رمضان بين الماضي والحاضر…
المقالة الثانية عشرة…
كانت أغلب العوائل في القرى والأرياف، عندما تتهيأ لاستقبال شهر رمضان المبارك، تقوم بتحضير كمية من حبوب الحنطة وتنظيفها والذهاب إلى أقرب ماكينة طحين، والتي كانت تبعد عن قريتنا أكثر من سبعة كيلومترات لأنها كانت موجودة في ناحية الشورة، الوحدة الإدارية لقريتنا. كنا نذهب إلى ماكينة الطحين الموجودة هناك، وكانت أجرة الطحين تقاس على مقياس يسمى “الوزنة”، وغالبًا ما تعادل 16 إلى 20 كيلو تقريبًا، وكانت أجرة الطحن 35 فلسًا لكل وزنة. وكان الشخص الذي يشرف على تشغيل هذه الماكينة ويقوم بطحن الحبوب يسمى “الجراش”، وهو صاحب الماكينة أو من يعمل فيها. وكانت العوائل تهيئ مادة الطحين وتوفرها في المنازل على مدار السنة لأنها من الوجبات الرئيسية والضرورية جدًا لروح الحياة هناك.
وكانت هناك أنواع كثيرة من الحنطة التي نقوم بطحنها مثل “صابر بيگ” و”مكسي بيگ” و”أينيا”. وكانت ربات العوائل تهيئ عجينة الخبز من هذا الطحين وتقوم بخبزه على التنور الطيني، فتنبعث منه روائح طيبة جدًا يشمها كل من يمر قريبًا من ذلك التنور…
كان من ضمن مفردات النظام القروي ولتواصل صلة الأرحام، تجد أن ربات الاسر تقوم بتوزيع عدد من أرغفة الخبز على الجيران، وهذا ما يكون متبعًا لدى الجميع.
كان الخبز يعتبر من مفردات الغذاء العائلي الرئيسي في شهر رمضان واستخدامه في أغلب الوجبات الغذائية لدى العوائل، فتجدهم في السحور يتناولونه مع وجبات الألبان، وتجدهم أثناء وجبة الإفطار يتناولونه مع وجبات الطبيخ الموجودة لديهم.
لم يكن في القرى والأرياف أي فرن لبيع الخبز أو الصمون أو غيرها من المعجنات، ولم يكن لدى عوائلنا التنور الغازي في حينها أو التنور الكهربائي، وإنما كان التنور الطيني الذي تجد موقعه في أحد زوايا المنزل، ومسيجًا فوقه أحيانًا سقف بسيط لحمايته من الأمطار، ويكون وقود النار فيه من الحطب أو الخشب الموجود في فضاء القرية. وحتى خميرة الخبز لم تكن في ذلك الزمان من أنواع الخميرة الجافة المتوفرة في يومنا هذا، بل كانت قطعة من العجين السابق تحتفظ بها ربات البيوت في المخمر، ثم تضعها مع العجين الجديد لتختمر وتكون جاهزة للخبز.
وكان المخمر هو المكان الذي يوضع فيه الخبز، وغالبًا ما يكون مصنوعًا من الخشب في ذلك الوقت، وهو على شكل دائري قبل أن يتوفر مخمر اليوم المصنوع من مادة النايلون. وكان مكان المخمر موجودًا في نفس الغرفة التي تسكن فيها العائلة، لأن ذلك الزمان لم يكن هناك غرف خاصة لكل أفراد العائلة، وإنما تجد الجميع يعيشون في غرفة واحدة أو ربما غرفتين ضمن سياج البيت الواحد.
ومع رائحة ذاك الخبز الشهي، نجد أن وجبة الإفطار في شهر رمضان لها ميزة وطعم خاص، لأننا كنا نأكل مما نزرعه في أراضينا الزراعية ونصنع خبزنا في منازلنا ولا نحتاج أن نجلبه من الأسواق التي تستورده عن طريق التجار من دول أخرى.
لقد ذهبت بعض من قدسية ذلك الشهر المبارك بعد أن ابتعدنا عن النية السليمة، وأصبحت موائدنا فيها ما لذ وطاب، وأصبح صيامنا يحسب في الساعة والدقيقة. فليكتب لنا الله أجره على النية ويعيننا على صيامه وقيامه…..
وإلى مقالة أخرى قادمة، ورمضان كريم.