22 ديسمبر، 2024 11:00 م

رسائل الضياع في رواية (ضياع في حفر الباطن) للكاتب عبد الكريم العبيدي

رسائل الضياع في رواية (ضياع في حفر الباطن) للكاتب عبد الكريم العبيدي

بريشة فنانٍ ماهرٍ وبعدسة مصورٍ محترفٍ يختزل الكاتب عبد الكريم العبيدي الضياع العراقي ومحنة الاستلاب الإنساني في رسائل مديناً بأعلى درجات الإدانة السلطة القمعية ورموزها من خلال روايته الحقيقية (ضياع في حفر الباطن).
يمكن القول: إنَّها رواية حقيقية لا لدرجة الاتقان والاقناع فحسب، بل لعدة قرائن منها  أنَّ الكاتب لم يذكر اسم الراوي البطل المحوري والضحية في آنٍ واحدٍ، وأهدى روايته إلى زوجته التي عاد إلى الوطن من أجلها كما أرفق ذلك في نهاية الرواية بصورته أسيراً في قبضة القوات الأمريكية بعد حرب الخليج الثانية سنة ١٩٩١م .
يقسم الروائي ضياعه إلى أربعة أقسام: يكون ضياعه الأول في وطنه في حربٍ عبثية استمرت ثماني سنوات وحين توقفت حاول آمر الفوج أن يستبقي الراوي في قلم الوحدة، وربما رفض متعمداً عرقلة معاملته لإعادته مرةً ثانيةً إلى الجيش ويتلقى توبيخاً من الآمر يكون آخر مكافأة له من الوحدة العسكرية، ومن أعوام الرعب فيقرر التمرد من هذا الوضع.
يقرر صدام حسين غزو الكويت فيساق الراوي إلى الجيش ثانيةً لخدمة الاحتياط، وتكون حصته من الحرب هذه المرة في صحراء حفر الباطن التي يصف صحراءها بالقول :(كانت تلك الليلة الصحراوية الباردة هي أول رسالة من ضياعنا، وكان لابدَّ لها من أن تتميز لتستقر في الذاكرة، فبعدما أنكرتنا الصحراء ضاقت بنا السماء).ص ٤٦
يتعرف الراوي إلى ضياع آخر متجسدٍ  بالجندي (مالك العمارتلي) الذي يصفه بالأشتر، وهو قروي ملاحق عشائرياً؛ بسبب قضية قتل (مطلوب دم) التجأ إلى العسكرية؛ ليحافظ على حياته؛ وسيظل يرافق الراوي طوال رحلة ضياعه في الصحراء بعد الحرب غير المتكافئة بين قوات التحالف والجيش العراقي لاستعادة الكويت.
و(مالك) هذا شخصٌ غريب الأطوار بكل تفاصيله فهو مصابٌ بالصرع، وتكون له علاقة حب شاذة بـ (كلبة) تتردد على مكان اقامتهم الأمر الذي يثير الاشمئزاز، ويزيد من حيرة الراوي وضياعه.
ينجح الكاتب في تصوير معاناة الجنود وهم يصارعون  عوامل الفناء، وانعدام أسباب الحياة في الصحراء بعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت في شباط ١٩٩١م ، وتعرض قطعاته إلى إبادة جماعية على طريق الموت، وحين يقع في أسر القوات الأمريكية تبدأ رحلة ضياعه الثاني وهو ضياع أخف حدةً من ضياعه الأول في وطنه إذ يلقى ـ وهو أسير ـ ما لا يلقاه وهو حر من المعاملة الحسنة، ويستعيد شيئاً من إنسانيته يقول : (كنت أشعر للمرة الأولى بأنني شيء ذو قيمة  وأن صراعي مع الصحراء كان يستحق الإعجاب والانبهار، لقد صرت شيئاً مهماً بنظرهم..) ص ١٩٧٦م.
أما الضياع الثالث فيكون بأقفاص الأسر السعودية، ولكن تعرض عليه فرصة اللجوء الإنساني إلى عدة دول منها :أمريكا وهولندا والبرازيل وأستراليا، وبينما يستفيد غيره من هذه الفرصة المقدمة على طبقٍ من ذهب، إلا أنه يفضل الانتظار، واختيار العودة إلى وطنه فيبدأ ضياعه الرابع من (عرعر) يقول: (في عرعر حولنا ضابط مخابرات عراقي الى أكباش..) ص ٢١٣م
يبين أكثر : ( …خطوت بارتباكٍ واضحٍ باتجاه الضابط، وكدت أباعد بين ذراعي لاحتضانه ولكن…، مسكني الضابط من ياقة قمصلتي بشدة وحجزني قبالة وجهه لثوانٍ ثمَّ قذفني إلى الخلف وهو يردد بازدراء (وا..حد.. واثلا…ثين).
آه..، بودي إعادة تصوير المشهد ثانية، كبير المراقبين يعاملني بلطف، ويصافحني مردداً good luck . مراقبون وشخصيات من حقوق الإنسان، وأعضاء من جمعيات دولية متعددة التقوا بي، وتمنوا لي حياة جديدة بعد موتي في حين جرني ضابط مخابراتي عراقي من ياقة قمصلتي  ورماني كما ترمى البهائم. وكأنه يعد أغنامه الضالة التي عثر عليها في (عرعر)! لقد قلدني ذلك الضابط في تلك اللحظة وسام (التكبيش) من النوع العسكري هذا ما شعرت به وقتها) ص٢١٤
لقد كان ضياع البطل /الضحية عاماً وغير مقتصر على ضياعه في صحراء حفر الباطن، لكنَّ معاناته وعذاباته الكبرى تجسدت في تلك الصحراء بأعلى مراحلها فهو حتى وهو عائد إلى الحياة المدنية يظل يبحث عن الخياط الذي ترك عنده بدلته قبل ضياعه الأخير وحين يجده بعد بحثٍ مضنٍ يبكي الخياط العجوز، لأنَّه حزينٌ على أصحاب البدلات الأخرى الذين لا يعرف شيئاً عنهم.. (استذكر وجوه أصحابها ويؤلمني غيابهم..) ص٢٣٢ ثمَّ يقول: (تبقى البدلات معلقةً، وأصحابها في ذمة الغيب حسبي الله) ص ٢٣٣.
إنَّها رواية الضياع بامتياز كتبت بلغة شعرية منسابة تشد القارىء من الغلاف إلى الغلاف ربما لأنها تلامس ضياعه المستمر في وطنه !

* ضياع في حفر الباطن- رواية للكاتب عبد الكريم العبيدي – الطبعة الثانية ٢٠١٨م دار قناديل/ بغداد عدد الصفحات (٢٤٠) صفحة من القطع المتوسط.