المتتبع لاعراض التردي والتدهور الذي حل بكيان عراقنا اليوم، يندهش عندما يجد ان الوسيلة التربوية والتعليمية التي وجدت في الاساس لتهذيب الانسان وتثقيفه وتقويم سلوكه وتنمية تفكيره وتوسيع دائرة ادراكه وعقلانيته، تحولت في عراق 9/ نيسان، بفعل التوجيه الخاطئ الى عكس هذه الاهداف المرجوة من وجود التربية والتعليم، فانعدمت الفلسفات التربوية الصالحة وتناقضت سياسات التعليم وغابت الاهداف، وسادت الاراء الزائفة والاحداث والوقائع الوهمية المصطنعة، مناهج التربية الوطنية والعلوم الانسانية، وتحول التاريخ الى مجموعة من الاكاذيب المفضوحة التي يرفضها ويمجها حتى الساذج.
وكرست النزعات المذهبية والمناطقية والعشائرية نفوس العراقيين، مما جعل الانسان العراقي يستشعر الارتباط العاطفي والمصلحي بالآخر المختلف المتحضر،المخالف له في الجنسية ، ويكن له في نفسه من التقدير والاحترام اكثر مما يكنه لأخوته واشقائه العرب .
ولقد ادت التربية والتعليم الاسوأ الى بناء ازدواجية التصرف والسلوك في نفوس العراقيين الذين تأثروا بهذه التربية، فدفعتهم الى معاملة الآخر المختلف باحترام وتكريم يزيدان عن الحد المطلوب، ومعاملة العرب خاصة والمسلمين عامة بنوع من الازدراء وعدم الاهتمام، مما اوجد في نفوسهم شعوراً بالحسرة والألم على ما وصل اليه حال امتهم.
ولقد اتخذت ظاهرة المبالغة في تقدير وتكريم هذا الآخر والاقلال من قدر وقيمة العراقيين ظواهر عديدة يجب الانتباه اليها ومن بينها – ان الذين تعودوا السفر بين الاقطار العربية والبلدان الغربية لاحظوا فرقاً كبيراً فيما يقدمه موظفوا بعض المطارات العربية للزائرين الاجانب من تسهيلات في المعاملات وترحيب في الاستقبال بغض النظر عما يتصف به الزائر الغربي من انضباط او استهتار بالنظم والقوانين والاعراف والتقاليد، وما يجده الزائر العراقي في نفس الوقت ونفس المطار من هؤلاء الموظفين العرب من تعقيدات وصعوبات ونظرة شك وريبة وسوء معاملة، واهمال متعمد، وقلة اهتمام مهما كانت مكانة هذا الزائر العراقي في بلده ومركزه الادبي والعلمي ودرجة انضباطه واستقامته، بينما تعامل البلدان المتحضرة جميع الوافدين عليها والزائرين لأرضها والمقيمين فيها معاملة متساوية حسب نظمها وقوانينها بغض النظر عن اللون والنوع والجنسية والديانة…ولا يوجد تفسير علمي لهذا السلوك المزدوج المنحرف الغريب الا سوء التربية ورداءة التعليم اللذان يصاحبان تربية المواطن سواء العراقي او العربي في جميع مراحله الدراسية والتربوية.
ومن مظاهر عقدة ازدواجية السلوك –عراقياً- التي تنشأ عن سوء التربية، ان بعض مؤسساتنا عندما تستخدم خبراء اجانب متساويين او متقاربين في الشهادات العلمية ودرجة الكفاءة ومدة الخبرة، تمنح الخبير الاجنبي اضعاف ما تمنحه للخبير العراقي من أجر ومخصصات مالية، وعندما يسأل عن السبب المنطقي في ذلك: هل العراقي تنقصه الخبرة والعلم والكفاءة المتوفرة لدى نظيره الاجنبي؟ فيجاب بـ لا!
اذن، هل يكلف بعمل أقل واسهل يتفق مع ما يتقاضاه من مبالغ قليلة بالنسبة لنظرائه وزملائه الاجانب؟ فيجاب بـ لا ايضاً.
اذن، ما هو المبرر المنطقي الذي يقبله العقل والمنطق؟ فيصعقه الجواب – انه عراقي، هذا هو السبب، فلا يملك ان يفعل شيئاً الا ان يشد شعره حسرة وأسفاً على مدى وما وصل اليه حال البعض من انحطاط في التفكير والتدبير، وسوء الحكم والتقدير، أيهان العراقي في هذا الزمان على هذا النحو من لدن قومه؟
واغرب ما عرفه عراقنا من ظواهر التصرفات الشاذة في ادارة الشؤون العامة، انه عندما تضطره الحاجة الى استخدام اجانب لا يحدد لهم رواتبهم ومخصصاتهم حسب كفاءاتهم ومدة خبرتهم ودرجة علمهم وطبيعة عملهم وانما حسب نوع جنسياتهم ، وللقارئ ان يتصور اجتماع هيئة تدريس جامعية يحملون شهادات علمية متساوية، ويقومون بعدد متساو من الابحاث والمحاضرات الجامعية، ومع ذلك يتقاضى بعضهم (كذا الف) وبعضهم (اكثر) وبعضهم ضعف الاثنين. وهكذا تتفاوت اجورهم عن عمل متساو بينهم لسبب واحد وهو اختلاف الجنسيات التي يحملونها. ولا أفهم كيف يكون شعور هؤلاء الاساتذة نحو بعضهم ونحو تلاميذهم، وهم يعيشون هذه الاوضاع الشاذة في بلادهم؟ وما هو انعكاس هذا الوضع الغريب على انتاجهم وعملهم ونفسية تلاميذهم الذين وضعوا امانة في ايديهم؟
ويعلم الله اني شاهد بنفسي وجود هذه المهزلة عندنا. ويسأل عن السبب، فيأتي الجواب: تعليمات عليا يصدرها المنفردون بالسلطة، ولا يستطيع احد مناقشتها او السؤال عن سببها، فأجهزة الاعلام ملك لصاحب السلطان وحده او على احسن الاحوال ملك لاتباعه وذويه وبطانته.. واين رأي ممثلي الشعب – ان وجدوا- من اعضاء البرلمان؟
انهم من فئة الموافقين بالاجماع دائما على كل شيء بفعله السلطان حتى ولو لم يسمعوا او يعلموا عنه شيئاً.
ومن الامور الدالة على مدى تأثير التربية السيئة في تصرفات الانسان العراقي وانعكاساتها على تسيير الامور العامة والخاصة. ان بعض مؤسساتنا عندما تحتاج الى الاستعانة بالخبرة الاجنبية في بعض المجالات وتستقدم وتستخدم بعض الخبراء، يصادف ان يكون من بينهم في بعض الاحيان خبراء عراقيين اكفاء ولكنهم يحملون جنسيات اجنبية، وبمجرد ما تدرك المؤسسة العراقية التي استقدمتهم واستخدمتهم، انهم خبراء عراقيون اكتسبوا جنسية هذه البلاد المتقدمة بالتجنس او الولادة من اباء واجداد تجنسوا قبلهم، تبادر على الفور بانهاء عقودهم وفصلهم من اعمالهم او على احسن الاحوال تخفض رواتبهم ومخصصاتهم المالية الى اقل من نصف ما تدفعه الى زملائهم الاجانب، حتى تشعرهم وتشعر الآخرين من حولهم، ان المواطنة العراقية التي ينتمون اليها بطريقة ما، جريمة يجب ان يعاقبوا عليها بالفصل من العمل او انقاص الاجر. ويشهد الله ان ما ذكرته حدث اكثر من مرة ومن اكثر من مؤسسة عراقية مع اكثر من خبير عراقي يحمل جنسية اجنبية، ولست بصدد تحديد
المؤسسات وتاريخ الوقائع والاشخاص لان غرضي من هذا الحديث مجرد التبصير بالاخطاء لتفادي تكرارها في المستقبل، ولا اقصد الاساءة الى مؤسسة او احد من الناس بالتلميح او التصريح.
وكما دفعت التربية السيئة بعض العراقيين للاستخفاف بأمتهم وكونت في نفوسهم عقدة احتقار الذات التي انعكس اثرها في النماذج السلوكية السابق ذكرها وما يماثلها او يشابهها من النماذج السلوكية الاخرى.
احدثت هذه التربية الكثير من التأثيرات السلبية الاخرى في بناء الاجيال العراقية، فمن التأثيرات السلبية على سبيل المثال لا الحصر، حالات التفكك والانفلات التي يعانيها الكثير من الشباب العراقي المشرد بمئات الآلاف في اوروبا وامريكا، فمعظمهم جرفه تيار الانحدار والانحلال، وانسلخ انسلاخاً كاملاً من كل الروابط التي كانت تشده الى العراق واهله، مما اكد فشل المؤسسة التربوية (المدرسة والجامعة) التي احتضنته واشرفت على بناء شخصيته في جميع المراحل الدراسية التي مر بها اثناء نموه العقلي والبدني في بلده.
ولقد تحولت مؤسساتنا التربوية في معظم الحالات من وسيلة للتنمية وبناء شخصية المواطن بناء قوياً في عقله وبدنه الى ادارة لتشويه شخصية الناشئ وتعويق نموه نمواً طبيعياً سليماً لانعدام ديمقراطية الرأي في الفلسفة التعليمية وغياب استقلالية التخطيط والتنفيذ، فلم تعد المدرسة ولا الجامعة مرغوبة لذاتها باعتبارها وسيلة لاكتساب العلم وسلماً للرقي الاجتماعي، وانما اصبحت مجرد طريق يسلكه الانسان مضطراً من اجل شهادة تتيح له الجلوس على احد مكاتب الحكومة كموظف يتقاضى اجراً ثابتا ومضموناً مدى الحياة، لذلك وجد فيها العامل البسيط والفلاح الكادح اسهل الطرق لانقاذ ابنائه وبناته من مهنة العرق والتعب والانتاج اليدوي الذي وضعه فيها اباءه، فبادر من فوره الى نقل ابنائه الى المدرسة والجامعة، كي يتعلمو ويلتحقوا بعد ذلك بوظائف الحكومة في المدينة وهكذا بدأ الفلاح يهجر ارضه والعامل يهجر مصنعه واخذ عدد الموظفين الكتابيين يزداد وعدد المنتجين يقل مع مرور الايام والشهور والاعواد، مما جعل العراقي في حال عجز مخيف فيما ينتجه سواء في مجال الزراعة او الصناعة.
ونتيجة لما احدثه التعليم الرديء والتربية السيئة من تشويهات في شخصية الدارس فقد ضعفت علاقته بالمجتمع والناس وأحس بالغربة عنهم، وتحول الانتماء الوطني والقومي من انتماء عاطفي متدفق الى انتماء كلامي مصطنع صادر عن مصلحة شخصية او نوع من النفاق الاجتماعي العام ومجاراة الناس من حوله، وفقد هذا الانتماء جزءاً كبيراً من مدلوله الفعلي كسلوك عملي ملحوظ في مجالات الحياة وتطبيقاتها.
فقليل اولئك العراقيون الذين يترجمون انتماءهم الوطني القومي الى ضبط سلوكهم عند تواجدهم في الخارج ضبطاً يرفع من قيمة امتهم، وقليل اولئك الذين يعاملون الاجنبي الوافد لبلادهم او الزائر السائح فيها معاملة ودية جميلة فيها من الكرم وحسن المعاملة ما يجعله مطمئن البال سعيداً بزيارته او وفادته مما يحوله الى وسيلة من وسائل حسن الدعاية بين اهله وقومه بعد عودته لبلده، وقليل من يشعرون ان الدفاع عن الوطن والانخراط في الجندية واجب شخصي يقوم به الفرد من تلقاء نفسه قبل ان تعرضه الدولة عليه بقوة القانون، وان اداء الضريبة المستحقة للخزانة العامة بدون احتيال على انقاصها والتهرب منها هو مكسب لهم وليس خسارة
عليهم، وان الانتماء الوطني والقومي ليس شعارات ونداءات ولافتات خالية من المعنى مجردة من المدلول وانما هو حرص على راحة الناس واحترام لحقوقهم في نظام المرور والسير في الطرقات والوقوف او الجلوس في المحلات العامة، وقضاء مصالحهم وانجاز معاملاتهم في الادارات الرسمية ودواوين الحكومة، والحرص على نظافة الشوارع والحدائق والاحياء السكنية والمنازل… وعدم الغش التجاري ونحو ذلك من انماط السلوك الايجابي المفيد.
كل هذه الانماط من السلوك الجميل والانتماء الفعلي قد اهملتها التربية ونسيها التعليم، بل اغفل المسؤولون عن المناهج التربوية حتى طبع تلك الارشادات والتوجيهات البسيطة التي كانت تطبع على اغلفة دفاتر التدريس ويحفظها الدارس منذ وجوده في روضة الاطفال، فترسخ في ذهنه كضوابط وقوانين سلوك وعمل، تلازمه في كل جانب من جوانب حياته وتتحكم في كل اقواله وافعاله بطريقة تلقائية دونما حاجة الى تدخل روادع وكوابح صناعية من خارج ذاته.
هكذا جردت التربية المدرسية في معظم طرقها من التوجيهات الايجابية ومن مدلولها الاصلي، وزيفت حقيقتها وتحولت الى وسيلة لحشر الناشئين في فصول ضيقة مزدحمة، وتعطيل نموهم الذهني والعاطفي والبدني بطريقة طبيعية سليمة، واصبحت المدرسة وحتى الجامعة وسيلة لتلقين الدارس العراقي عواطف فطرية انغلاقية تشعره بتناقض وجود العرب الاخرين من حوله خدمة للمخططات المشبوهة الرامية لتمزيق الامة العربية وتشتيتها، اكثر مما هي فيه ، كما اصبحت المدرسة والجامعة في العراق مكاناً لتزييف الحقائق التاريخية في نفوس الدارس وتعليمهم كيف يعظمون زيداً المتربع وحده على كرسي السلطان ويحقرون عمراً الذي اطاحت به دائرة الزمان.
اما ما حققته التربية عندنا من انجازات عملية في مجال توحيد العراقيين ولم شتاتهم فيكفينا دليلاً على جهودها، انه كلما خطونا خطوة نحو وحدتنا الوطنية، ابعدها عنهم بعض المنفردين بالسلطة ميلاً.
ولنكتف في هذه المقالة من القول، بمجرد الاشارة، عسى ان يكون في ذلك ما يوضح الفرق بين ما يقوله الانسان وما يفعله، وما ينبه الاذهان الى ان التاريخ ليس بغافل عما فعل المتنصلون من التزاماتهم التي الزموا بها انفسهم بمحض اختيارهم وحر ارادتهم.