18 ديسمبر، 2024 6:38 م

رسالة إلى رقيّة هاشم في تأمّل تجربة الكتابة

رسالة إلى رقيّة هاشم في تأمّل تجربة الكتابة

رسالة إلى رُقَيّة هاشم
من الردود التي تلقيتها على مقالة “رسالة إلى سلمى” رد من الشاعرة والمترجمة الماليزية رقية هاشم. جمعتنا الصدفة معاً لنكون أصدقاء افتراضيين، أتذكرُ تماماً أنني أنا من بادر بإرسال طلب صداقة على الفيسبوك. رقية لا تتقن العربية، وأنا لا أتقن إلا العربية، مع بعض الاستثناءات لنصوص قصيرة باللغة الإنجليزية ذات اللغة البسيطة والتراكيب غير المعقدة. دفعتني هذه البساطة لأكتب نصين باللغة الإنجليزية؛ أحدهما نشرته في كتاب “كأنها نصف الحقيقة”، وقد راجعته لي في حينه المرأة التي كتبته فيها، والنص الآخر قصيدة عن الحرب نشرتها مع مجموعة قصائد قصيرة عن الحرب تحت عنوان “عن الحرب مرّة أخرى” في موقع ألترا صوت بتاريخ: 18-مايو-2021.

تلاحظ الصديقة رقية أنني أكتب الشعر، فتبادر بطلب قصائد لي باللغة الإنجليزية لتساعدني في نشرها بعد أن تترجمها من الإنجليزية إلى اللغة الماليزية، لكنني لم أجد من يترجم لي بعض النصوص، فضاعت هذه الفرصة، إلى أن تبادر مرة أخرى بعد أكثر من عام لتطلب مني قصائد أو قصص قصيرة مع سيرة ذاتية مصحوبة بصورة شخصية، لتنشرها باللغة العربية في موقعها الإلكتروني (Peace Be Upon You Davos)، إذ لا حاجة كما قالت لأن تترجمها، ونشرت تلك النصوص في موقعها مع احتفائها بها ونشرها أيضا على صفحتها في الفيسبوك.

لا شك في أن الشاعرة رقية صديقة جيدة في الحقيقة لكنها ربما ضاقت ذرعاً بمقالي بخصوص القارئة التي تسمي نفسها “سلمى”، تصف الصديقة رقية الموقف بأنه غير أخلاقي، لا أدري هل هي قصدت مقالتي في الرد على “سلمى” أم ما كتبته سلمى أم أن الموقف كله بطرفيه غير أخلاقي، فترسل هذه الرسالة الحادة، وتقول فيها إن ما أرسلته للمرة الثانية للنشر في موقعها لم ينشر بعد، وفيما يأتي نص رسالتها الأولى التي تعترض فيها على مقالة “رسالة إلى سلمى”:

Salam Feras,

Please don’t send this kind of article to me. I don’t want any polemics on your works or anything answering others.

criticisms of your works. This is very unethical and I don’t want this kind of writings on my magazines. Literature articles, reviews yes.

I will take. But not polemics and answering others write ups on you. Hope you understand.

Besides, I still have your poems not published yet and don’t send too many of your works to me.

Thank you.

Rokiah H.

لم تقف اعتراضات الشاعرة رقية هاشم عند هذا الحدّ، بل إنها تعود إليّ برسالة ثانية هذا الصباح (14/7/2022)، لتعترض على النصوص التي أرسلتها، بدعوى أنها قصائد غزل، وأن عندها من قصائد الحب التي بعثها شعراء أوروبيون ما يكفي، وأنه ينبغي علي أن أكتب قصائد عن فلسطين. تعني رسالتها أنها لن تنشر لي هذه القصائد، وهذه هي رسالتها الثانية:

Salam Feras, please don’t send love poems to me. I expect Palestinian issues from Palestine poets. I received many love poems from European poets and that’s enough. Please use this platform for Palestine issues. Shukran.

غريبة هذه الرسالة، كأنه لا ينبغي للشاعر الفلسطيني أن يكتب قصائد حبّ، وكأنه محكوم بالكتابة المباشرة عن السياسة والقضية الفلسطينية، على الرغم من أنني كتبت وكتبت كثيرا في هذا الجانب، مقالات، وقصائد، وقصصا، كما كتبت في الحب كثيرا. إذ لا أرى تعارضا نهائيا بين شعر الغزل وشعر المقاومة، أو بين أن تكون عاشقا ومقاوما في اللحظة ذاتها. أكتب ذلك وفي ذهني الشاعر الجاهلي عنترة العبسي الذي مزج بين شعر الحرب وبين الغزل في بيتين من الشعر مهمين:

وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِــــــــــلٌ مِنِّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي

فَوَدِدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُـوفِ لأَنَّهَا لَمَعَــــــــــتْ كَبَارِقِ ثَغْــرِكِ الْمُتَبَسِّـمِ

هذه الرسالة تعيد النقاش مرة أخرى حول مهمة الشاعر ووظيفته، كما تعيد سؤال شرعية الكتابة الوجدانية للشاعر أو الكاتب الخاضع للاحتلال أو الواقع تحت تأثير قضية كبرى مثل القضية الفلسطينية بأبعادها المفتوحة على سؤال الحرية والمقاومة، وطبيعة الكتابة التي تناضل من أجل تحقيق العدالة وحق تقرير المصير.

لعلّ الشاعرة رقية هاشم لا تعلم أن أجمل ما كتبه الشاعر محمود درويش من شعر كان الشعر الوجداني الغزلي الصرف غير المرتبط مباشرة بالقضية الفلسطينية، ففي كثير من دواوينه قصائد من عمق المعاناة في الحب، عدا ديوانه الممتع “سرير الغريبة” المخصص كله لشعر الحب، وما في هذا الديوان من أبعاد ثقافية وأسطورية متصلة بموضوع الحب، وما يتضمن بعض تلك القصائد من إيحاءات أيروسية. بل إن درويش يؤكد أنه كتب للمرأة، وأن المرأة في أشعاره هي المرأة، دون أن تعني فلسطين، كما كان يحاول بعض النقاد تفسير بعض قصائد درويش الغزلية، ألم تقرأ ما كتبه درويش في قصيدة “انتظار”:

وربما نظرت إلى المرآة قبل خروجها

من نفسها، وتحسَّست أجاصَتَيْن كبيرتينِ

تُموِّجان حريرَها، فتنهَّدت وترددت:

هل يستحقُّ أنوثتي أحد سواي

وقوله في قصيدة أخرى بعنوان “لم تأتِ” لا تقلّ جمالا عن سابقتها، على الرغم مما تحمله من نفس الشاعر العاشق المهزوم الواقع تحت تأثير المرأة فينتظرها دون أن تأتي، بل يظل مشغولا فيها، فكرا وشعرا وجغرافيا:

لا سرّ في جسدي أمام الليل إلا

ما انتظرتُ وما خسرتُ…

سخرتُ من هَوَسي بتنظيف الهواء لأجلها

عطرته برذاذ ماء الورد والليمون

وغيرهما الكثير، فالكاتب الفلسطيني إنسان يحب وينتشي إن وجد امرأة تحبّه، ويهزم في الحب أيضاً، ويعيش مأساة فردية ككل العشاق المهزومين، ويعشق النساء ويطاردهنّ، ويشتهي أن يعيش قصة حب عاصفة بكل ما فيها من لذة وشهوة ومتعة في السرير مع من يحب. فليس درويش وحده من فعل ذلك، فغسان كنفاني هذا الكاتب الشهيد الذي عرف باندماجه كلية بالقضية الفلسطينية والهمّ السياسي كان له تجربة حب مع الكاتبة غادة السمان، فكتب لها رسائل تقطر وجدا ورغبة وجنونا وشهوة أيروسية، فإن لم يشتهِ الشاعر محبوبته ليتذوق طعمها فمن يشتهي إذاً؟ كل العشاق فعلوا ذلك، شعراء، وفلاسفة، وأناساً عاديين. إنه لمنطق غريب أن ينغلق الكاتب على همه السياسي ليظل محصورا فيه، فهو إنسان، وكتلة متوهجة من المشاعر لا بد من أن تفيض أشعارا ونصوصاً غاية في الجمال.

من زاوية أخرى، فإن كتابة قصائد الحب للشاعر المقاوم نوع من المقاومة، بعيداً عن اصطناع الفلسفة، فلا بد من أن يمارس الناس هذا الجانب من حياتهم ممارسة طبيعية. عليهم أن يحبوا، ويتزوجوا، وينجبوا الأطفال، ويغنوا أغاني الفرح، ويقيموا الأعراس، واحتفالات النجاح المدرسية والجامعية وترقيات العمل وأعياد الميلاد وعيد الحب، ففي ممارستهم لكل تلك الطقوس تغذية لحس الحياة الحقيقية، وأنه بالفعل “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”. ففي هذا إغاظة للمحتلين الذين يزعجهم أن نفرح، وأن نناضل بالحب كما نناضل بالبندقية، لا فرق؛ إنهما يصبّان في المصبّ ذاته، وهو القدرة على العيش والتجذر في الأرض والتعبير عن الانتماء لها، فهي أرضنا، ظاهرا وباطناً، برا وبحرا وسماء، وقمرا وشمساً وغيوماً.

لا أريد أن أحمّل رسائل الصديقة رقية هاشم أكثر مما تحتمل، لكنه من المفيد جدا أن يتعرف شعراء العالم على ما نكتبه من قصائد في الحبّ، كما نرغب أن يتعرفوا علينا ونحن نكتب عن فلسطين، وعن الثوار، وعن الشهداء والأسرى، فنحن شعب لنا في أرضنا ما نعملُ، ولنا صوت الحياة الأولُ، فجذورنا ضاربة في عمق التاريخ، ولنا الكثير من الأساطير والقصص والحكايات. كما لنا تجاربنا الإنسانية أسوة بالآخرين، فليست قصائد الحب من حق الشعراء الأوروبيين وحدهم، فنحن أيضاً لنا محبوباتنا اللواتي ينتظرن كل صباح قصائد الغزل ليشعرن بأهمية وجودهن على هذه الأرض التي تستحق الحرية والحب والجمال والتحرير، فعلى العالم أن يرانا ونحن نحبّ ونعشق النساء، كما يرانا ونحن نقاوم ونثور ضد المحتلين؛ أعداء الإنسانية والحرية والحياة.

وأخيراً، هل ستقول عني الشاعرة رقية هاشم أيضا إنني غير أخلاقي، إذ كتبت عن رسائلها هذه المرة؛ أسوة بالرسالة التي كتبتها إلى القارئة “سلمى”؟ أنتظر لأرى، لعلي أحظى بما يفتح الباب لنقاش آخر، ذي بُعْدٍ أكثر أخلاقية وأهمّية. وهل سيلومني أصدقائي على هذه الكتابة كما لامني بعضهم، لأنني أعرتُ “سلمى” شيئا من الاهتمام بالكتابة عنها ولها؟