في حضن الفلوجة، وعلى ضفاف نهرٍ يتهجّى الغيم مروره على النخيل، وُلد ركن الدين يونس البياتي، في الثاني عشر من نيسان عام 1961، ليكون واحداً من أولئك الذين كتبوا الشعر لا بوصفه ترفاً لغوياً، بل قدراً يُخاض كما تُخاض الحروب من أجل الحقيقة. ومن هناك، من الأنبار إلى بغداد، ثم إلى الاسكندرية والناصرية فبابل، مضى الرجل في رحلة الحياة والمعنى، ممتشقًا قلمه كما لو كان مشعلاً في ليل الكلمات الطويل.
لم تكن بداية ركن الدين في الشعر عابرة، فقد كان شغفه بالكلمة مبكرًا، وكأن القصيدة نادت عليه ذات مساء من مقاعد الطفولة، فلبّاها بما امتلك من وجد وروح متوثبة. وكان أول همس شعري له قد تفتّح في مجلة الورود اللبنانية، لتتوالى بعد ذلك إطلالاته الشعرية في صحف ومجلات عربية وعراقية عديدة، من العدل إلى الطليعة الأدبية، ومن الرافد الإماراتية إلى اتحاف التونسية، مرورًا بمطبوعات كثيرة حملت روحه بين حروفها كمن يحمل سرّه في جيب معطفه.
لم يكن مجرد شاعر يكتب وينشر، بل كان فاعلاً ثقافيًا لا يهدأ. شارك في تأسيس جماعة الاسكندرية الأدبية، وشغل منصب نائب رئيس ملتقاها الأول، كما كان عضوًا فاعلًا في منتديات أدبية عدّة، من المحاويل إلى بابل، ومن قصيدة النثر إلى حملته الفريدة: “هذا هو الشاعر العراقي”، التي أراد من خلالها أن يضيء الشاعر لا بوهج الجوائز، بل بوهج النص.
ركن الدين يونس لم يكتفِ بالشعر على رفوف الذاكرة، بل نشر مجموعات عدّة تُعبّر عن تحولات رؤيته ورهافة لغته. من مدونات نصف قرن إلى ماراثون وعشبة آدم والهروب من ملاحقة الأسئلة، وصولًا إلى انتظريني عند منحدرات الكلام، كتب يونس عن الإنسان في مكابداته، وعن الوطن في ملامحه المتشظية، وعن الحب كما يراه شاعر يعبر الهشيم حافي القلب.
ولم يكن التنظير بعيدًا عن عالمه، فقد كتب في النقد وفي التناص، وناقش مشروعه الكتابي جملة من النقاد والأدباء، من باقر جاسم محمد إلى سامي طه، ومن حاتم الصكر إلى عباس عبد جاسم، فكلٌّ قرأ ركن الدين من زاويته، ليبقى هو في النهاية المشروع ذاته: شاعرًا لا يتوقف عند سطرٍ أو قالب، بل يمضي كما تمضي القصيدة في مائها الأول.
وحين يشارك ركن الدين في مهرجانات الشعر، لا يذهب كضيف، بل كصاحب بيت. من مهرجان الجواهري إلى المربد، ومن الموصل إلى النجف، كان الصوت الذي لا يساوم، والصورة التي تلتقط ألم العراقي وفرحه، تاريخه ودهشته، غربته وإشراقه.
وهو من أولئك الشعراء الذين لا تكفيهم المديحيات الجاهزة، ولا يرضون بالسكون في ظل شجرة قديمة. هو شاعر الحفر في المعنى، والبناء في اللغة، والتجريب في الشكل، دون أن يفرّط بروح الشعر التي ظلّ وفيًا لها رغم تقلبات الأزمنة.
لقد كتب القصيدة كما تُكتب الحياة: بعناء، بجمال، بصدق، وبأسئلة لا تنتهي. فمن ذا يقرأه ولا يشعر أنه أمام شاعر لم يعش الشعر فقط… بل كان هو الشعر؟
ومن شعره قصيدته (بقجة أمي) وهي قصيدة مفعمة بالمرارة الشفيفة والتمزق الداخلي، وتنتمي بوضوح إلى تيار شعر ما بعد الحرب في العراق، حيث تتداخل الذات المجروحة مع يوميات الوطن المنكوب، وتنهض القصيدة على تقنية المونولوج الداخلي الممتزج بالسرد الشعري والتداعي الحر.
القصيدة تنقسم إلى خمسة مقاطع، كل منها يتناول وجهًا من وجوه الخسارة والخذلان والحنين والأمل المحاصر. يبدأ النص بعبارة “أنا لا أحبك” التي لا تستقيم مع السياق إلا بوصفها صرخة كاذبة تحاول الشفاء بالنكران، لكنها تنكشف عبر تكرار الجروح العاطفية والوجدانية، حيث يتكرر فيها التناص العميق مع أزمنة الحرب، العلاقات الإنسانية الملتبسة، والموروث العائلي والاجتماعي القامع.
وفيها ثيمات رئيسية: الحب والحرب: تندمج تجربة الحب مع وقع الحرب، فكلتاهما عند الشاعر تجربة فادحة. ذكره للمفخخات، والجنود، والقذائف، يصنع خلفية موحشة للحب الذي لا يستطيع أن يولد في هذا الخراب.
الأم والزوجة: يمثلان في القصيدة سلطتين رمزيّتين تقمعان الحلم الفردي. الأم تحوّل الحديقة إلى “بقجة” للنخيل، رمز الهوية الريفية الموروثة التي تخنق الحلم “المدني”، بينما الزوجة تسلبه حق التفكير بصوت عال، وتمارس عليه رقابة قاسية.
الفن والحرية: في المقطع الثالث إشارة إلى قمع الخيال والإبداع، مقارنًا تجربته مع تجربة بيكاسو، ليوصل إحساسه بأنه ممنوع من الحلم والخلق، فيستبدل البندقية بدستة مصابيح، في مشهد ساخر ومر.
اما من حيث اللغة والصور الشعرية، فلغته تنحو إلى البساطة المتقشفة ذات الإيحاءات الثقيلة، وتُظهر ما يمكن تسميته بـ”بلاغة الجفاف العاطفي”، حيث لا ترف لغوي، بل تقطير للألم والمعنى، وصوره غالبًا سوريالية أو فجائعية: “القذائف التي سقطت على قلبي ولم تمته”، “زوجة بيكاسو تطلق النار”، “الجنود الغائمون في الصيف والشتاء”.
ونراه يتحدث بوضوح بلسان جندي سابق، محارب مهزوم، فنان مؤجل، يحمل همًا فرديًا وجمعيًا، ويقاوم الاندثار بالحب والشعر والحلم، رغم القمع المتعدد. “صباح الخير… جندي مكلف ركن الدين يونس”: تنتهي الجملة باسم الشاعر، لتكرّس القصيدة سيرة شعرية مباشرة، ووثيقة وجودية ضد المحو.
بقي لنا القول أن “بقجة أمي” قصيدة اعتراف شعري حميم، تكشف عن تعارضات الهوية العراقية المعاصرة: بين الحرب والحب، بين التراث والحداثة، بين الذكرى والخذلان، وتكتب الذات الشاعرة ككائن مسحوق لكنه ما زال يحلم ولو بمصباح.