29 ديسمبر، 2024 7:43 م

رشيد حاج عبد على دروب الشعر – قراءة في ديوانه الأول “حلم ليلة خوف”

رشيد حاج عبد على دروب الشعر – قراءة في ديوانه الأول “حلم ليلة خوف”

رشيد حاج عبد شاعر شاب صاعد في الساحة الأدبية المحلية ، يحلّق في فضاء الشعر ، ويعيش على إيقاع الحروف . وهو من مواليد قرية مصمص في المثلث ، ويقطن في حيفا عروس البحر ، حاصل على لقب أول في علوم الحاسوب من الجامعة العبرية في القدس ، ويعمل كمهندس برامج .
إنه شغوف بالأدب وعاشق لسحر ووهج الكلمة ، ويكتب القصيدة بلونيها القديم والحديث إلى جانب القصة والخاطرة الأدبية . نشر كتاباته في الصحف الورقية الصادرة في بلادنا ، وفي مدونته ، وفي المواقع الالكترونية المختلفة . وفي العام الماضي صدرت باكورة أعماله الشعرية بعنوان “حلم ليلة خوف” عن دار “راية” للنشر، في حيفا .
يضم هذا الديوان ، الذي جاء في 150 صفحة من الحجم المتوسط والورق الصقيل ، نصوصاً شعرية وقصصية تنطوي على كثير من الموضوعات والأغراض الشعرية ، التي تتوزع وتتباين بين الوجودي الإنساني والسياسي والاجتماعي النقدي . وهي نصوص تضج بالحركة والغرابة والدهشة والمفارقة الدالة والتلقائية الآسرة وواقعية التعبير ، وتوحي بالهاجس الفلسفي والموقف الفكري ، وتحمل الكثير من الدلالات والإشارات ، وتنتقد الواقع العربي الآسن وما فيه من خلل ، كما تتفاعل مع الحدث السياسي ، وتتناول بروح نقدية ساخرة بعض العادات والظواهر الاجتماعية السائدة في مجتمعنا  .
قصائد الديوان تشيع في نفوسنا الاطمئنان إلى أن شاعرية جديدة تؤصل نهجها في المشهد الشعري الشبابي الفلسطيني الراهن . وكما يقول الشاعر الأديب الفلسطيني أحمد حسين في تظهير الديوان :” رشيد حاج عبد ، يمشي في غربة المدينة التي تشبه الحافلة ، والشارع الذي يشبه الغيبوبة ، مترنماً بالشعر المفعم بوجدانية الرفض والتحدي الإنساني . شعر لا يهرب من المرحلة الوحشية إلى سكن من النعاس الحريري يمارس فيه إنسانيته وحيداً ، بل ليدوس مزاعمها بسورة الغضب والتصدي . باكورة من شعر المعاناة والوعي المكافئ ، قد يخلو من بعض الكبوات ، ولكنه فيه من التألق أيضاً ، بشرى بشاعر جديد “.
إذا تتبعنا قصائد ديوان “حلم ليلة خوف” نتلمس خصائص رشيد حاج عبد ، فكره ، فلسفته ، رؤيته ، نزوعه الإنساني ، التزامه الفلسطيني ، إيمانه بتراث أمته ، وتطلعه إلى مستقبل مشرق ومضيء لأبناء شعبه وأمته على امتداد الوطن العربي ، ولا نحتاج لاكتشاف ذلك إلى جهد وعناء . نراه ينفث غضبه ونقمته على واقع البؤس والرداءة ، ويصور معاناته الشخصية بصورة فنية واضحة ، ونستشف صوره الشعرية  المستوحاة من مأساة الذات ومن التجريد الحلمي الذي يصبو ويرنو إليه ويبتغيه .
يفتتح رشيد حج عبد ديوانه بلوحة نوستولوجية تستحضر المأساة الفلسطينية ، وتعيد للذاكرة ما حل بأبناء شعبنا من تشريد وتهجير ونفي ، فيتغير الحال ونصبح  نحن المقيمين والمنزرعين في أرضنا ، غرباء في الوطن ،  وننتظر نكبة أخرى :
صور ، بقايا ذاكرة
تأكل الغبار والأرق
وتكبر
حين يموت أصحابها
تبدلهم
وننسى
كيف تغيرت صورنا
لنصير غرباء عنها ..
يا حزن المساء تمهل هذه الليلة
هناك متسع لنكبة أخرى
ورشيد على ثقة تامة ، ويحدوه التفاؤل والأمل بعودة المنفيين والمشردين والمهجرين في بقاع الدنيا إلى ربوع وطنهم القديم / الجديد ، مهما طال الغياب والبعاد ، فيقول في قصيدة “حالة الطقس في الحانة” :
عائدون نحن متى يشاء
عندما يشاء الرب عائدون
إلى وطن قديم
إلى وطن جديد
ويناجي رشيد حيفاه المنتصبة على سفوح جبال الكرمل ، التي بقيت صامدة وشامخة على شفة الخليج ولم ترحل ، فيتنسم هواءها ويغتسل بمياه ينابيعها :
إلى حيفا رحيل العمر
في دمها نشيد دائم الزرقة
حواريها دروب الورد للأرض
وحيفا من هنا وهناك ما زالت
فلم تبدأ ولم ترحل
وتغسلني بينبوع يجول الكرمل
الغافي على صدري
وتحت اللون ألوان
لمن يبحث
صنوف العشق أنواع
إلى الواحد
وحيفا قوسها قزحي
أردى القلب في مقتل
وارتباط رشيد بالمكان يتجلى في قصيدة “المدينة لا تنتظر أحداً ”  وهي حيفا ، التي تختصر كل مدائن فلسطين التاريخية ، وتشكل وجوداً وتاريخاً وانتماء :
المدينة لا تنتظر أحداً .
المدينة مصراع باب قديم بلا ذاكرة
لا دموع تراق لذكرى مهاجرة ،
شجرة السرو غارت بها
أحرف عاشقين لتفسح لي مرحلة
المدينة لا تنتظر أحداً
ترقص أغنيات جنازاتها
تخلط أمنياتي بحاراتها
وتحاول مد الطريق لمستقبل
… حفرته شوارعها المائلة
وفي قصيدة “رسالة حب إلى ريني حبيش ” تبكي روح رشيد وتدمع عيناه حزناً وأسى على حبيش ، الذي” قتلته عيون الحساد وهم كثر ” فرحل ولم يعد :
رحلت…
بكيت رحلت وما عادت لي
وهذيت شهاباً يصلي في حلمي
يرجو ماء من حمم
لم أبك في حلمي وقلت:
“عصفورتي لا تحزني
غابت عيون عن عيون
يوماً تعود ولا تعود “
وفي الذكرى الخامسة والثلاثين على رحيل الشاعر الفلسطيني راشد حسين ، ابن قريته العزلاء ، الذي يخاف قصائده ، يكتب إليه رسالة غير معلومة المصدر ، يشير من خلالها على حادثة تسجيل اسمه في بطاقة الهوية ، حيث أخطأت موظفة الداخلية القادمة الجديدة من روسيا بكتابة الاسم ، الذي أراده أهله أن يكنى فيه وهو “راشد ” فكتبته بالياء وتحول إلى “رشيد” :
لا لم يسموني باسمك
فالموظفة الجديدة من بلاد
رفيقنا لينين لا
تدري لماذا لا تبدل كسرة
بالياء يا راشد
فهل سامحتها ؟
وأنا أخاف قصائدك
كي لا أفيق على سرير
يوجع العضلات أو
يحيي كلسترفوبيا
الظلمات يا راشد
فهل سامحتني ؟
ويرثي رشيد والده الذي توقف نبض قلبه بين لقمتين وذهب بعيداً ، لكنه يتسلل في الليل إلى أحلامه ، بعد أن كان يعتمر الكوفية الفلسطينية وينادي من اغتصبوا وطنه وسلبوا أرضه بالخواجات ، فيقول بصوت متهدج حزين :
لم يودعني حين ذهب
فقط توقف بين لقمتين
ينظر إلي ويومئ
لا تقلق
سأكون بخير
أو ربما لا
ستكون أنت بخير إذن
خرجت ولم يعد
تسلل بهدوء مثل الزمن
الباب مغلق
يشعر بي من خلف الباب
يشخر بصوت عال
يزجرني حين أغير عن “أخبار الوطن”
أنسحب من أحلامه
لأضبطه متسللاً  إلى أحلامي
وفي “حلم ليلة خوف” التي تحمل اسم الديوان ويهديها إلى شهداء الربيع العربي ، الذين سقطوا في ساحات الثورة وميادين النضال والكفاح دفاعاً عن الحرية والكرامة والمستقبل ، يصوررشيد الحالة العربية الراهنة ، حيث القمع والاستبداد والظلم والمكابدة اليومية في ظل أنظمة القهر والكفر والعهر ، ويتمنى أن يظل نائماً بين حقبتين ، حالماً بسقوط الطغيان والطاغوت ، ليكتب مجلداً  يستهله ب”جادك الغيث” :
يا ليتني من فتية الكهف
سأبقى نائماً
بين حقبتين لأحلم
بانهيار الطاغوت
وجنات تجري من تحتها أنهار
الدماء
يا ليتني لحن أخير لعازف أطرش
يسلي روحه المرهقة للمرة الأخيرة
يتلوها انتظار عند حدود السرمد
لصوت البوق كي يختتم المشهد
ويكرس رشيد عدداً من قصائده للوطن الغالي الذي يتماهى مع ملامحه وقسماته كالحبيبة ، بكل ما يجسده من انتماء وهوية والتصاق بتراب الأرض والجذور الكنعانية ، من هذه القصائد  “يا بلدي ، إهداء إلى أشجار بلادي ، حبر على وطن ” وسواها ، وفيها يظهر إحساسه الصادق النابض وعشقه الوطني لبلاده ، التي تسكن الروح والفؤاد ، ولنسمعه يقول بكل حب وصفاء وعمق رؤية :
هذي بلدي تنتظر
أهلاً لها
عند الشفق
أرضي ولا
أحلم بغير هوا سفوح جبالها
أرضي ولا
أقبل بأن
تذوي بأعدائي
ربوع تلالها 
ويعود رشيد ليرثي أباه مجددا ، فيستحضر ملامح وجهه الذي “أنار دربه في وهاد الأنبياء ، راعياً ووالداً ومرشدا” وذلك في قصيدة “أبي” العمودية ، المغموسة برنات الحزن والأسى ، التي تعكس مشاعره النبيلة وبره بوالده ،  وحجم الفقد الذي فجع فيه ، مستذكراً مزاياه ومآثره الإنسانية ، ومعبراً عن شدة الشوق والحنين له ، فيقول :
اشتقت صمتاً قد سقاني كأسه      والطيبة المنثورة في وجه العدى
ارحم إلهي والدي وادخله جنـ      ات    النعيم    خالداً      مخلداَ
رشيد حاج عبد شاعر يشتبك في نصوصه مع الذات المتشظية والوجع الفلسطيني والهم الوطني والسياسي والإنساني ، والميزة الجلية في ديوانه ” حلم ليلة خوف” هي البعد الرؤيوي والنفسي في تجربته ، وتلك الرؤية المشبعة ثقافة وعمقاً ، وإيحاء يتولد ويتلون حدساً وحساً مرهفا وإيقاعاً موسيقياً ، واستحضار التاريخ العربي وشخصياته ، فضلاً عن موضوعاته ومضامينه ذات الشحنات التعبيرية المعبأة بالخيال الجامح والعاطفة الوطنية والتجربة الحياتية .
وغني عن القول ، أن قصائد رشيد تتفاوت فيما بينها في المستويات والجماليات والاشراقات الفنية ، وتأتي بدرجات مختلفة في التعبير اللغوي والبلاغي ، والتماسك الفني ، والإيقاع الموسيقي الداخلي ، منها ما هو ناضج وعميق ، شكلاً ومضموناً ، ومنها ما هو ضعيف ويحتاج للمزيد من التدقيق والتمحيص والعناية وإعادة النظر ليرقى لمستوى الإبداع الجميل . أما من ناحية الأسلوب الكتابي فمعظمها يعتمد القصيدة الحديثة المتحررة من الوزن والقافية ،و تميل للغموض والتكثيف الشديد ، والبعض الآخر منها يعتمد البحور الشعرية  ، ومثال على ذلك قصائده ” ومضات من بحر الكامل ” و”عاشق أندلسي ” و” أبي” .
وفي النهاية نحن أمام تجربة شعرية تتجاوز الإنشاد في وعيها ، والتعبير إلى تحريك السائد في الذات ، والرغبة بالتغيير،  والحلم بالحرية . ولا شك أن رشيد حاج عبد يمتلك موهبة قادرة على التطور والتجدد والإبداع  . فإلى الأمام ، مع دوام العطاء والمزيد من النمو والتألق .