في الشهور الاخيرة من عام 1998 كانت أغلب جلسات البياتي مع الكاتب والناقد محمد الجزائري الذي تربطه علاقة قديمة بابي علي ، وكنت انا ثالثهم ، الجزائري هو أبن البصرة الفيحاء تربطه علاقات قديمه بالسياب وأغلب الشعراء الرواد وله هدوء وكياسة عالية ، يشعر الذي يجلس معه في أي جلسة انه مع احد الملائكة الذين هبطوا من السماء قبل ساعات ! أغلب تلك الجلسات الثلاثية يذهب فيها محمد الجزائري بحديثه عن السياب وعلاقته بالحزب الشيوعي العراقي وخصامه وقلقه وخوفه وآهاته وكل ما يدور حوله ! لم ألاحظ الغيرة بوجه البياتي حين يتحدث الجزائري عن السياب كما يشاع ويقال من الكثيرين ! بل العكس تماما ! يتألم لرحيل السياب المبكر والظروف المأساوية التي مرت به ، وصولا الى مرضه ورحيله في وقت كان العراق بأمس الحاجة لشاعر بقامة كبيرة مثل السياب . في تلك الاوقات كان البياتي منشغلا في التفكير بأمور كثيرة منها تلك الدعوة التي وجهت له من قبل وزارة الثقافة السورية للاقامة داخل دمشق وتخصيص راتب ضخم وسيارة مع سائقها وبيت له كما كان الجواهري !
بينما محمد الجزائري كان يحضّر لاصدارات جديدة من كتبه وكان كتابه ( احلال العقل ) على وشك ان يصدر عن دار الوراق للنشر في لندن والذي صمم غلافه الفنان الراحل ( ارداش كاكافيان ) الذي غادر عالمنا قبل سنوات قليلة !
يريدوننا أن نتطبع ، على ما لا نريده ! لقد سلبوا الارض والثروات والثقافة والحرية . يريدوننا أن نقدم ( تفوق ) الآخر ، طرفا في معادلة الوجود وألا نتواني عن ملىء صحوننا بالضجيج الاعلامي والشعارات والأكاذيب ، كي نغادر مائدة عصرنا وأرضنا ، ونحن جياع وتابعون !! هذا ما جاء في كلمة الناشر لكتاب الجزائري ( احتلال العقل ) !
ولعل الهدوء وطيبة البصرة والافكار والحزب الشيوعي ، والتي هي صفات مجتمعه باستاذنا محمد الجزائري جعلت منه أن يكتب كتابه هذا والذي نرى شواهده شامخة هذه الايام كأي مفكر يرى المستقبل أمامه وكيف تسّير الامور من سيء الى أسوأ !
تردد البياتي كثيرا داخل نفسه في أمر الدعوة التي حملها الشاعر جمعة الحلفي في صيف 1998 . وظل يستشير أصدقائه الذين جمعهم في جلسة خاصة ، لم تكُ تلك الجلسة في حانة الياسمين ولا في بار الفندق الذي بقينا نجلس فيه لايام ، فبعد خروجنا من غاليري الفينيق ، اقترح أن نذهب الى المطعم اللبناني ، لم نذهب الى هذا المطعم اللبناني من قبل . في التكسي التي اقلتنا الى ذلك المطعم ، قال سوف استشير اصدقائي بأمر هام وهو الذهاب الى سوريا والاستقرار بها أو البقاء داخل عمّان ! دخلنا الى المطعم اللبناني وهو من المطاعم الكبيرة جداً وفيه صالتين واحدة للعوائل وأخرى لرجال الاعمال والشخصيات الكبيرة على ما يبدو . المطعم يقدم كل شيء ، الطعام والشراب بأنواعه وفيه خدمة عالية ، تخجل الزبائن !
وعند دخولنا قام مدير المطعم ليرحب ترحيب خاص بالبياتي ومن معه ، كنا الدكتور علي عباس علوان والدكتور خالد السلطاني والدكتور سعيد الزبيدي والدكتور قاسم البريسم والناقد الاستاذ محمد الجزائري والذي حصل على الدكتوراة قبل فترة قصيرة من جامعة هولندية وأنا ! أثنان من الندل وقفوا فوق رؤوسنا وهم يسحبون الكراسي الواحد تلو الآخر لجلوسنا على مائدة أختارها البياتي لتطل على القاعتين الامر الذي سنلفت انتباه جهتي المطعم ، من رجال اعمال وعوائل ، وهذا ما يحبه البياتي ! النادل صاحب البشرة السمراء الداكنة كانت مهمته على كؤوس ( العرق ) ما أن يفرغ واحدا من كؤوسنا حتى جاء بجديد وبدأ يصب الشراب والماء وقطع الثلج التي لم يوقفها إلا باشارة من صاحب الكأس ! حينها هيأ لي أننا في عصر الف ليلة وليلة ولكن من دون جواري ! النادل الثاني كان يراقب صحون المقبلات والمزات التي ملئت المائدة الكبيرة ، فبمجرد أن ينتهي ما في الصحن ، يأتي بثاني ! كان الجوع ينخر في احشائي الامر الذي أنقضضت على الكثير من الصحون ( المزوية ) ! حتى قال لي البياتي ، انتظر يا أبني فسوف يأتي العشاء لاحقاً !
تمتاز المطاعم اللبنانية بتعدد أطباق المقبلات الكثيرة ومنها ما يصلح للأكل ! الأمر الذي جعلني ادرك لاحقاً لماذا نحن في العراق حين نشرب الخمرة نسكر وبقوة وننام في الشوارع وفي اي مكان ! بينما في لبنان لم أسمع أن ثمة انسان سكر ونام في الشارع ! الامر يكمن في تناول الطعام والمقبلات الكثيرة مع الشرب !
في العراق يشرب العراقي ( بطل عرق ) ومزته السجارة ! أو كما الناقد خضير ميري في اتحاد الادباء يقول لصحبه ( مزتنا سوالف ) !
أبتدأ حديث البياتي عن الدعوة الموجهة له من سوريا ، كانت آراء الجميع ترفض ذهابه الى دمشق بعد هذا العمر والمسيرة الشعرية الطويلة والحافلة بالانجازات ومكانته الشعرية داخل الوطن العربي ! الدكتور خالد السلطاني كان من أشد المعارضين لهذه الفكرة وكذلك الراحل الدكتور علي عباس علوان ، لكن البياتي بدأ يساوره القلق ما بين القبول والرفض ! النادل صاحب البشرة السوداء المسؤول عن الكؤوس سحب كأس البياتي الذي فيه ثمالة ، والبياتي حين يشرب يهرب في التفكير بعيداً وهو منتبه لثمالة كأسه التي تنتابه سعادة وهو يشربها ! لم يلاقٍ الترحيب والتشجيع لفكرة انتقاله الى سوريا ، كمن يحسب حسابات خاسرة ، فيما إذا ذهبت منه تلك الفرصة التي ستجعله سيجلس مكان الجواهري في دمشق ! وبّخَ النادل الاسمر الذي بادر على الفور بالاعتذار الشديد وحتى قبل يديّ البياتي !
كان الامر بالنسبة ليّ غريبا ولم أر ابا علي بمثل هذه الحالة التي على اثرها جاء مدير المطعم الذي يعرف شخصية البياتي جيداً وقدم أعتذار هو الآخر ! ثم وجه كلامه الى النادل بأن يعتبر نفسه مفصولا من العمل ! البياتي رفض الفكرة جملة وتفصيلا وقال الى المدير ان الامر قد انتهى ، وفي نهاية الجلسة وضع مبلغا من المال في جيب النادل الذي عادت الدماء في عروقه !
الجميع كان منشغلا بالحديث مع البياتي واحتمالات نظام البعث السوري وضيافته للبياتي قد تؤثر على مسيرته وسمعته ! بينما أنا كنت مشغولا بالطعام والمقبلات وشرب العرق الذهبي الذي لا يكلفني سوى رفع الكأس عالياً فالنادل من يقوم بكل الواجبات على أكمل وجه ! كان محمد الجزائري يرشقني بنظرات قوية ويبتسم ! والدكتور علي عباس علوان يضربني بقدمه من تحت المائدة ويغلق عينه اليسرى الى صديقه الدكتور سعيد الزبيدي ! في اشارة لسكوتي ومتابعتي للشرب والأكل بدون توقف ! كنت أسمع وأشرب وأنقض على صحون المقبلات الكثيرة والتي تحتوي على اشياء عجيبة لم تدخل في القاموس العراقي للطعام ! فلا نعرف سوى الباميا والتمن والدولمة التي تتخم المعدة من دون فائدة تذكر !
في كتابه ( احتلال العقل ) طرح المبدع الكبير محمد الجزائري العديد من الاسئلة : منها هل نحن بدون هوية ؟ هل تم تقويض هويتنا الثقافية ؟ واسئلة كثيرة في واقع الحياة الثقافية والانسانية والتاريخية وأستفسر عن دخول العولمة وأشياء كثيرة احتواها كتابه الشيق !
البياتي اراد أن يعرف وجهة نظر اصدقائه إلا انه كان مقرر الانتقال وسعيد بهذه الدعوة ، كان حديثه عن الراتب الذي سيدفع له سيكون ضعف ما كان يدفع للجواهري من قبل النظام السوري ! بينما البياتي ليس بحاجة الى المال !
انتقل البياتي الى دمشق بعد ايام وكان عليّ أن أذهب في الصباح الباكر الى بيته بعد أن اتفق مع صاحب سيارة الاجرة في مجمع العبدلي الذي دلني عليه والذي سيوصله الى دمشق وكنت سأرحل انا بعد سفر البياتي باسبوعين الى النرويج ، واراد أكرامي بأن يدفع لي مبلغ من المال اشتري فيه ما احتاجه لرحلتي التي ستطول في المنفى ! السكر جعلني انام بعمق ! حتى حين وصلت مجمع العبدلي وسألت صاحب مكتب السفريات ؟ قال البياتي وصل دمشق !
في اليوم الثاني أتصل البياتي ببيت علي عبد الامير عجام وطلب منه أن أتصل به ، جائني علي عجام واعطاني رقم الهاتف التابع للبياتي في دمشق ، وهو يقول لي ان البياتي في حالة قلق عليك وهو يتصل ، اتصلت كان قلقاً جدا ، قال لي : يا ابني هل انت بخير ؟ قلت له نعم استاذ انا بخير واعتذر منك بسبب نومي العميق !قال : لقد وعدتك أن اعطيك مبلغاً من المال يعينك بالسفر لكنك لم تات ! ومعي الآن في دمشق محمد الجزائري وسوف يعود الى عمّان بعد اسبوع ، وسيأتيك بالمبلغ واي شيء تحتاجه عليك الاتصال بيّ وبمجرد ان ترتب اوضاعك وتستقر في البلاد التي لا تظهر فيها الشمس ويقصد النرويج ! عليك أن تاتي الشام ونلتقي !
لقد أحتل المنفى عقولنا واحاسيسنا وايامنا وكل ما هو جميل داخل الروح ، رغم جمال المنفى إلا أن اجسادنا نحن ها هنا من دون روح !
ان احتلال العقل لمحمد الجزائري كان علامة فارقة في تساؤلات مشروعة داخل الثقافة العربية والعراقية بشكل خاصة ! تحية الى ابي احمد الناقد والكاتب الكبير محمد الجزائري وهو يمضي بتفائل وروح طيبة قلّ ما نجدها عند الآخرين وتحية للراحل الكبير عبد الوهاب البياتي !!