يسمونهم في واشنطن «طاقم الراشدين» الذي يشمل «محور البالغين» axis of adults المكوّن من وزير الدفاع الجنرال جيم ماتيس، وزير الخارجية ريكس تيلرسون، ووزير الأمن الوطني الجنرال جون كيلي، يضاف إليهم كل من مستشار الأمن القومي الجنرال هربرت رايموند ماكماستر (آش آر ماكماستر)، مدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو، والسفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي. هؤلاء هم أركان السلطة في إدارة الرئيس دونالد ترامب ونائبه مايك بنس، بل ربما التعبير الأفضل هو أركان الدولة. هناك فاعلون آخرون في إدارة ترامب، أبرزهم فريق جاريد كوشنر صهر الرئيس المتزوج من ابنته ذات النفوذ المميز إيفانكا ترامب، وهذا الفريق يضم أصدقاء من «وول ستريت» في طليعتهم غاري كوهن ودينا حبيب باول نائبة مستشار الأمن القومي، ويواجه هذا الفريق فريق المستشار المتطرف قومياً ستيفن بانون. طاقم الأمن القومي من الراشدين استفاد من التوتر بين فريقي البيت الأبيض وشق طريقه إلى دونالد ترامب الذي بدأ في الأسابيع القليلة الماضية يتصرف كرئيس بناء على التشاور مع أركان إدارته وليس بعشوائية طوّقت أول أيامه في البيت الأبيض. السؤال المطروح هو، كيف سيؤثر جنرالات إدارة ترامب ووزير خارجيته وسفيرة الديبلوماسية الحازمة في صقل السياسة الخارجية المتماسكة، وما هي خلفية فكرهم الاستراتيجي في العلاقات مع العالم؟
الجنرال بأربع نجوم الذي يعرف هؤلاء الجنرالات عندما كان في ساحات العراق وأفغانستان والاستخبارات المركزية، ديفيد بترايوس، يصف الطاقم بأنه «استثنائي» ويقول إن تفكير أركان هذا الطاقم ليس محصوراً عسكرياً وإنما هو فكر استراتيجي مسيّس بامتياز. بترايوس، أثناء مخاطبته «مجمّع آسيا» في نيويورك، وصف نيكي هايلي بأنها «مذهلة» وهي «تقف في وجه روسيا» وتقوم بـ «تعييب الناس بأناقة». وقال عن صديقه المقرب جيم ماتيس إنه من «أروع» المفكرين الاستراتيجيين، عسكرياً وسياسياً، وأطرى بإسهاب على تيلرسون وبومبيو وكيلي وماكماستر.
بترايوس فاعل مؤثر بعمق في تفكير صنّاع السياسة الخارجية وراء الكواليس. إنه لا يتباهى أبداً بذلك، بل يحرص على التقليل من أهمية دوره غير الرسمي. إنما أفكاره التي يعبر عنها في الجلسات الخاصة والعلنية لافتة ومفيدة في عملية التعرف إلى رؤى أركان الإدارة. تصريحاته العلنية شملت قوله إن العملية العسكرية في مطار الشعيرات رداً على استخدام النظام السوري الأسلحة الكيماوية هي «شبه بروفة لفريق الأمن القومي»، والسؤال الذي يتبعها هو: كيف سينتهي الأمر؟ ماذا بعد، إلى جانب تحقيق هدف إلحاق الهزيمة بـ «داعش»؟
رأي بترايوس هو أن الهدف يجب أن يكون إنهاء النزيف وسفك الدماء. رأيه أن ضربة عسكرية واحدة، على أهميتها، لن تؤدي إلى تخويف الأسد. رأيه أن الذي يفرض الحل العسكري في سورية هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والسوري بشار الأسد بالشراكة مع قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الإيراني والميليشيات التابعة لأمره، وعليه، يتطلب الأمر خلق «ظروف عسكرية» ذات «زخم» مواتية لقيام الولايات المتحدة بطرح مواقفها والحفاظ على مصالحها. رأيه أن سورية باتت «مفككة»، وفق التعبير الإنكليزي Humpty Dumpty الذي يعني أنه من الصعب جداً إعادة تلصيق أعضائها، أقله في الفترة المقبلة، لأن الصراع القائم في سورية سيطول إلى «أكثر من جيل». بالتالي، يتوقع أن تكون هناك –أقله على مراحل– مناطق أمنية تضمنها دول مجاورة لسورية، كتركيا والأردن.
خلاصة تفكير بترايوس نحو روسيا أنه يجب أن يكون هناك «حوار استراتيجي» معها يكون جزءاً من «فن التوصل إلى الحل». فهو يشدد على أهمية التواجد العسكري في سورية بمحدودية أعداد العسكريين على الأرض –وعددهم الآن ألف– إنما بممتلكات عسكرية استطلاعية لها قيمة مميزة في ساحة الحرب العصرية. ويقول: «استغرقنا وقتاً طويلاً قبل استعادة الزخم» ميدانياً، ومن الضروري الإبقاء عليه.
مصدر مطلّع على تفكير «طاقم الراشدين» في واشنطن لفت إلى أهمية ليس فقط أمثال الجنرال ديفيد بترايوس البارز، والجنرال ألن مكريستال قائد العمليات الخاصة الذي سبق وخاض معارك بدءاً من «درع الصحراء» إلى حرب الخليج وأفغانستان والعراق، وإنما أيضاً إلى عدد من الرجال من مرتبة «كولونيل» يتواجدون حالياً في الوزارات هم أيضاً رافقوا الجنرالات في حروب الخليج وأفغانستان والعراق وبين هؤلاء ديريك هارفي، مثلاً، وجويل رايبورن.
يقول المصدر أن جميع هؤلاء العسكريين الرفيعي المستوى الذين عملوا في ساحات الحرب العراقية والأفغانية «فهموا علاقة الأصولية الشيعية المتطرفة بالأصولية السنّية المتطرفة وتمكنوا من حل اللغز بين الاثنين». يضيف أن فكرهم يرتكز إلى انهم «تمكنوا من حل اللغز بين الأصوليين والمتطرفين واكتشفوا تورط النظام الإيراني مع النظام السوري بهدف إجهاض المشروع الأميركي في العراق».
آش آر ماكماستر، وفق المصدر، درس بعمق علاقة النظامين بالجهاديين في كل من سورية والعراق، وهذا ترك أثراً مهماً على فكره ورؤيته الاستراتيجية. أساسي أيضاً في فكره هو «مشروع العراق ومشروع أفغانستان على أساس استئصال الفساد»، وإلا فإن الأمر «كمن يسكب الماء في كوب مثقوب». يضيف المصدر أن ماكماستر مقتنع بأن لا مجال للتقدم في محاربة «القاعدة» أو «داعش» أو أي أصولية متطرفة من دون استئصال الفساد في الدول المشرّعة للإفساد مثل العراق وسورية وأفغانستان. ولذلك اختلف مع الرئيس السابق باراك أوباما وتصادم معه. فماكماستر أصر على ضرورة الاهتمام بالسياسة البعيدة المدى في جهود إصلاح الحكومة الأفغانية حينذاك بقيادة كارزاي والحكومة العراقية بقيادة نوري المالكي بعيداً من سياسة الاسترضاء، لكن أوباما اعتمد الاسترضاء قاعدة أساسية لتنفيذ هوس الانسحاب الأميركي من البلدين وهوس استرضاء إيران.
«طاقم الراشدين» يعتبر أن إيران لعبت دوماً دور المخرّب الأول والأخير للمصالح الأميركية في المنطقة، وبالذات في العراق، وهم يعرفون تفاصيل العلاقة الوطيدة بين طهران ودمشق في إضرام النار ثم عرض دور الإطفائي. هذا ما يسمى بـ «الإطفائي» المريض بمرض إضرام النار. «الجنرالات يفهمون القصة وهو ما يفسّر كراهيتهم للنظامين الإيراني والسوري»، يقول المصدر، «لأنهما شريران في عزمهما على خلق الشرخ بين السنّة والشيعة».
«لهذا، هناك إقلاع حقيقي وصادق عن فلسفة باراك أوباما» وفق قول المصدر المخضرم الذي يعتبر أن سياسة أوباما وإدارته قامت عمداً على الفتنة وإشعال الحروب المذهبية بين السُنّة والشيعة في المنطقة العربية بقيادة إيرانية. فطاقم الراشدين في إدارة ترامب يريد استئصال الأدوات الإيرانية التي تستخدمها طهران في استراتيجيتها العسكرية الخارجية لحماية النظام الثوري وتصديره، وهذا تحوّل جذري بعيداً من السياسة الأميركية في عهد باراك أوباما.
رأي المصدر المطلع هو أن قرار أركان إدارة ترامب هو توفير «الحماية» لرئيس الوزراء العراقي الحالي حيدر العبادي كي يتصرف بثقة ويستأصل الفساد ويتمكن من لعب دور الشريك الحقيقي في استعادة العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والعراق. وهذا بين أبرز ما حمله جاريد كوشنر في زيارته العراق إلى جانب «لوائح بأسماء شخصيات شيعية تريد إيران قتلها بواسطة حزب الله» وفق أحد المصادر.
هذا المصدر يقول إن أي كلام عن تفاهم أميركي– روسي حول دور إيراني في سورية ولو كان عبر ممر ومطار واحد لن يقبل به أركان إدارة ترامب، لأن أي تسهيل للترابط بين إيران و «حزب الله» مرفوض كلياً. ويضيف أن هناك الآن إصراراً على كسر قبضة «حزب الله» في أكثر من مكان بما في ذلك قبضة الحزب على الدولة اللبنانية وذلك في «العاجل القريب». لكن المصدر رفض الكشف عن الوسائل التي في بال أركان إدارة ترامب واكتفى بالقول «جميعها»، إشارة إلى الأدوات الاقتصادية، المطار، العقوبات، الجيش اللبناني، وزارة المالية، ووزارة الأمن الداخلي الأميركية. قد تكون هذه قراءة دقيقة لتفكير أركان الإدارة وقد تكون مستعجلة. الواضح أن هناك تفكيراً أميركياً في أدوات التعاطي مع كل من إيران و «حزب الله» من جهة ومع كل من حكومة حيدر العبادي وحكومة فلاديمير بوتين في كل من العراق وسورية.
هناك اليوم تفكير يتعمق يومياً بين أوساط صنع القرار الأميركية، قوامه أن مَن لا يريد الشراكة الأميركية الجدية في تحقيق هدف القضاء على «داعش»، أمامه خيار معونة أميركية. هذا الكلام موجه إلى العبادي في العراق وبوتين في سورية، ليقررا ماذا يفعلان بإيران ونفوذها في البلدين. فمقولة امتلاك الوعاء الذي تكسره شقت طريقها إلى لغة السياسة الأميركية ترغيباً بالشراكة وتحذيراً من مغبات رفضها. فأميركا متورطة بقدر ما تريد أن تتورط، أما روسيا في سورية، فإن الورطة ورطتها والمستنقع في انتظارها، ما لم تستدرك وتقرر ما هو حقاً في مصلحتها.
بقي أن دونالد ترامب لا يرسم هذه السياسات بصورة اعتباطية مغرداً فجراً أو عصراً. إنها سياسات أركان دولة في طاقم الراشدين الذين يحرص دونالد ترامب على استشارتهم ليس فقط عند اجتماعات حكومية وإنما أيضاً بصورة غير رسمية حول الفطور أو العشاء ثلاث مرات أسبوعياً. ففي واشنطن الآن إدارة جدية ترسم السياسات المتماسكة والاستراتيجيات الأمنية. رسائلها إلى إيران في كل من سورية والعراق واليمن ولبنان لها أبعاد فائقة الأهمية.
نقلا عن الحياة