عجين لتصنع منه رغيفا- العيشة) !
غافي البس مدح سلمان ..خلوه من منامه يفز
مرة سلمان هم تدرون عليها شكد ابنها يعز ؟
ماكسرت عزم سلمان ..ظلت تعجن وتخبز
وبلوعتها تطب العيشه
وهذا المعنى (في الهوسة الاخيرة) من اعلى المعاني التي وصل اليها الشاعر المهوال والتي لاتتوفر بهذه الكيفية لا لشاعر الفصحى ولاغيره ويعود الفضل في ذلك الى الاشطر الثلاثة التمهيدية وبراعة الشاعر،فقد اشار الى الحزن والحسرة واللوعه والصبر والكتمان والكرم وطاعة الزوج ..واستخدم الاستعارة والكناية والبيان معا في ثلاث كلمات معبرات.!
واخيرا:
الواجب يبن غضبان حتمن رايح نخلدك
وجهك يضحك ومكفاك بليلة ال جبلت ولدك
شمعزه الضيف عندك جان منو يسويها من بعدك
محبس حاتم طي لبسيته ..!
————————————-
ملحوظة:كتبت الهوسة بلهجة الشاعر ومنطقته لاني سمعتهامنه صوتا ولم اقرأها.