23 ديسمبر، 2024 3:40 م

رفع المصاحف … فتنة غيرت مسار التاريخ

رفع المصاحف … فتنة غيرت مسار التاريخ

في كل أحداث تاريخنا الإسلامي الخطيرة والمحورية التي عصفت وتلاعبت بمصير الأمة ، كان هنالك خندقين يقفان على طرفي نقيض في رؤاهما وتوجهاتهما الفكرية والعقائدية ، يدوران في فلك صراع التبس على الكثيرين فيه التمييز بين الحق والمبادئ والقيم السامية ، وبين الباطل والزيف والتدليس … فأنتجت هذه الصراعات ضبابية فكرية وعقائدية لازال يعاني منها الفكر الإسلامي ، وشكلت مادة دسمة ينهل منها كل الطواغيت الذين جثموا على صدر هذه الأمة ، يستمدون شرعيتهم من ما آلت إليه خواتيم هذه الأحداث ونتائجها … فكانت معركة صفين عام 37هجرية وأحداثها من اخطر واهم المفاصل الحيوية التي أطاحت بما يعرف بالحلول الجذرية وفتحت الباب على أنصاف الحلول … هكذا أرادها (عقلاء الأمة ) …  كما عبر عنهم طه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى ) … ولم يخبرنا مبتكر هذا المصطلح النبيل ، أي عقلاء للأمة في حضرة علي بن أبي طالب (ع) .. سيد العقلاء بعد رسول الله (ص) ، ووصيه  وباب مدينة علمه ، ومستودع رسالته العظيمة … لكن المفارقة الكبير التي حدثت بعد أربعة عشر قرن على هذه الحادثة التي غيرت مسار تاريخ امة بأسرها وقادتهم نحو مصير مجهول فتح باب الشقاق والنفاق والتمرد على السلطة الشرعية التي اقرها مبدأ شورى سقيفة بني ساعدة بعد وفاة رسول الله (ص) … اطل علينا الأزهر الشريف ليفند دعوى العقلاء ويعترف بحقيقة كانت مغيبة قسرا عن الوعي الجمعي للأمة الإسلامية ويميط  اللثام عن واقعة تاريخية تلاعبت بها الأهواء والميول وضلل فيها الكثيرين من أبناء هذه الأمة ،  وتشتت بهم الطرق ، بفعل الأقلام المأجورة والمطبلين لسلاطين الظلم والجور …. ليكون بيان الأزهر الشريف القول الفصل الذي لا لبس فيه أو تشكيك في ما جرى من أحداث في واقعة صفين … لا كما يراها ابن تيمية في كتابه منهاج السنة الذي قال فيه … (إن حرب علي على معاوية كان رأيا راه ، ليطاع به ، وقد خطأه فيه الصحابة والتابعون ، وحتى الذين كانوا معه وغيرهم ، ثم انه ندم على ذلك ، ولو كان لا يجهل عواقب الأمور لما فعل )…انتهى كلام ابن تيمية …   وقد جاء بيان الأزهر ردا على دعوة الجماعات الإسلامية في مصر أنصارها للتظاهر في ميدان رابعة ، والقيام برفع المصاحف ليكون الحكم لله وكتابه وليس للرئيس السيسي في دعوة لإسقاطه ، وجاء فيه …( إن الدعوة إلى رفع المصاحف في الثامن والعشرون من شهر تشرين الثاني  ليست إلا إحياء لفتنة كانت أول وأقوى الفتن التي قسمت ظهر امة الإسلام ومزقتها وما زالت أثارها حتى اليوم ، الفتنة نائمة لعن الله من أيقضها … وأوضح الأزهر في بيانه ، ان هذه الدعوة ليست إلا اتجار بالدين ، وامعان في خداع المسلمين باسم الشريعة والدين ودعوة إلى إراقة الدماء قائمة على الخداع والكذب … ووصف دعوة رفع المصاحف … ( بأنها دعوة إلى جهنم ) …

  لما تولى الإمام علي بن ابي طالب (ع) الخلافة سنة 35 هجرية ، بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان (رض) ، رفض معاوية بن أبي سفيان الذي كان واليا على الشام في حينها البيعة ، بحجة المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان وأنه ولي دم الخليفة المقتول ، فسار إليه الإمام علي (ع) … بجيش كبير نحو الشام وكان اللقاء عند صفين ، حيث كانت ساحة لحرب دامت تسعة أيام قتل فيها من الطرفين زهاء السبعون الف شخص ، وحين أوشكت هذه الحرب على نهايتها والت الامور لصالح جيش الامام علي (ع) ، جاء دور المكر والخديعة والتضليل ، فاشار عمرو بن العاص على معاوية برفع المصاحف والدعوة الى تحكيم كتاب الله بين الطرفين … كما ذكر الطبري في كتابه (تاريخ الامم والملوك الجزء الخامس) … ( مّا ان رأى معاوية بن أبي سفيان انتصارات جيش علي على جيشه، وقد قرب منه القائد مالك الأشتر مع مجموعته، دعا عمرو بن العاص إلى خطّة للوقوف أمام هذه الانتصارات … فقام عمرو بن العاص بخدعة ، حيث دعا جيش معاوية إلى رفع المصاحف على أسنّة الرماح ، ومعنى ذلك أنّ القرآن حكم بينهم، ليدعوا جيش علي إلى التوقف عن القتال ويدعون علياً إلى حكم القرآن … وفعلاً جاء زهاء عشرين ألف مقاتل من جيش علي حاملين سيوفهم على عواتقهم ، وقد اسودّت جباههم من السجود ، يتقدّمهم عصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج فيما بعد ، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين … يا علي ، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيت، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان ، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم … فأجابهم علي … ويحكم أنا أوّل مَن دعا إلى كتاب الله ، وأوّل مَن أجاب إليه … فقالوا … فابعث إلى الأشتر ليأتيك … وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله ، فأصرّوا على رأيهم، وكان أمير المؤمنين في هذا الموقف أمام خيارين فإما المضي بالقتال ، ومعنى ذلك أنّه سيقاتل ثلاثة أرباع جيشه وجيش أهل معاوية… وإما القبول بالتحكيم وهو أقلّ الشرّين خطراً… فقبل علي بن ابي طالب التحكيم وترك القتال مكره ) … تركه مكرها لا نادما كما ذكر ابن تيمية… وقد اورد الشريف الرضي في كتابه (نهج البلاغة) ، خطبة للامام علي (ع) ، بعد التحكيم قال فيها … عليه السلام … ( الْحَمْدُ للهِ ، وَإنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ ، وَالْحَدَثِ الْجَلِيلِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللهُ ، لَا شَرِيكَ لَهُ , لَيْسَ مَعَهُ إِلهٌ غَيْرُهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه .. .أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ المجرب تُورِثُ الْحَسْرَةَ ، وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ ، وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ في هذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي ، وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخزُونَ رَأْيِي ، لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ ! فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ ، وَالْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ ، حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ ، وَضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ ، فَكُنْتُ وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ :

أَمَرْتُكُمُ أَمْري بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى    ….     فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلاَّ ضُحَى الْغَد

ألا إنّ هذين الرجلين ، عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري ..ـ اللذين اخترتموهما حكمين ، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحييا ما أمات القرآن ، وأماتا ما أحيى القرآن ، واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله ، فحكما بغير حجّة بيّنة ، ولا سنّة ماضية ، واختلفا في حكمهما ، وكلاهما لم يرشد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين ، واستعدّوا وتأهبوا للمسير إلى الشام … وقد ذكر ابن شهر اشوب في كتابه ( مناقب ال ابي طالب الجزء الثاني )… (فلما اجتمعا قال عمرو يا أبا موسى أنت أولى ان تسمي رجلا يلي أمر هذه الأمة فسم لي فاني أقدر ان أبايعك منك على أن تبايعني.
قال أبو موسى: اسمي لك عبد الله بن عمر فيمن اعتزله
فقال عمرو… فأني اسمي لك معاوية بن أبي سفيان وفي رواية قال عمرو… انهما ظالمان وان عليا آوى قتلة عثمان وان معاوية خاذله فنخلعهما ونبايع عبد الله بن عمر لزهادته واعتزاله عن الحرب.
فقال أبو موسى نعم ما رأيت قال… فاني قد خلعت معاوية فاخلع عليا إن شئت وإن شئت فاخلعه غدا فإنه يوم الاثنين قال… فلما أصبحا خرجا إلى الناس فقالا… قد اتفقنا فقال: أبو موسى لعمرو: تقدم واخلع صاحبك بحضرة الناس…
فقال عمرو: سبحان الله أتقدم عليك وأنت في موضعك وسنك وفضلك مقدم في الإسلام والهجرة ووفد رسول الله ( ص ) إلى اليمن وصاحب مقاسم أبي بكر وعامل عمر وحاكم أهل العراق فتقدم أنت فقدمه
فقال أبو موسى… إنا والله أيها الناس قد اجتهدنا رأينا لم نر أصلح للأمة من خلع هذين الرجلين وقد خلعت عليا ومعاوية كخلع خاتمي هذا
فقال عمرو: ولكني خلعت صاحبه عليا كما خلع وأثبت معاوية كخاتمي هذا وجعله في شماله ) … ان هذه المسرحية الهزلية التاريخية ، التي أسست لنمطية فكرية قادت العالم الإسلامية لقرون طويلة في ظل ديماغوجية ، غيبت العقل الإسلامي وضللته وقلبت الموازين لديه … كانت مبادرة الأزهر الشريف إضاءة والتفاتة جوهرية وضرورية لوضع النقاط على الحروف في جزء مفصلي ومهم من تاريخنا ساهم وبشكل كبير في بلورة الحاضر المليء بالتقاطعات والاختلافات الفكرية والعقائدية ، كما أشار بيانه ، وبغض النظر عن الدوافع التي وقفت من وراء إصدار هكذا بيان والتي كان الأوضاع السياسية والأمنية الحساسة التي تمر بها جمهورية مصر ألان هي السبب ، إلا انه شكل تحول مهم وسابقة جيدة تصدر من مثل هكذا مؤسسة دينية بوزن الازهر ، يمكن ان تعمم لإعادة صياغة التاريخ الإسلامي بأكمله ، مما يساهم في ازالة الكثير من الالتباس والضبابية التي شابت قناعات الكثيرين من أبناء هذه الأمة.