19 ديسمبر، 2024 1:41 ص

رسالة رمضانية للفرقاء العراقيين, الحوار عبر التاريخ

رسالة رمضانية للفرقاء العراقيين, الحوار عبر التاريخ

الحوار يحتاج لأسس علمية لجعله مثمرا (وليس كحوار الطرشان (كل طرف يتكلم بدون أن يسمع وجهة نظر الأخر) ولا كالجدل البيزنطي العقيم الذي أنشغل به علماء القسطنطينية للخلاف حول قضايا لا تستحق كمسألة البيضة والدجاحة بينما كان العثمانيين على أسوار عاصمتهم محاولين فتحها.
النوعان أعلاه هما مثالان للحوار الفاشل و غير المثمر,الذي قد يعمق المشكلة ويأزمها أكثر مما يسهم في حلها أو بالمقابل يؤدي الى تعميق الهوة بين الفرقاء لاجل قضايا ليست في صلب مصير الأمة. للأسف هذه الحورارت هي الانواع السائدة للحوار في المنطقة العربية وفي وسائل الأعلام العربي التي ساهمت بتأصيل ثقافة الجدل ببرامجها التي تسمى خطأ ب”الحوارية” أو “النقاشية” وهي بالحقيقة أقرب ما تكون لصراع الديكة منها لحوار أصحاب المسؤولية و الفكر الوطني. مؤخرا أصبحت موضة ان الحوار هو للغلبة و للأنتصار لوجهة نظرك حتى لو كانت قاصرة, أصبحت هذه الموضة بديلة لثقافة الحوار التي تنبه أن الهدف الأساسي من الجلوس على طاولة واحدة مع الفرقاء هو التوصل لحلول. نعم أيجاد حلول وسط و مغادرة الطاولة بدون الوصول لقناعة مشتركة هو الفشل الحقيقي لأي رجل سياسة وأجتماع.
في الأتجاه المقابل, عبر التاريخ, هنالك نماذج الهية للحوار القائم على نبل الغاية التي تبرر الصبر و التسامح في أقناع الاخر وهدايته. قبل الاف السنين ضرب النبي نوح عليه السلام مثلا في جعل الحوار هدفا بحد ذاته بالأضافة لكونه وسيلة للحقيقة ولذا بقي لمئات السنين (رغم أختلاف الراي في المدة الأ أنها تبقى طويلة بكل الروايات) فأستمر بدعوة قومه بالحكمة والموعظة الحسنة وليس بالتهديد بالعقاب الالهي (مثال لعدم أستخدام أي نوع من السلطة للضغط على المقابل و ترهيبه أو تعزيز رضوعه لك) وحتى بعد الطوفان ووضوح الأية الالهية بأن نوح (ع) كان على حق وأن الله معه, مع ذلك أستمر بدعوة أحد أبناءه الذي لم يلتحق معه (لم يجبره ولم يجبر من قبل زوجته المعاندة على القبول المطلق لدعوته كأمر مسلم به رغم كونه رب الأسرة والشيخ الكبير و نبي الله). هذا المثال يسلط الضوء على بعض حالات العناد الأنساني و التمسك بالرأي والتي تبين أن الأجبار وفرض رؤيتك السلطوية قد يؤدي أما الى المعارضة العنيفة أو الى النفاق السياسي لتحاشي عنف السلطة مما يخلق طابور خامس لاحقا. يجب أن يصبح المقابل مؤمنا بعقيدتك ليتبعك أو على الاقل أن لا يكون كافرا بها وليس ميالا لمعارضتها بعنف وأن يقبل التعايش معها ولو مؤقتا (عداها سيكون أنضمامه لك مضرا أكثر من أنفصاله عنك)
وفي هذا السياق, قص لنا القران الكريم جزع النبي يونس (ع) كنموذج غير مثالي للدعوة و كسب الاخر. و رغم أختلاف الأراء بأن ما حدث لصاحب الحوت ليس عقوبة و بأنه نبي معصوم ولم يخطيء بمقاييسنا البشرية, لكن المتفق عليه أن تصرفه لم يمثل الخط الالهي المثالي للدعوة و أنه استعجل بالتلويح بالعقاب الالهي و لجأ مبكرا للسلطة التي لا تخصه هو بذاته وأنما هي لله, رب المؤمن والمخالف.
وكذلك أستمرمحمد (ص) لسنين بدعوة سلمية قبل أن يقرر (بأمر ألهي) تأسيس كيان منفرد للدعوة الجديدة في المدينة المنورة. وهذا الكيان لم يكن بالدرجة الأساس لتهديد المشركين عسكريا (لأنه في البدء كان أضعف من ذلك) ولكن للتركيز على الجانب الاخر للعوة والذي يختص بالدولة والتشريع و بناء مجتمع فاضل متعايش مع اليهود في المدينة والذي على أساسه وضعت وثيقة المدينة ومثال صلح الحديبية التي خططت لفترة سلام من عشر سنين يدل على أولوية فسح المجال للاخر للأنضمام سلميا وتدريجيا.
ولدراسة الطرف الثالث للحوار و هو الجمهور (وهذا أمر مهم كوننا نؤمن بثقافة سيادة النخبة السياسية والدينية و التي هي من عليها القرار و على الجماهير فقط اختيار معسكر للأنضمام اليه والتضحية من أجله). وفي رمضان المبارك الذي يصادف به ذكرى جرح وأستشهاد علي بن أبي طالب (ع) والذي صرح بأحد المعايير المهمة لمعرفة الحق والتي تضع المباديء فوق أهواء الرجال و تذبذب مصالحهم يمينا ويسارا. فعندما سأله أحد المقاتلين في حرب الجمل (وهو حينها الخليفة وأمير المؤمنين) مع أي معسكر قتال يجب أن أكون لان كلاهما يحويان كبار الصحابة (رض) فأجابه و هو القادر بأن يجعل سؤاله هذا أعترافا منه بخروجه على الأمام و قصد الخيانة و بدل أن ينشغل بهذا الجدل وترهيب المقاتل قال له قولا فصلا: “إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، أعرف الحق تعرف أهله، وأعرف الباطل تعرف أهله”, ولذا من هو اليوم على صواب ويمثل معسكر الحق قد يصبح غدا على باطل أما لجهل منه و التباس أو لجريه خلف مصالحه الدنيوية , وبالتالي لاتصح (الشخصنة) ولا أن نؤمن بالحق المطلق او الباطل الشر المطلق لقائد ما. و أنما أن نضعه تحت مشرط النقد في كل مرحلة جديدة لبيان صلاحيته لتمثيل الحق . وهنا الأقتباس العالمي يقول “لا شيء خاطيء تماما, فحتى الساعة المتوقفة تكون صحيحة مرتين في اليوم”.
عليه, عند الجلوس للنقاش فلا يجب الأنطلاق من كونك صاحب الحق المطلق و أن المقابل هو المخطيء لأن ذلك ينسف أسس الحوار و يسحب اللمبررات للوصول لأي حل وسط نتيجة للفكرة المسبقة المتعنتة و المتعالية. يجب أن يقبل كلا الطرفين أحتمال ان يكونا على خطا ولو في بعض جوانب الأزمة. هذا المنطلق يؤدي لتعالي أحد الاطراف على الطرف الاخر وبالتالي سيعتبر أي قبول لراي الاخر هو تنازل منه (الأبراج العاجية لا تصلح للمتحاورين ولا تجعل الحوار مثمرا). وحتى المقولة التراثية في “أن رأيي صواب يحتمل الخطأ و رأي غيري خطأ يحتمل الصواب” هي أيضا غير أيجابية (وأن كانت أهون من سابقتها) لأن الأصح هو أن يكون كل طرف متقبل مسبقا لأحتمال كونه على خطأ و أن رأي المقابل هو ما يمثل الحل الأمثل للخروج من الأزمة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات