18 ديسمبر، 2024 8:22 م

رواء القريض (16) ،،، أندلسي ،،التشوق العظيم للنبي الأعظم

رواء القريض (16) ،،، أندلسي ،،التشوق العظيم للنبي الأعظم

وأدعوها “الدرة المخفية في مدح خير البرية”
(جرَىَ ذكر طَيبةَ ما بَينَنَا ،،،، فلا قَلبَ في الرّكبِ الا وطَارا)
اليك اليك نبي الهُدى ،،،، رَكبتُ البِحار وجبتُ القِفارا
وفارقتُ أهلي ولا منّةٌ ،،،، ورُبَ كَلامِ يَجرُ اعتِذارا
الفصل
و مما خفي عن الناس بهاؤه وعظم في ذاته سناؤه ، درة المدح النبوي ، وغرة التشوق الصوفي ، التي ماسمعت الآذان مثلها ، ولا استطاع الشعراء طولها . شاءت مقدرات الامور ، ان تندثر كما يندثر الأثر المحفور و الذهب المطمور. قصيدة هاج معانيها الشوق ،وابدع كلماتها عظيم التوق ، فاحكمت مصاريعها من تحتها ومن فوق. شعر لم يقله لسان ، بل نطق به صادقا حر الجنان ، و دفعه الى اعلى مراتب البلاغة والبيان ، حتى لايكاد يغفل عن حقه ومكانته انس ولاجان . كيف لا وهي في التشوق لأعظم من تتشوق له المآقي والابصار ، وانبل من تشد اليه الركائب عبر الفيافي والامصار.
وليس شوق المجاور القريب كوجد المفارق الغريب ، وهذا ما اناخ بصبر الرحالة الاندلسي القادم من بلاد المغرب ، و أبان من ولهه الصارخ المعرب. و اطاح بدمعه واضعف عمود تصبره وتقديره ،فقال لما شارف طيبة ليلا واحس قربها في مسيره :

أقول وآنستُ بالليل نارا ،،،، لعل سِراجَ الهدى قد أنارا

ففي ظلم الليل وداجي الفيافي و غلق الافق انبرت للسائرين انوار و نار ، فكان مطلع قصيدته بل شوقيته المختلفة لفظا ونسجا وقافية وبحرا ، فعند تفرد الحنين يتفرد الشوق والأنين ، فلا تعليل لما اراه من نور في هذه الظلماء المستمرة الا ان يكون “سراج الهدى قد انارا” ، فكان مطلعا مصرعا بروي راء النور مضوعا بصدق المتقارب بحرالحبور مرصعا بالهيبة مزدانا بالامل والسرور، طاغي الظهور واضح الحضور .

وإلا فما بالُ افق الدجى ،،،،، كأن سَنَا البرق فيه استطارا

ومن فن رد العجز الى الصدر متوسعا الى التضمين برد البيت الثاني كله الى الذي قبله جوابا لتحيره ، (والا فما الذي حدا بالليل الداجي وكأن برقا خرقه ، واضاءه فجأة واشرقه) .

ونحن من الليل في حندسِ ،،،،، فما باله قد تَجّلى نهارا

ونحن في وسط وقت الليل وأظلمه (حندسه) ، وليس في آخره لنفسر بتقدم ساعة الفجر، ولسنا باوله لنعلل بتأخر ساعة الغسق ، فكيف به “قد تجلى نهارا” ، المجاز في الاستفهام التعجبي وفي احلى حلله .

وهذا النسيم شذا المِسك قد ،،،، اعير ام المِسك منه استعارا

الاستغراق في التمهيد مرده طول التشوق والحنين قبل ذلك ، فشاعرنا مغاربي قادم الى المشرق وليس كل حين يحصل هذا تلكم الايام ،فكل ما انتظره ورآه مناما قد قرب تحققه ، فياترى هذا النسيم الذي هب من طيبة هل اثر عليه أن رشه اهلها بالمسك فاستعار شذاه ام ان المسك الذي نعرفه انما كان اصله من هنا ، وكان معارا لنا في جنبات الدنا !

وكانت رواحلُنا تشتكي ،،،، وجاهاً فقد سابقتنا ابتدارا

و مابال رواحلنا وعيسنا التي كانت بلغت الاعياء والنصب ، واشتكت الرمضاء والتعب ، وها قد قفزت بغتة و صارت تسابقنا وتبادرنا غذ المسير، بعد ان اتعبتنا شكاية ومطلا وتأخير

وكنا شَكونا عناء السرُّى ،،،، فَعدُنا نبارى سِراعَ المَهارى

والتقابل الكامل المفصل بيتا ببيت يزين القصيدة من فنون البديع التي ما سعى اليها شاعرنا وانما هي سعت اليه ، فالمنشغل بشعوره وتعبيره واخراجه ، يعز عليه الالتفات الى البديع وانتاجه ، ويضيف مالنا كنا نشكو عناء السير ليلا ونظن بانفسنا الانهاك فاذا بنا نسابق سراع الخيول الى الإدراك .

اظنّ النُّفوسَ قد استَشعرَت ،،،، بلوغَ هَوى تخذَته شِعارا
بشائرُ صبحِ السرى آذنت ،،،، بأَنَّ الجيبَ تَدانيَ مَزَارا

والمرجح عندي لتعليل ماجرى –يقول- ان النفوس قد استشعرت بلوغ الهوى “هوى احمد” الذي طالما اتخذته هدفا ، ولست ادري ان كان اراد النفوس عامة في البيتين من ركائب وانسان ام خص بها الموصوف بالبيت الذي سبق. ثم اتم المعنى ببشائر الصبح ودنو مقام المزار الشريف.
وهنا ينقل رائعته النقلة الاولى كليا من وصف المسير والمشارفة وهياج النفوس ترقبا للقاء المشوق اليه ، الى شوق من نوع آخر يستثيره الذكر ويهيجه التذكر في بيت يشكل مطلعا ثانيا لقصيدته وعلما مستداما لرائعته ، يقول :

جرَىَ ذكر طَيبةَ ما بَينَنَا ،،،، فلا قَلبَ في الرّكبِ الا وطَارا

تمعن في صدر البيت وسلاسته وعفويته وكأنه كلام مرسل ثم انقل عينك الى عجزه وارقب كيف يقفز قلبك دفقة واحدة مع قفزة اللفظ الذي وصف الركب “فلا قلب في الركب الا وطارا”

حنيناً إلى أَحمدَ المصطفى ،،،، وشوقاً يَهيجُ الضُّلوعَ استِعارا

(والضلوع التي تستعر) وهو احسن الوصف استعارة واقربه ، فالضلوع عظام والذي يستعر الخشب في الشجر، وهو قبيل العظام في البشر.

ولاح لنا احدٌ مشرقاً ،،،، بنورِ من الشُّهداء استِنارا
فمن اجلِ ذلك ظلَّ الدُجى ،،،، يَحُلُّ عقودَ النجومِ انتِثارا

ولما شارف الركب ولاح من بعيد جبل شهداء السنة التاسعة الهجرية ،جبل أحد العظيم ، كان مشرقا بنور شهداء سقطوا فيه تحت راية نشر الدين وفداء لنبيه ، وهنا يعود بنا الى ماانبأنا عنه في المقطع الاول من قصيدته حيث النور الذي هزم الظلام ، اما التشبيه التمثيلي الذي ندر نظيره (عقد من النجوم في سماء ليل داج يبدأ بالانحلال و التناثر رويدا بفعل نور الشهداء الذي اشرق من جنبات احد ففك دلج الليل و احاله نهارا) فقد اكمل بهاء العقد.

ومن ذلكَ الترب طابَ النّسيم ،،،، نشراً وعمَّ الجنابَ انتشارا

و اذن فنسيم المسك الذي ذكره من قبل ربما كان من ذلك الترب ، ترب الشهداء ، فبرع في الموائمة بين انوار طيبة بساكنها وانوار احد بشهدائه ، ومسك المدينة المحمدية المنتشر ومسك الصحابة المنتثر.
وينهي مقطعه ببيت موسيقي تكاد تسمع نغمات البحر المتقارب منه ، و هو يرسم تقارب الركب بالخطى طربا ليصل فصار بعضهم يسابق بعضا تبادرا للوصول ونادوا البدار البدار :

ومن طرب الركب حثَّ الخطى ،،،، اليها ونادى البِدار البِدارا

ثم ينقلنا الى المرحلة الثالثة الواقعية من وصفيته لذلك اللقاء المهيب :

ولما حَللنا فِناء الرّسول ،،،،، نَزَلنا بأَكرمِ خلقِ جوارا
وحينَ دَنونا لفرض السّلامِ ،،،، قَصَرنا الخُطَى ولَزِمنا الوَقارا

(فناء الرسول ، اكرم جوار ، فرض السلام ، قصر الخطى ، التزام الوقار) حلقات تعقد سلسلة بيتين ببعضهما حتى لئن فقدت حلقة او نسيتها انفرط العقد وتفرق قصده ومعناه.

فما نرسل اللحظ الا اختلاسا ،،،، ولا نرفَع الطّرف الاّ انكِسَارا
ولا نظهِرُ الوَجدَ الا اكتتافاً ،،،، ولا نلفِظُ القولَ إلاسرارا

بيتان توأمان آخران يوصفان بأعلى مراتب الوصف كناية واستعارة وتشبيها يلفه اسلوب توكيد زاده الحصر ب (الا) متانة ، واضاف له التكرار والترادف قوة ورصانة. فالنظر اختلاسا والبصر انكسارا و الوجد اكتنافا و القول سرارا ، وكاد ذلك الفعل المهيب المنكسر المكتنف ان ينجح الى نهاية الزيارة بمغالبة المتشوقين لانفسهم ،،،

سوى اننا لم نطق أَعيناً ،،،، بأَدمُعِها غَلبَتنَا انفِجَارا

فختم ببيت خامس يصور انطلاق العيون بدمع غالب الرجال فانفجر ، ففضح الاسرار وازال حجاب الاكتناف و جرأ لحظ الاختلاس و اعدل من الطرف انكساره .
ويردف بوقفتهم في الروضة :

وَقَفنَا بروضَتِه للسّلام ،،،، نعيدُ السّلام عليه مرارا
انظر للجملة الشعرية الفريدة (نعيد السلام عليه مرارا).

ولولا مَهابته في النّفوس ،،،، لَثِمنا الثّرى والتزَمنَا الجِدَارا

لكنا التزمنا جدران قبره الشريف حتى لانفارقه . وانهى مقطعه بقضاء الزيارة هذه التي اتمت الحجة بقبر النبي ، و بصاحبيه ختمنا اعتمارا :

قضينا بزورتنا حجّنا ،،،، وبالعُمرينِ خَتمنا اعتِمَارا

ولايخفى الجناس الجميل بين العلمين ابي بكر وعمر اللذين ادرجهما بلغة التغليب تحت اسم (العمرين) من جانب و بين (اعتمارا) من جانب آخر.

و أخيرا وقد بلغ المنى وحقق ما رأى و ارتوت نفسه مما ظمى ، شرع يستذكر ماجرى ، قبل الوصول ومن لحظة مفاراقة الاهل بنية زيارة المصطفى ،،ينشد:

اليك اليك نبي الهُدى ،،،، رَكبتُ البِحار وجبتُ القِفارا
وفارقتُ أهلي ولا منّةٌ ،،،، ورُبَ كَلامِ يَجرُ اعتِذارا

لابد من القول انه فارق اهله لاجل زيارة النبي الحبيب ولكن في بعض الاشارات مظنة الفهم الخاطىء من قصدها ، فانما هو الإخبار الصادق وليس المنة ، وان كانت فهمت منة فأردفها بالاعتذار ،،إذ :

وكيفَ نمنُ على من بِه ،،،، نُؤَمِل للسّيئات اغتِفارا

بل هو من يمن علينا ان جعل شفيعا لنا وحاشاه ان من على امته عليه الصلاة والسلام ، بل انه كان بشيرا ونذيرا ، وهاديا الى الله بالحق و سراجا منيرا .

دَعاني إليك هوى كامِن ،،،، أثارَ من الشَّوق ما قد أَثارا
فناديتُ لبّيك داعي الهوَى ،،،، وما كنت عنك اطيقُ اصطِبارا

الدعوة من الهوى الكامن المضطرم الذي يثير الاشواق ، والتلبية الفورية التي لا اصطبار عليها

ووطنت نفسي لحكم الهوى ،،،، علي وقلتُ رَضِيت اختِيارا

فخضعت لحكم هواي اذ هو من الهوى المحمود شوقا الى النبي المحمود وطمعا في جنة الله وغفرانه الموعود

اخوض الدجى واروض السرى ،،،، ولا أطعمُ النَّوم الا غِرارا
ولو كنت لا استطيع السبيل ،،،، لطِرت ولو لم اصادف مَطَارا

فسرت (اخوض الدجى) (و اروض السرى) جناس جزئي وطباق كامل وتقابل تام في شطر واحد لمعان بعيدة قربتها التتمة في عجزه (و لااطعم النوم الا غرارا) نزرا قلقا متشوقا، ومن غريب استشراف الشاعر دون قصد كلمة (مطارا) التي ساقها مجازا ثم اصبحت اليوم واقعا .

وأجدر من نال منك الرِّضى ،،،، محبُ ذُراكَ على البُعد زارا

نعم هو الاجدر ، محب ترابك وعلاك الذي بلغك قاطعا الفيافي والوديان ، وزارك على البعد والغيلان.

عسى لحظةٌ منك لي في غَدٍ ،،،، تُمهِّد لي في الجِنان القَرارا

كل ذاك من اجل لحظة واحدة آملها منك ، تمهد لي موطئا في جنة رب العالمين ، ويقيني ان هذا حاصل لي اذا بلغتك بعد ان اهتديت بهديك و استجرت بحماك:

فما ضَل من بِهُداك اهتَدى ،،،، ولاذلَّ من بذراكَ استجَارا

بقي ان نعرف ان الرائعة النبوية هذه – التي تزين بها بحر المتقارب التام (نادر الورود)، و تشرف بها روي الراء بقافية مطلقة -هي لإبن جبير ابي الحسين محمد بن أحمد الكناني االشاطبي الأندلسي الرحالة الأديب. المولود في بلنسية ونزل منها بشاطبة ، البارع في نظم الشعر الرقيق، والحاذق في الإقراء. والمولع بالترحال والتنقل، الذي زار المشرق مرات ثلاث إحداها نظم هذه القصيدة ،و ألف في الرحلات كتابه (رحلة ابن جبير) . وقد مات بالإسكندرية لعصر الايوبيين في رحلته الثالثة مايقرب من 581 هـ، ومن كتبه (نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان) وهو ديوان شعره، و (على قدر ديوان أبي تمام)، و (نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرن الصالح) وهو الشاعر الذي فاض دمعه واستطار وجده عندما شارف على المدينة المنورة .
وماهو بالشاعر المقل المجهول ولكن جهلت درته هذه واختفت ولم تنل شهرة اخواتها ممن سمين ب (بالبردة) عند الشرقيين .ولعل هذه التحفة هي الوحيدة عند المغاربة على هذا النحو ، ويعزز ذلك انها انما قيلت في ارض مشرقية وان كان صاحبها مغربي .
ومماقاله عنه لسان الدين بن الخطيب المشهور (صاحب جاءت معذبتي و جادك الغيث و سكَنَ الحُبُّ فؤادي وعَمَرْ ،،،، ونَهَى الشّوْقُ بقَلْبي وأمَرْ ) –مدافعا- عن اتهامه من قبل ابي الحسن الشادي الناقد الذي ادعى ان ما اشتهر من نظم ابن جبير وشعره وتاليفه من (نظم الجمان وغيره) التي امتدحها ابن عبد الملك وعارضه الشادي هذا قائلا : انها ليست من تاليفه وانما قيد المعاني وتولى ترتيبها بعده بعض الاخذين عنه ونظموها ونضدوها فظهرت هكذا ، رد ابن عبد الملك بحزم :غير صحيح لان نسجه معروف واسلوبه العالي واحد لاتختلف فيه جملة عن جملة وديباجة ابن جبير لاتخفى على احد .(م الحلل السندسية في الاثار الاندلسية ج2 ص 88) انتهى الاقتباس . و اضيف هنا : فكيف بشعره الذي لايخفى سحره وجرسه على أديب او متمرس لبيب.
ومن غرائب اختفائها او قلة شهرتها عند المسلمين أن لحنها وأنشدها اغنية رائعة فريق راق من الفنانيين النصارى المسيحيين.
لمناسبة استذكار الامة لنبيها الكريم.