7 أبريل، 2024 4:40 ص
Search
Close this search box.

رسائل السفر

Facebook
Twitter
LinkedIn

ماريا التي من يراها سيحسب بأنها حبيسة هواجس قبل ان تكون أنثى كبقية النساء فكأنها كائن مولود من رحم العتمة والضياع لا تجيد لغة النساء وطقوسهن بل هي حتى بعيدة عن كل ما يجري حولها فهي تمتهن الخياطة التي تعتبر منجزها الوحيد في هذه الحياة وتقضي كل ساعاتها في الجلوس أمام ماكنتها المتواضعة غير مبالية بالدمامل التي ملأت قفاها في الآونة الأخيرة ولا بالشحوب الذي طغى على جميع تقاسيم وجهها التي يبرز منها العظام كلما ضحكت أو بكت . كان عشيقها المسافر حبها الوحيد او لنقل هاجسها الوحيد رسمته في جدار مخيلتها كي تطمئن على عدم نسيانه خاصة وانه يغيب عنها فترة طويلة متذرعا بعمله الأدبي الشاق لكنه يعود إليها بعد ان يمضي وقت إجازته معها لأيام قد تتجاوز الأسبوع أو أكثر بقليل يقضونها بالتجوال عبر دور السينما الراقية ويتمعنان المجلات الفنية ليختارا أفضل الأفلام المعروضة في صفحاتها رغم انهما غالبا ما كانا يختلفان في وجهتي نظرهما حول أفضلية الفيلم الذي يستحق المشاهدة قبل ان يستقرا على رأي واحد بعد مشقة في الأخذ والرد ! . وبعد ان ينتهيا من مشاهدة الفيلم سرعان ما يقررا الذهاب الى الكنيسة المجاورة ليس لأداء الصلاة والطقوس الدينية بل لأجل ان يريحا نفسيهما من عناء الجلوس الطويل فليس هناك أفضل من المدارج الحجرية يستلقيا عليها كل ليلة في وضعية توحي للناظر بأنهما محض متسولين منهكين من أداء وظيفتيهما طول النهار !.
وعندما كانا يخرجان معا في الليالي الهادئة كان الصمت يخيم بينهما في معظم الأحيان ,لكنها سرعان ما كانت تحاول دون يأس لكسر هذا الحاجز بأن تتعمد الهمهمة والغناء بصوت خفيض لتخرج من عشيقها بعض الكلام لكن دون جدوى, فكانت عند جلوسهما في إحدى المطاعم تتعمد فتح الحقيبة دون سبب أو تجول ببصرها يمينا ويسارا نحو المارة و الزبائن لكنه سرعان ما كان يرد عليها بابتسامة متكلفة رسمتها كثرة قراءاته الأدبية وخبرته الطويلة في عالم النساء . فبعد مرور ستة شهور على غيابه الطويل عنها كتب إليها في إحدى رسائله قائلا : ” عزيزتي ماريا كما تعلمين عملي الأدبي الشاق يفرض علي السفر والتجوال المستمر لذا قررت بعد تفكير طويل المكوث لفترة أطول بعيدا عنك وهذا يعني بأن عرضك الأخير لي كان شبه مستحيل بالنسبة لي, أو دعيني أقل مفردة لا يمكن ان تدخل قاموسي, فكما تعلمين
عملي يقف حجر عثرة أمام موضوع “الزواج” هذا بالرغم من اني سبق ان أجبتك برفضي لهذا الأمر لأكثر من مناسبة “. فأرجوا ان تقدري ظرفي وتتفهميه” .. مكتفيا بتوقيعه فقط .
لم تفض ماريا غلاف الرسالة لأن خاطرها كان سيتلو عليها سطورها عاجلا أم آجلا فهي تعرف طبعه جيدا أكثر من درايته بنفسه رغم انه دائما ما كان بين الحين والآخر يتبجح أمامها بالغموض والتميز عن الآخرين , وفي أيام سفره الطويل لم يكن أمامها فعل شيء غير اللجوء الى الخياطة المملة وترتيب البيت كل صباح ومساء بشكل دقيق كمن هي مصابة بوهواس الترتيب والنظافة الشائع في نساء البلدان الباردة!, بالرغم من ان غايتها من الترتيب والتنظيف هي لطرد الفراغ من عالمها لا أكثر . وفي إحدى الأيام خرجت من بيتها في سابقة نادرة لتكتشف أثناء سيرها لمسافة قصيرة بأن ساقيها غير قادرتين على المشي بشكل مستقيم بسبب أفكارها المتخبطة التي كانت تنعكس على طريقة سيرها فضلا عن دماملها التي انتعشت بشكل ملحوظ مع غياب رفيقها عنها وجلوسها أمام ماكنتها لوقت أطول من المعتاد فكأنها في تنزهاتها القصيرة تبحث عن سعادتها المفقودة لتجدها بين قهقهات الأطفال وتراكظهم نحو المجهول , أما منظر العشاق الذين كانوا يمرون من أمامها فكان يشعرها بالغضب الممزوج بالإحباط دون ان تعبر عن هذا الشعور بكلمة . ومنذ ذلك الحين مرت الأيام دون ان يكتب لها شيئا لتتفاجأ في يوم من الأيام برسالة كان يتحدث فيها عن ضرورة هجرانها الى الأبد متذرعا هذه المرة بأن لديه إبنا غير شرعي يسكن في بلاد الشرق عليه ان يترك كل شيء وراءه ليتفرغ من أجله فضلا عن توكيله لمنصب دبلوماسي رفيع وهذا يعني عودته إليها أمرا مستحيل !. بالرغم من ان صدى المفاجأة كان قويا عليها إلا انها كانت تعلم في نفسها بأنه سيهجرها عاجلا أم آجلا بصرف النظر عن العذر أو الرواية التي سيتذرع بها فرجل هوائي متقلب بين أحضان الدول والنساء لا يمكن ان يستقر على حب امرأة طويلا هكذا تقول القاعدة الشائعة !.
وقعت بصرها على محفظة رسائله بينما تنظف أركان بيتها كأن بحرا من الغبار التحفها فهي على وقع رسالته الأخيرة قد أهملت جميع رسائله وكل ما كتب فيها فما فائدة تنظيفها وترتيبها بعد اليوم وقصتها الطويلة انتهت معه الى هذا المطاف .
لم تعد لديها أدنى خيارات ولم تعد الاحلام والآمال مجديا لها هذه المرة فكانت في كل مساء تستلقي على الشجرة الذاوية في حديقة البهو ترى من خلالها البيت بما فيه كل شيء كقمقم ضيق يخنق أنفاسها لكن رغم ذلك كان هناك شيئا يسيرا من بريق الانتظار يلتمع في عينيها أما في هذه اللحظات بالذات فكانت تسبح بحماسة في بحر العزلة المتجمد الذي بات هاجسها
الجديد منذ اليوم لتبتعد تدريجيا عن صرخات الذكريات البعيدة وعن حروف الرسائل البيض التي باتت أرشيفا يرقبها في كل خطوة تبحر فيها ! . 

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب