رغم أنني غير واثق من وصول هذه الرسالة لك لأسباب لا يمكن معرفتها لكثرتها وتعدد مساربها، أجدني ملزما أن أوجه لك هذه الرسالة باعتباري قد عاصرت حقبا من الحكم البعثي بكل ملابساته وغموضه وويلاته ومراراته منذ بداية الستينات وانقلابكم الأسود على الحكم الوطني آنذاك وما عايشناه من ترويع مخيف على أيادي صبية الحرس القومي الأوباش، وما عانيناه مثلما بقية العراقيين من سوءات هذا الحزب الذي عمّد طريقه وما زال بالدم العراقي، لبشاعة ما ارتكب من جرائم، ولكوني أخاطب واحدا من أعضائه الذين كان يعول عليهم الحزب باعتبارهم الواجهة “الواعية” الوحيدة، رغم “تحفظنا على هذا التوصيف”، لأن الحزب كان موزعا الى شرائح وفئات عدة ولكل شريحة مهمة مناطة به، مثل فئة رجال الأمن القساة، وفئة المخبرين، وفئة القتلة من فرق اعدام وتصفيات، وفئة اعتبرها البعض الأكثر “وعيا” وهم المنظّرون والمثقفون والمنظمون لكوادر الحزب الذين قد يغايرون بقية الشرائح، رغم أنني غير مقتنع بهذا التقسيم، لأنني أضع الجميع في خانة القتلة والتصفويين، حتى وإن لم يرتكبوا جرائم، ولكنهم شهود اثبات، للفظائع التي اقترفها هذا التنظيم السادي بحق العراقيين بكل مكوناتهم، ورغم ذلك بقوا داعمين ومؤازرين ومدافعين عنه، وعن قائده الطاغية، وهذا بحد ذاته مشاركة للجرائم التي ارتكبت والخراب الذي حل بالبلاد والعباد، لأن الصمت مهما كانت مسوغاته، هو جريمة بحد ذاته.
ورغم ما حدث من زلزال حل بالبلاد وخلخل كل شيء بعد عام 2003، أجدني اراهن على أن البعض ممن أدعوهم “بمثقفي” الحزب الذين بقوا ملازمين له حتى لحظة اندحاره، بخلاف من تركه هاربا بجلده من لفحة السياط بعد أن بدأ الحزب يلتهم أبناءه “الغيارى”، لحفظ بعض ماء الوجه الذي لن يعفيهم عما مضى من أفعال، كلٌ وجرائمه، ودرجة
الضرر الذي تسبب فيه، لأن التاريخ لا يمحو من ذاكرة الناس ما ذاقوه من ويلات لا يمكن تصورها لحجم الفظائع التي ارتكبها القتلة.
هؤلاء البعض، وأنت منهم، قد يكون النبض العراقي لا زال يتحرك بدواخلهم، فتنتفض مروءتهم الغارقة في الوحل طيلة عقود الحكم الأسود، ليفتحوا منافذ الحقيقة ويكشفوا ما هو مخبوء وغير معروف، إلا لهم، ليكفّروا ولو بقليل من الانتماء للعراق، عن مواقفهم التي كانت تهلل للقتلة وتدافع عنهم وعن جرائمهم الرهيبة، وهم من أقرب المقربين لصاحبي القرارات التي أحرقت الأخضر واليابس، لأن العراق ليس عاقّا، ولم يكن كذلك طيلة تأريخه الممتد لآلاف السنين، ليبقي منافذه مشرعة ومغفرته واسعة، ولكن لمن يزيح عن ضميره الذي مسخه البعث وحوله الى سلعة رخيصة، الغبار الذي عادة ما يحيل المرء الى كائن ماسخ ومنزوع الاحاسيس والمشاعر، وأملنا أن يتحرك النبض العراقي المتبقي فيكم، ان كنتم صادقين بحب هذا الوطن الذي أثخنتم جروحه وأوغلتم في تلك الجراح التي ما اندملت يوما، وما زلتم توغروه قيحا ودمارا.
أعيد بك الى الوراء قليلا، يا سيد عزيز أو “ميخائيل يوحنا” وتحديدا في أواسط السبعينات، حينما كنت رئيس تحرير جريدة البعث سيئة الصيت “الثورة”، وهنا “مربط الفرس” كما يقال، لأن هذه الصفحة الكالحة هي واحدة من صفحات البعث التي لا عد لها والتي يمكن أن تشكل مجلدات من الخداع والنصب وخيانة الأمانة والقتل بأبشع صوره وملاحقة الأبرياء والاغتصاب لحرائر العراق والحركة الوطنية وحرق الناس وهم أحياء وتجنيد كل من هب ودب لنقل الأخبار الكيدية التي تفضي الى الإبادة وغيرها من صور الموت المجاني التي عادت طقوسا يومية لا يهنأ للقتلة بال إلا بهكذا صور وحالات تقشعر لها حتى أجساد البهائم، ومع كل هذا كنتم تدافعون وبقوة سياسات خرقاء لا تعرف سوى التصفيات لكل مناهض لما يريده الحزب الفاشي، والقصد هو، وكما معروف، الإمساك بالسلطة حتى وإن كلف ذلك العراق والمنطقة جبالا
من الجماجم، و”البقية بروس الفاسدين والمنحرفين” أخلاقيا وقيما ومبادئ، ولعل شاعركم الجهبذ عبر عن ذلك بقصيدته “القبرية”
وطن تشيده الجماجم والدم…. تتهدم الدنيا ولا يتهدم.
والمقصود هنا ليس العراق بالطبع، بل ببقاء حزبكم ماسكا بزمام القيادة، لضرورات أنتم من اختلقها لتقنعوا أنفسكم والتابعين لكم، كذبا وتدليسا، بانكم قادة الأمة والحامين لأمجادها، وأنتم أول من أفسد ماضيها وأضر بحاضرها وبعثرها بممارسات قائدكم المخبول الذي أسميتموه بالضرورة، واللعنة على ضرورة كهذه وما سببته من دمار لكل مفاصل الوطن الذبيح.
نعود لموضوعنا، كان العراقيون آنذاك قد استبشروا خيرا بأن عصرا من الانفتاح والبناء وتذويب الجليد بين القوى الوطنية قد بدأ، وكانت وللأسف الشديد مجرد أماني واهية لا يمكن تحقيقها إلا في “المشمش” لماضيكم الموغل في التآمر، إذا ما عرفنا تاريخ هذا الحزب الفاشي، ومع ذلك توجه الآخرون من منتمي أعرق حزب سياسي الى نفض غبار الماضي والتوجه بقلوب مفعمة بالأمل بان العراق سيحقق نقلة نوعية نحو مستقبل مشرق، وصدقت نوايا حلفائكم في حين كنتم أنتم تعملون في الخفاء لتثبيت أقدامكم الهشة على سلطة القرار، ومن ثم الانقضاض على الآخرين، لان هدفكم هو سلطة الحزب الواحد، والقائد الواحد، والقرار الواحد الذي لا ينازعه قرار، وكان السعي في هذا الاتجاه دون تبيان نواياه الخبيئة في دهاليز عقولكم الموجهة صوب التآمر وازاحة الآخر طال الوقت أم قصر، تصور يا سيد عزيز، ولعلك لم تبلغ مرحلة الخرف والنسيان الكامل بعد، أن الآخرين كانت أياديهم ممدودة بصدق، وأنتم تقومون بتصفيات أنبل كوادرهم الحزبية، ليستمر عملكم في الخفاء دون تعداد ذكر التفاصيل من الجرائم التي لا عد لها، فكانت يد ممدودة لهم والأخرى تمارس التصفيات، ومع ذلك استمر حلفاؤكم بالتعاون لأجل العراق، حتى وصلتم لمرحلة كانت من الخطورة بمكان حين بدأ التمهيد للانقضاض على الحركة الوطنية بشكل كامل بعد أن
تسنى لكم السيطرة على الشارع بدسائس واكاذيب وشراء ذمم وسلوكات تنم عن همجيتكم ووضاعة أفعالكم، لتصلوا لمرحلة الهجوم النهائي وتصفية مناضلي الحزب الشيوعي وأنصاره ومؤيديه، وبقية القوى الوطنية والدينية، ايمانا أخرقا منكم بأنكم تمكنتم من الإمساك بالسلطة بشكل نهائي ليبدا العبث الحقيقي بوصول المخبولين وأنصاف الأميين والجهلة والبلطجية والناطحة والمتردية من انصاركم الذين تركوا القيم والضمائر والأحاسيس والانتماء للوطن في مشاجبكم الحزبية الرثة، وبعدها بدأ الطوفان.