” ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين ” (هود 118) حينما نتأمل هذه الاية الكريمة نجد ان الاختلاف قد قدره الله تعالى الى ابد الابدين ، كما ان الدراسات الانسانية تشير الى ان الاختلاف هو طبيعة المجتمع الانساني و ان اي مجتمع يتضمن عملية الاختلاف تلك التي تجعل اجزاء ذلك المجتمع تتميز عن بعضها البعض من خلال ما تؤديه من وظائف مختلفة ، و ان هذا التنظيم الاجتماعي الذي هو عبارة عن وحدة مكونة من اجزاء مترابطة ومنظمة و يعتمد بعضها على بعض لا يكون إلا عن طريق ما يختلف به كل فرد من الافراد و كل جماعة عن الاخرى .
وعليه فان عبارة الكون قائم على الاختلاف حقيقة ثابتة لا تحتمل الجدال وتتطلب من الجميع الايمان بمضمونها وان العيش على هذه الارض وفي هذه الحياة لا يمكن ان يستقيم إلا بهذا التنوع ، و حينما نعرض هذه الحقيقة على كتاب الله الحكيم ذلك الدستور الثابت المحفوظ الذي لا يتغير وفقا لأهواء هذه التيارات السياسية او الاجتماعية او تلك والصالح لكل زمان ومكان نستطيع ان نقف على تلك الاختلافات بتفاصيلها حيث يفصل عز من قائل هذه الحقيقة بقوله : ” ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه ..”( فاطر 28 ) و في اية كريمة اخرى : ” ومن اياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين ” (الروم 22)
أي أنه تعالى خلق السماوات والأرض وذرا فيهما الدابة من الملائكة والإنس والجن و كذلك الحيوانات على اختلاف اشكالهم وألوانهم وأجناسهم وأنواعهم وحتى لغاتهم وخلق فيها الاشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد : ” الم تر ان الله انزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفا الوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف الوانها وغرابيب سود” (فاطر27) ، وجعل الليل والنهار ايتين مختلفتين متعاقبتين كل لها طابعها الخاص الضروري لاستمرارية الحياة على الارض كما في قوله تعالى : “و اختلاف الليل والنهار وما انزل الله من رزق فأحيا به الارض بعد موتها وتصريف الرياح ايات لقوم يعقلون ” ( الجاثية 5)
وبالمقابل ذكر تعالى بان لكل ما خلق منهم شرائعه التي يتبعها : ” لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما اتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ” (المائدة 48) ، وباين تعالى بين خلقه فيما اعطاهم من الاموال والأرزاق و فاوت بينهم في الطبقات والأعمال والمهن لعبر وحجج ربانية : ” أولم يعلموا ان الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ان في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ” ( الزمر 52) ، وانه سبحانه خص البعض منهم بنصيب اوفر من العقل والحكمة :” يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا ..” (البقرة 269).وحتى اختلاف الطعوم و ميول الناس و اذواقهم في المفاضلة اشار اليها في كتابه الحكيم : “وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون “(الرعد4)
وتلك الحقائق التي تحملها مضامين الايات التي ضربناها على سبيل المثال وليس الحصر ختم سبحانه اغلبها بالحث والترغيب على التفكير في مخلوقات الله والنظر فيها بعين الاعتبار وأنها ايات لا يدركها إلا المتقون والذين يعقلون وان مخاطبة العقول والدعوة الالهية الى التأمل والتدبر فيها تقتضي سلامة الوصول الى نتائج ايجابية ان اتبع التفكر والعقلانية….فهناك حكمة الهية عظيمة من التنوع والاختلاف والتفاوت اشار اليها الخالق اشارات واضحة بينية بقوله : “يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير” (الحجرات13 )والآية الاخيرة تبين ان فلسفة الحياة تنمو و تتعدل كنتاج للحياة مع الاخرين عن طريق التفاعل الاجتماعي والتعارف والتواصل بين الشعوب والقبائل التي خلقها البارئ بما تحمله تلك الشعوب والقبائل من عادات وتقاليد متباينة وخلفيات ثقافية وشرائع مختلفة وأسس سيكولوجية تحكمها قيم سلوكية متعددة ومستويات اجتماعية ومهنية متفاوتة و قد خلقت من جنسين متغايرين من ذكر وأنثى كمتطلبات اساسية من اجل البقاء والاستمرار .
ويتجلى من ذلك ان متطلبات الحياة تستدعي التكامل بين تلك المكونات المتغايرة والمتنوعة لبناء مجتمع انساني يرتبط اعضاؤه فيما بينهم رغم هذا الاختلاف والتنوع بشبكة علاقات تنظمها مجموعة محددة من القيم والمعايير الاجتماعية لإشباع حاجاتهم الانسانية ، وان هذا التكامل الذي نعني به العملية التي تصبح الاجزاء المختلفة فيها متآلفة ولا نعني به ان يكون الافراد متشابهين هي التي تمكن الاجزاء من تأدية وظائفها بصورة صحيحة في سبيل الابقاء على وحدة الكل لتعيش المجتمعات والشعوب وتستمر في البقاء حينما يعرف كل عضو من اعضاء الجماعة ما ينبغي ان يقوم به من ادوار كون طبيعة تواجده داخل المجتمع تتطلب منه تأدية العديد من الادوار فالفرد الواحد قد يكون زوجا وأبا وموظفا و اخا وعما وخالا وجدا وابن عم و صديقا وجارا…..الخ وبالمقابل حين النظر بين الادوار المتنوعة لأفراد المجتمع بصورة عامة هناك النجار والفلاح والحداد والمهندس والطبيب والمدرس ….الخ و بدون هذا التكامل و التآزر والتغاير الدينامي الارتقائي بين الوظائف الحيوية والنفسية والاجتماعية التي تشبع من خلال تلك الادوار لا يمكن ان يحيا الناس معا، فأنت بحاجة الاخر والآخر بحاجة اليك…
و يؤكد الذكر الحكيم في مجمل سوره وآياته الكريمة فيما يخص موضوعنا هذا على ان التكيف والتفاعل السليمين بين مكونات المجتمع المختلفة والتكامل بين الادوار ضرورة لتحقيق الغايات المجتمعية و للإبقاء على التوازن الصحيح بين الانسان ونفسه من ناحية وبين الانسان ومحيطه الخارجي من ناحية اخرى و ان لا تعارض بينهما، بل كل منا يحتاج الى الاخر ضمن اطار التنظيم الاجتماعي المتواجد به كما في قوله تعالى : “اهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون ” (الزخرف 32)وتلك مشيئة الله وإرادته النافذة التي لا يجب الاعتراض عليها ..وضرب لنا مثلا على ان الأنبياء انفسهم لا يملكون الاعتراض على ارادة الله كما فعلها نبي الله نوح عندما استفهم عن مصير ابنه فجاءته الاجابة : ” قال يا نوح انه ليس من اهلك انه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم اني اعظك ان تكون من الجاهلين ” (هود 46) .
فلا تجعل ايها الانسان نفسك حاكما : ” قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة انت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ” (الزمر 46) …. و تدبر بآيات الله واستخلص منها ما ينفعك في الدنيا والآخرة و لا تعترض على حكمة الخالق ولنبحث عن المشتركات التي تجمعنا بهذا الاخر الذي يشاطرنا الحياة والتي تفرض علينا الالتزام باحترامه وتقبله وتقديره مهما كان مغايرا لنا ، فالاحترام المتبادل رغم الاختلاف اساس هام من اسس التعامل مع الاخر والاتصال البناء ويجعلنا اكثر تفهما للمواقف والاشخاص..ولتقريب الصورة تخيل نفسك تقف امام المرآة ..ان ابتسمت ابتسم الرجل الذي يطل عليك في المرآة وعندما تعبس بوجهه يطالعك بنفس العبوس وان شتمته فانه يشتمك وعندما تقوم بالصياح ترد عليك المرآة صياحك ……. فالآخر هو مرآتك وان ما نراه في تعاملاتنا مع الاخرين ليس سوى مواقفنا وقد انعكست الينا في تصرفاتهم…
و قد وجد علماء النفس انه عندما يحدث تفاعل اجتماعي بين جماعتين او اكثر يلونه التنافس وتسوده المواقف المحبطة تنمو اتجاهات سالبة بينهم نحو بعضها البعض ، ودرس المختصون بالاجتماع العلاقة بين تماسك الجماعة وبناء العلاقات الاجتماعية ووجد ان الافراد الذين يشغلون مراكز طرفية في البناء السوسيومتري(بناء العلاقات الاجتماعية) يسوء توافقهم وتكثر مشكلاتهم السلوكية وغالبا ما يلجئون الى العنف والعدوانية وينزعون الى ترك الجماعة اذا واجهتها الصعاب ، اي ان اقصاء الاخر وتجاهله امر له مردوداته الخطيرة كونه يفرز فئات هشة ومحرومة تشعر بان البيئة الاجتماعية التي يعيشون بها غير مشبعة لحاجاتهم مما يضعف من ولائهم وشعورهم بالانتماء لذلك المجتمع الذي يهمشهم .
و في المقابل وجدت الدراسات انه عندما تسعى الجماعات حتى وان كان بينها توتر نحو الوصول الى هدف مشترك لا يمكن تحقيقه بجهد جماعة واحدة فان تلك الجماعات تميل الى التعاون لتحقيق ذلك الهدف وبالتالي فانه من خلال هذا التفاعل يقل ما بينها من صراعات واتجاهات سالبة ، وهذا ما اثبتته الايام حينما اصبح عدونا واحدا و هدفنا واحدا متجه نحو درء الاخطار التي تحدق بنا وتهدد كيان هذا المجتمع ووجوده …وثبت بان الاخر الذي نتقاسم معه هذا المجتمع مهما اختلفنا معه فان مصيرنا واحدا و همومنا مشتركة ومصالحنا واحدة وأعراضنا واحدة وتاريخنا واحد خططناه بدمائنا التي اختلطت سويا ….
وعليه فإننا نتوجه بالخطاب الى العقلاء والحكماء والوطنيين باستثمار بصيص الأمل الذي نراه في التوحد الجميل لشرائح المجتمع المختلفة في محنته الأخيرة في مواجهة الارهاب والفكر المتطرف ، والعمل على تعزيز هذا الجانب المشرق وإعادة التوافق وخفض التوتر وزرع الثقة والاطمئنان بوضع الاستراتيجيات الاجتماعية والإعلامية للمواءمة والتعاضد والتساند وتعزيز الروح الوطنية بل حتى سن القوانين التشريعية للملمة شتات هذا الوطن الذي اثقلته فرقة ابنائه وتلاطم ذوي الاهواء بأفكارهم وتلاعبهم بمشاعرهم والعمل على تحصين العقل والنفس لان الاستقرار الاجتماعي هو الركيزة الاساس لبناء المجتمع ، وأن علينا الانطلاق نحو سلوك مختلف وفكر مختلف لان ما يحدث في المجتمع مشكلة فكر والفكر لا يواجه إلا بالفكر …تلك رسالة تحدي نبعثها الى أبناء وطن الشموخ ….ومحروس يا وطن .