18 ديسمبر، 2024 10:58 م

رسالة من على بوابة السجن

رسالة من على بوابة السجن

بين شد وجذب وتوتر وهدوء، وﻷنه لم يصل الى ما يرضي قناعته، فقد قرر رجل اﻷمن الخمسيني، الجالس على الكرسي، الدوار والهزاز، إحالة قضيتي، أنا الملقب أبو داود الى إحدى المحاكم الخاصة، التي تعدٌ قراراتها ملزمة، حيث لا تقبل الطعن أو التمييز أو النقض، وبالتالي سوف لن توافق على تكليف أي محام للدفاع عمن يسمونه بالمتهم، ولا يحق كذلك لهذا المتهم (والذي هو أنا في هذه الحالة) بالإطلاع على ملف القضية. أمّا من حيث توقيت إجراء المحاكمة المفترضة فسيتوقف ذلك على الجهة المنوط بها إجرائها. في الحالات الشبيه، فاﻷمر سيستغرق بين سنتين الى ثلاثة وربما أكثر من الإنتظار، حتى يأتي الدور لأقفَ أمام المحكمة بتهمة ……. . عند هذه النقطة توقف طويلا الرجل الذي أشرف على التحقيق معي أمام الوصف الدقيق والمفترض لطبيعة الإتهام الواجب توجيهه ضدي، طالبا من الحارس الذي يقف وراء الباب بإقتيادي وإرجاعي الى ذات الغرفة التي ضمت جنباتها وحيطانها مختلف الشعارات، ريثما يصل الى صيغة مقنعة، تبين اﻷسباب الموجبة التي تستدعي إحالتي الى المحكمة الخاصة.
ﻷن التحقيق قد انتهى الى هذا الحد، فقد تمَّ بعدها إيداعي غرفة النوم أو باﻷحرى غرفة السجن، أسوة بالآخرين من المتهمين، يقول أبو داود. إثر ذلك لم تعد لدي القدرة على التحكم والسيطرة بسبب ما لاقيته من تعب وإرهاق، على مدى الساعات الطويلة المنصرمة حتى غطتُ في نوم عميق. في صبيحة اليوم التالي على ما أعتقد، وبالإعتماد على قوة الضوء الصادرة من الكوة أو الفتحة الصغيرة المعلقة في أعلى أحد الجدران وإتجاهه، والتي يمكن من خلالها تقدير الوقت، تمَّ إيقاضي من قبل شخص آخر لا يقل قصر قامة عن رجل اﻷمن السابق، الذي كان قد اقتادني أول مرة الى غرفة التحقيق، موجها أوامره لي بأخذ كل متعلقاتي، ما عدا تلك المخطوطة التي حيَّرت المحقق، حيث بقي (سيادته) محتفظاً بها، والتي ستشكل كما قيل لي دليل إدانة ضدي، ستضاف الى أدلة أخرى، وستُجمع كلّها في إضبارة واحدة، ليتم نقلي حسب ما أخبرني به هذا الشخص الى مكان آخر، لم يتم الكشف عنه، رغم عديد المحاولات التي بذلتها معه.
في هذه اﻷثناء، وبناءاً على ما تسرب من أخبار، من هنا وهناك، ورغم إتباعهم السرية والكتمان في تحركاتهم، وذلك إلتزاما بجملة من النصائح التي وُجهت اليهم من قبل مَنْ له تجربة في هذا المجال، وفي سبيل تحقيق ما يهدفون اليه، فلم تتوانَ عائلة أبو داود من بذل قصارى جهدها، على طريق إقتفاء أثر ولدها البِكرْ وفك أسره وإخراجه من السجن، إن استطاعوا الى ذلك سبيلا، الاّ انها فشلت في ذلك فشلا ذريعا، رغم توظيفها للكثير من العلاقات الشخصية، ووصولها فعلا الى العديد من المسؤولين، ممن لهم كما يُفترض حظوة وتأثير كبيرين لدى مَنْ بيده اﻷمر. وبذا وبعد أن نفضت يدها وفقدت عائلته اﻷمل، سيكون أبو داود قد التحق وكما تأكد لهم بمجموعة غفيرة، ممن جرى تغييبها.
بعد مضي سنوات عديدة على حادثة إعتقال وتغييب أبو داود، عُثِرَ في الغرفة التي كان قد أعتقلَ فيها أول مرة وعلى بابها من الداخل، الرسالة التالية: لست متأكدا إن كنت سأخرج سالماً من محنتي هذه، لكني وفي كل اﻷحوال، وكما الذين سبقوني في الكتابة ومن هذا الحبس أو سمّهوه ما شئتم، سأكون شاهد حق، وسأدوّن ماسمعت وما رأيت وما مرَّ بي وبغيري من أحداث، كنت قد عشتها وعاشها اﻵخرون، في ظل حكم مستبد، شديد القسوة والبطش، لا يفرق في قمعه بين قريب وبعيد، إن دنا أو كان قد فكَّر في مسِّ سلطة الباب العالي، وأعاهدكم أن أكون منصفا ما استطعت.
أعيد التأكيد، أنا غيدان أبو الراس والملقب بأبو داود (دعوكم اﻵن من قواعد اللغة وشروط الإعراب وما تفعله بلكلمات)، هنا في هذا المكان أو من هذا المكان الذي تَمَّ إيقافي أو حبسي فيه وعلى ذمة قضية عائمة، لم يردْ وصفها في الدستور ولا في القوانين المعمول بها أو في الحالات الطارئة، ولم يأت ذكرها كذلك حتى في مجموعة التعديلات التي كان يقوم بها، ما يسمى بمجلس قيادة….. ويمنح بموجبها لنفسه جملة من الصلاحيات الإستثنائية بين فترة وأخرى وكلما إستجد جديد.
أقول، وكردة فعل صاخبة على ممارسات وسياسات هذا النظام، بتٌ على قناعة تامة، بأنَّ جهودا جبارة ستبذل، في سبيل قطع دابره وبأسرع وقت ممكن، من أجل الحرية وإحداث التغيير الحقيقي ولمصلحة الشعب. في ذات الوقت وعلى الطرف اﻵخر، ولكي تستبق اﻷحداث، فإن خشيتي من أن تسعى جهات أخرى مشبوهة، ترتبط بشبكة من العلاقات الدولية المؤثرة، والتي لديها اليد الطولى في إحداث الكثير من التغيرات على مستوى العالم وفي رسم سياساته ومستقبله وبأساليب خبيثة. لذا فمن غير المستبعد أن يأتي زمان، سنُحكم فيه أو تُحكمون أنتم الذين ستأتون من بعدنا، تحت إرادة وإدارة مجلس آخر وتحت مسمى آخر، سيستمد (شرعيته) من قوة إحتلاله للبلاد والعباد. أو بقيام إنقلاب عسكري مدعوم من خارج الحدود، أو بكليهما معا. حيث سيشرعان، بإستخدام أقسى درجات البطش وصولا الى التدميرية منها، بحجة إنقاذ ما تبقى من أبناء الشعب اﻷعزل والمغلوب على أمره، بعد أن بلغ الفساد في مؤسسات الدولة مبلغا لا يمكن السكوت والتغاضي عنه.( عادة هكذا تكتب ديباجة الإنقلابات العسكرية أو لغة المحتل وأذنابه)
ثم يمضي أبوداود مكملا رسالته: وقد يأتي نظام حكم أكثر فسادا وأكثر تخلفا وجهلا وأمية ممن سبقه، ليقود البلاد تحت سلطة اﻷحكام العرفية، بذريعة الركون الإضطراري الى فترة طوارئ غير محدودة، وما تقتضيه كذلك المرحلة الإنتقالية التي يعيشها البلد تارة، وبذريعة ما يسمونه بالخيار الديمقراطي الذي يتطلب المزيد من التضحيات والصبر تارة أخرى. واﻷهم من ذلك هو التحجج والتمسح بمخافة الله وضرورة الحفاظ على بيضة الدين من العابثين به.
بعدها سيواصل أبو داود ما كتبه، متسائلا: لا أعرف متى ستنتهي هذه الحُقب المؤقتة والإستثنائية، إبتداءا بما جرت تسميته بمجالس قيادة الثورة وإنتهاءا بما يسمى بمجالس الحكم، مرورا بالديمقراطيات المزيفة وما سيرافقها وبما لا يدع مجالا للشك من إنتخابات مزورة، ستتم بكل تأكيد تحت جعجعة السلاح من الدول البعيدة، العابرة للقارات، ومن التهديدات القادمة من إحدى دول الجوار المدللة، أو بالتعاون بينهما وهذا إحتمال أرجح، عدا عن إتباع سياسة الشد الطائفي والتسلل من خلالها والتي ستمزق وحدة المجتمع إربا إربا. فضلا عن الدفع بإتجاه التمترس خلف ولاءات ومرجعيات دينية، تعود بعقلها ونمط تفكيرها الى أزمنة غابرة، سحيقة ؟ ولا ندري (متى نستريح من سماواتنا حيث لا ضجة حيث لا ريح)؟.
قبل أن تغادروا رسالتي هذه، تذكرت موضوعا آخر، ربما سيخفف من وطئة التوتر الذي قد تعانون منه في هذه اللحظات بسبب ما فات ذكره، واليكم إياه: ألم أقل لكم انَّ في حالة العزوبية التي كنت أدافع عنها بإستماتة واختلفت مع الكثيرين من أصدقائي بشأنها، بعض رحمة؟ فها أنا سأجابه وحدي مصيرا مجهولا، لا أعرف الى أين سيأخذني، وقد يكون بل أجزم، بأن هناك المئات بل اﻵلاف مَنْ هم على شاكلتي. أرجو أن لا تسيئوا الظن بي فهي ليست دعوة لرفض فكرة الإقتران باﻵخر، بل هي دعوة للتفكير العميق بمحموعة من اﻷسئلة المهمة والمصيرية، إذ كيف سنعيش بسلام وأمان، وكيف نطمئن على حقوق وسعادة مَنْ سيأتي من بعدنا؟.