كانت خطواته ثقيلة، تنطق بالتعب الذي يختبئ في عظامه،وجهه محاط بظلال السهر، وعيناه تعكس حكايات الليل الطويل الذي قضاه يقاتل ضجيج الأفكار، وكل نفس يلتقطه كان كأنه يحمل عبء العالم، لكنه استمر، يمضي بخطى بطيئة، كأنما يحمل ثقلاً لا يُرى، فكل شيء في هذه المدينة يشبهه، الأرصفة المتعبة، أعمدة الكهرباء العرجاء، والحر الذي يُلهب الخيال أكثر من الجسد، يحمل على كتفيه نهاراتٍ من الانتظار، وليالٍ تقضمها المولدات وتخنقها المراوح التي لا تهبّ إلا بالأمل، إنها بغداد التي كانت في يوم ما بلد السلام.. فكان كل شيء من حوله يهمس بما تبقّى من المدن حين تنهكها الذاكرة، المقاهي بنادلين ذاب صوتهم في ضجيج المراوح، الأسواق التي تشبه بيوتا بلا جدران، والنساء اللواتي يحملن الخبز وأوجاع الأمهات في أكياس النايلون، يمشي وهو يعرف أن المدن لا تموت دفعة واحدة، بل تفقد ملامحها شيئا فشيئا، كصورة تُترَك تحت الشمس طويلاً، أطفال يركضون بين الحفر وكأن الألم مجرد لعبة لا نهاية لها، وشباب يجلسون على الأرصفة، ينظرون إلى العابرين كأنهم ينتظرون شيئا لن يأتي..
أصبحت بغداد تنبض في صدره كوجعٍ عتيق لا يبرأ،فكلما اقترب من شارعٍ يعرفه، تاه أكثر داخل أعماقه،بعيدا عن ذاته، فهو من أولئك الذين ينامون بصعوبة ، ليس لأن النوم صار مستحيلاً، بل لأن الحلم نفسه صار عملةً نادرة، فهو يعمل نهارا في مصلحةٍ حكوميةٍ لا يعرف أحدٌ وظيفتها بالضبط، ويقضي ليله في ركن مهجور من هذا الوطن المثقل بالوعود الكاذبة، وهناك، بين صدى الصمت وغمرة الوحدة، يتساءل بصمت: من أين تأتي كل هذه الخيبات المتتالية؟
ولعلّ الإجابة لم تكن في الأسئلة الكبرى، بل في التفاصيل الصغيرة التي تحاصر يومه وتختصر مأساته، فحياة هذا الوطن البائس، لا تعني له أكثر من تفاصيل بسيطة، فهو رجل بسيط لا يملك من الدنيا إلا مروحة تقاعدت قبل أن تُكمل عقدها الأول، وسقفاً من الصفيح يشبه الفرن أكثر مما يشبه البيت، كلّ صيفٍ يفتح أبوابه كأنه يوم القيامة، ويمرّ نهاره كأنه عقوبة مؤبدة بلا محاكمة، ففي تلك الأزقة التي لا تزورها النسمات، لم يكن يبحث عن ظلٍ، بل ليعتاد على الجحيم القادم، يُقنِع نفسه أن العرقَ طهارة، وأن انقطاع الكهرباء امتحان إلهي في الصبر، وأن صوت المولدة القريبة هو النشيد الوطني الحقيقي لهذا البلد، وعند الظهيرة، يبدأ العرض اليومي للمعاناة، تنقطع الكهرباء، فتسكت الأجهزة، وتصحو الحشرات، يُغمس جسده في دلوماءٍ كأنه يحاول أن يسرق لحظة نجاة من هذا اللهيب، بينما المولدات تتعارك مع الهواء لتبيع الوهم بالكيلوواط، أما الكهرباء الوطنية؟ فتلك حكاية تُروى للأطفال قبل النوم، فالكبار فيدفعون عن كل أمبير، فاتورةَ صبرهم، وفي المساء، حين تتهيأ النجوم لتضيء لغيره من البشر، يجلس على سطح داره، يعدّ أضواء الطائرات ويشتم الحكومة، ثم يعود ليُصلي صلاةً خامسة اسمها “صلاة الكهرباء”، لا توقيت لها، ولا يقين باستجابة، ورغم ذلك فهو لا يثور، ولا يهاجر، ولا يلعن الوطن، فقط يبتسم ابتسامةً فيها من الحكمة ما يكفي لهزيمة اليأس، ويقول: “هذا الصيف سيعلّمني شيئاً جديداً”، ثم ينام، إن استطاع، على أمل نسمةٍ تُولد بالخطأ، أو انقطاع مؤقتٍ في موجة الحرّ، وفي كل مرةٍ يسأله الزائرون: كيف تصبر؟
يردُّ وهو يعبّ من هواءٍ لا يبرد: “الصيف عندنا ليس فصلاً،هو شخصية وطنية مستقلة“.
وسط كل ذلك التعب اليومي، وكل تلك التفاصيل الصغيرة التي تتآمر على راحته، كان في قلبه متسع لشيء آخر،شيء نقي، هشّ، لا يشبه صخب المولدات ولا ضيق الأزقة، حيث لم يكن عاشقا تقليديا، بل كان يحب كما يُحبّ الذين يعرفون أن الحياة لا تمنح فرصا ثانية، يكتب رسائل لا يرسلها، ويحتفظ بأغلفة الشوكولاتة كأنها براهين على وجود لحظات دافئة في زمن بارد، أحبّ امرأةً كانت تمرّ كل صباح من ذات الزقاق، شعرها مشدود كسطرٍ مستقيم في دفتر مدرسي، وعطرها يفتح في قلبه فصلاً لم يكتمل، لكنه لم يقل لها شيئا، اكتفى بأن يمنح ابتسامته للهواء كلما مرّت، ويعود إلى داره المستأجرة، حيث السقف أقرب من الحلم، والمروحة تدور كما تدور أيامه: دون جدوى..
كتب لها ذات مرةً على غلاف دفتَرٍ قديم: “لو كنتِ مدينة، لكنتِ بغداد التي في قلبي، مُتعبة، جميلة، لا يفهمها أحد“.. ثم مزّق الورقة، ورماها من الشباك، فطارَت بعيدا، ككل شيء أحبّه.. في الليل، يسمع الأغاني التي تُشبِهه، يغني بصوتٍ خافت كي لا يوقظ جاره العجوز، ويرسم على جدران قلبه امرأةً لا تأتي، ولا تنسى، حتى أصبح قلبه يشبه أرصفة بغداد: كثيرا ما مرت عليه الخطوات، وقليلاً ما وقفت.. فمنذ سنوات وهو كلما أحبّ، ضاع أكثر.
ولأن القلب إذا انكسر لا يتوقف عن المحاولة، دخلت امرأة أخرى حياته، لا تشبه الأولى، لكنها حملت الوعود نفسها التي يحب أن يصدقها، فقد كانت تشبه الربيع، ففي أول آذار أقبلت عليه مثل وعدٍ انتخابي، قالت: “سأجعلك رجلاً لا يعرف الحزن“.. فصدقها كما صدق يوما نائبا قال إن الكهرباء ستعود كاملة بعد العيد، فانتظر العيد والعام والعقد، ولم يعد إلا الظلام، كان يعطيها قلبه، ووقته، وماله القليل الذي يجنيه من دوامه الطويل في دائرةٍ تشبه المقبرة،وكانت تأخذ كل شيء، ثم تختفي حين يُطالبها بالمقابل، كما تختفي شعارات الأحزاب بعد انتهاء الانتخابات، قال لنفسه: “لن أُلدغ مرتين”.. لكن الحقيقة؟ لقد لُدغ عشرا، وفي كل مرة كان ينهض من الخيبة كمن ينهض من تحت أنقاضه، يلملم ما تبقى من قلبه، ويقنع نفسه أن الإنسان لا يُولد قويا، بل يُصبح كذلك من فرط الانكسارات، كان يعرف جيدا أن الحب في بلده ترفٌ، والصدق عملة نادرة، لكن قلبه، رغم كل شيء، ظل ساذجا بما يكفي ليحلم، حتى جاءت المرأة الثالثة كأنها “برنامج حكومي”، بتسريحة شعرٍ أنيقة، وكلماتٍ محفوظة، قالت له: “نستطيع أن نُغيّر الواقع سويا“.
أعطاها مفتاح بيته وقلبه، فغيّرت الأقفال، واحتفظت بالمفتاح وحدها، وحين حاول أن يستعيد نفسه، أخبرته أن حبها كان مشروطا: “إن أردت أن أبقى، فعليك أن تتغيّر“.
كأنها حكومة تشترط على المواطن أن يكون صالحا ليستحق الخدمات، لا أن تُصلح نفسها.. كان متمردا، لا يحب أن يُطأطئ رأسه، حتى حين يُجبره الحر على الانحناء، أو حين يغرق الشارع بمياه المجاري المختلطة بالحلم، لكنه كل مرة كان يقع، لأنه كان يؤمن أن الحب قد يكون الخلاص، كما كان يصدق أن صناديق الاقتراع قد تُنجب كرامة.
ومع اقتراب كل انتخابات، يتغيّر شكل النساء في حياته،فجأة تظهر امرأة جديدة، تشبه الملاك، تقول له إن زمن الظلم انتهى، وإنها تختلف عن كل ما مضى، تعده ببيتٍ دافئ، وأمانٍ عاطفي، وبأنها “مستقلة”، لا تنتمي لأي فئة أو مصلحة، فقط تبحث عن شريك صادق، كان يضحك من داخله، لكنه يتبعها.. حتى بات يؤمن أن النساء في حياته يشبهن الفصول: الأولى كانت شتاءً، باردة وناعمة وصامتة، والثانية ربيعا يزهر بالكلام ويذبل بالفعل، أما هو فظل عالقا بينهما، كخريف لا ينتهي.. ربما لهذا كان صوته لا يسمعه أحد، ووجوده لا يزعج أحدا، وغيابه لا يُربك جدول يوم أحد، كان قد وصل إلى نقطة لا ينتظر فيها شيئا من أحد، كل شيء فقد بريقه: الحب، الوطن، حتى نفسه، لكن الحياة، بمهارتها في السخرية، لا تتوقف عن اختبار القلب الذي يظنّ أنه لم يعد صالحا للمعارك.
كان كل شيءٍ حوله يعيد نفسه: الخطابات، الشعارات، الملامح، وحتى الخيبات، كأن المدينة تُعيد بثّ نفس الحلقة القديمة من مسلسلٍ لا نهاية له، ومع ذلك، ظل يمشي، لا لأن في الخطى أملاً، بل لأن التوقّف صار أكثر إرهاقا، وكان في داخله شيء يقول: لا جديد سيأتي، فكل الطرق مأهولة بالمألوف، وكل الوجوه مستعارة.. لكن الحياة، كعادتها، كانت تخبئ استثناءً صغيرا، لا يُعلن عن نفسه، ولا يطرق الأبواب بقوة..
في أحد الأيام، عاد إلى بيته بعد يومٍ عملٍ كُتب على وجهه بالبؤس، لم يكن ينتظر شيئا خلف الباب سوى الظلمة والصمت، لكنّه وجد امرأة جديدة في انتظاره، بشعرٍ أسود وملامح ناعمة، وقفت كأنها استثناء، وقالت له بصوتٍ يشبه المطر: “أنا لا أعدك بشيء، فقط أعطني ثقتك، وسأصنع لك وطنا صغيرا“.
نظر في عينيها طويلاً، ، وفي داخله صوت قديم يتمنى التصديق، لكنّه لم يكن ذاك الرجل القديم، ثم أطفأ النور، وأدار وجهه نحو الجدار، وقال بصوت خافت يشبه تنهيدة خيباته: “كفاكنَّ كذبا.. لقد امتلأ قلبي بالوعود، حتى لم يعد فيه مكان للنبض“.
لم يكن بحاجةٍ لمزيد من الكلمات، فقط فتح الباب، كمن يُخرج نفسه من غرفة ضيقة في ذاكرته، وخرج إلى الشارع، كانت الجدران مملوءة بملصقات المرشحين، كل واحدٍ يعده بما وعدته به امرأة يوماً ثم اختفت
ضحك بسخرية مرّة، كأنما يعبث به الزمن نفسه، وقال:“حتى الوجوه باتت تتكرر كأنها وجوه أشباح تائهة في صحراء الوعود، وحين تفتش عن الحقيقة، تجد صدى كاذباً يتردد بين جدران الوهم، في الحب وفي السياسة، كثيرة هي الوجوه، لكن صمت الخيبات واحد، والألم هو الوعد الوحيد الذي لا يخلف“.
لم يستطع أن يترك ذلك الصوت يمرّ مرور الكرام، فتابع خطواته في الشارع، وهو يشعر بثقلٍ داخلي لا تزيله الكلمات، ويردد مع نفسه: “يا لغبائي، حين اعتقدتُ أن الحبّ يُقاسُ بكمية التوسل، وأن الركوع على أعتاب القلب المُغلق قد يُعيد فتحه يوما، كنتُ أظن أني فارسُ الحكاية، لكنها كانت تكتب النهاية“.. ثم توقّف للحظة أمام نفسه، سائلاً بمرارة: “هل تستحقُّ كل هذا الانكسار؟ كل هذا الانحدار من كرامتي؟“.. ضحكت نفسه، ساخرةً منه، وأجابت بلسانها الذي حفظ مرارة الخذلان: “أما فهمتَها حين لمّحت بأنها أفضل منك؟“
فلمَ يا قلب.. توسّلتَ لمن رأت فيك ظلاً، لا وطنا، وجعلتَ من كيانك مهزلة، من أجل ابتسامةٍ لم تكن لك؟ ونسيتَ أن الكبرياء حين ينكسر، لا يُصلحه حُبٌّ مزيف.. دعها تمضِ،فالنهايات ليست دائما خسارات.
وفجأة، أدرك أن قلبه توسّل لمن لم تراه سوى ظلاً، لا وطناً، وجعل من كيانه مهزلة من أجل ابتسامة لم تكن له، نسي أن الكبرياء حين ينكسر، لا يُصلحه حبٌ مزيف.. فأغمض عينيه، وقال لنفسه بهدوء مُتعب: “دعها تمضِ، فالنهايات ليست دائما خسارات“.
لم يجد أمامه سوى المشي، لا لأنه يؤمن بأن الخطى ستقوده إلى خلاص، بل لأن التوقف كان أثقل من أن يحتمله، فمشى متمردا كما هو، حاملاً على كتفيه وطناً يشبهه، وطناً يشبه وعدا لا يُنجز، يسير في طريقه دون أن يلوي على شيء، فكان يمرّ بين الوجوه كمرور الغيم فوق مدينة عطشى: لا يُمطر، ولا يعد بشيء، وفي كل زاوية، كان كل شيءٍ يعيد نفسه: الخطابات، الشعارات، الملامح، وحتى الخيبات، كأن المدينة تُعيد بثّ نفس الحلقة القديمة من مسلسل لا نهاية له.. توقف قليلاً أمام ملصقٍ لشابٍ أنيق يبتسم بثقة ويعد بـ”الكرامة والتنمية”، همس في نفسه: “هذا الوجه يشبهها، حين قالت لي: سأمنحك حياة لا تشبه شيئا قبلك، ثم مضت، وتركتني أعدّ خساراتي كموظفٍ في أرشيف الوطن”.
كان وجهه لا يحمل الغضب، بل إرهاقاً عميقاً، تعبَ من عالم لم يعد يفرق بين الحلم والوهم، بين الوطن والعاطفة، وقف عند الرصيف، أخرج سيجارة من جيبه، أشعلها بلا رغبة في التدخين، بل ليشاهد شيئاً يحترق أمامه دون مقاومة، ثم همس بصوت خافت، كأنه يبوح لسكون الليل: “كلهم وعدوني بمستقبل أفضل، هي، والمرشّح، والدولة، وحتى الشعراء، لكن وحده الليل ظلَّ وفيّا، يأتي كلّ مساء، دون أن يعد بشيء“.
في الزاوية ذاتها التي اعتاد الوقوف عندها كل مساء، حيث تناثرت ألوان الوعود على جدران الحي الملطخة بملصقات المرشحين، مرَّ طفل صغير يحمل في يده بالوناً أحمر،توقّف أمامه للحظة، عيونه براءة لا تعرف المكر، وسأله ببساطة: “يا عم، ما معنى الوعد؟”
نظر إليه طويلاً، ثم إلى البالون، ثم إلى تلك الجدران التي تكدّست عليها الأكاذيب والوعود الزائفة، وفكّر في عدد المرات التي علّق فيها قلبه على وعودٍ حلّقت في السماء فقط لتختفي في العدم، تنفّس بعمق، وأجابه بصوت هادئ يشبه الحكمة المتعبة: “الوعدُ يا صغيري، هو شيءٌ يُملأ بالهواء، ثم يُطلق في السماء، فنظلّ نُحدّق فيه حتى يغيب“.
ابتسم الطفل، وركض مبتعدا ببالونه، أما هو، فجلس على حافة الرصيف، نزع حذاءه، وترك قدميه تلامسان إسفلت المدينة الساخن، كأنّه يريد أن يتأكّد أن الأرض ما تزال هنا،حتى لو غابت كل الأحلام، ثم نظر للسماء، لكنه لم يسألها شيئا، فلم تعد لديه أسئلة، بل أجوبة لا يطلبها أحد،أشعل سيجارةً لم تَعد تسكته كما كانت تفعل، وقال لنفسه بصوتٍ خافتٍ كأنه صدى وطن بأكمله: “أنا آخر مواطن يؤمن أن الشمس قد تخجل من قسوتها يوما، وأن البلاد ستعتذر، ولو مرّة، لرجلٍ أحبّها دون مقابل“.
ثم سحب نَفَسا طويلاً، ونهض ببطء، كأنّه ينهض من داخله بعد غياب طويل، عاد يمشي، ليس إلى بيت يأويه، ولا نحو حبيبة تنتظره، بل نحو نفسه، تلك الذات التي نسيها في زحمة الوعود والخيبات، وها هو يحاول أن استعادتها، ولو بعد فوات الأوان.. وفي آخر الليل، حين سكنَ كل شيء من حوله إلا قلبه، صعد إلى السطح، ذلك المكان الوحيد الذي لا يُحاسبه أحد على صدقه، ولا يُطالب فيه بتمثيل دور، وجلس تحت سماءٍ لا تعده بشيء، حدّق طويلاً في العتمة تلتهم الأفق، كأنه يحاول أن يلمح ملامحه القديمة التي غابت عن بصره طويلاً، ثم تنفّس ببطء، كمن يُطفئ شمعةً لا تخصّه،وقال بصوتٍ بالكاد يسمعه الهواء: “لا أريد أكثر من حياة لا تشرح نفسها، لا حبٍّ يُشبه الإعلانات، ولا وطنٍ يتحدّث بلغةٍ ليست لغتي، أريد فقط.. أن لا أنتظر شيئا، وأن لا أخاف من لا شيء“.
وابتسم، تلك الابتسامة التي لا تقول: “أنا بخير“، بل تقول: “لقد مررتُ بكل هذا، وما زلتُ هنا“.
ثم أغلق عينيه، كأنه يبحث عن وطن مؤقت في عمق النوم، حيث لا تُطلب جوازات سفر ولا يُقطع التيار، مكان لا تحكمه خيبات اليقظة ولا قسوة الواقع.. فنام، ليس لأن التعب قد انتصر، بل لأن الخيبة تراجعت قليلاً، فأصبح بوسع قلبه أن يستريح ولو للحظة، وفي الخارج، كانت المولدات تئن بصمتها المعتاد، وبغداد، كما هي دائماً، تنفض عن كتفيها غبار الحنين، وتواصل طريقها بلا توقف، وكأن شيئاً لم يكن.