مما يؤسف له ان تصل الامور في السودان الشقيق الى حالة الاقتتال بين طرفين عسكريين كأن جل تفكيرهما واهتمامهما عندما يتطلب الأمر منهما إيجاد الحلول المناسبة لتسليم السلطة الى الشعب سلميآ , هو مكبّل بالسلاح والذخيرة ومناهج التدريب وصلصلة الانفجارات المؤججة لعواطفهما وعواطف القوى الخارجية المتعددة التي تنتظر منهما ذلك ,
وهذا , بالطبع , ليس موجودآ في تفكير العديد من القادة العسكريين العاملين في خدمة الوطن تحت رايته الواحدة , بل يراه المرء بعيدآ حتى عن رؤيتهم وإن كانت الامور السياسية التي تمر بها البلاد تتحول الى مناقشات تستفز وتحرّض الى ذلك كالتي جرت وتجري الآن في السودان الشقيق , اذ ان الوطن هو السرر والأرائك وكل مستلزمات الحياة الخاصة بالإنسان ومستقبله , وهو يقاس بمثابة الكعبة التي حرّم الله القتال بها بعد قتال الرسول فيها لساعة واحدة من النهار.
والتحريم جاء نظرا لحرمة الكعبة كونها مركزا لعبادة الرحمن , تتوافد عليه العباد بالثوب الابيض الذي يرمز الى السلام والسكينة , والمكان برمته كأنه عالم يختص بالإستغفار , يفصل مابينه وبين عالم البيع والشراء والمنازعات والمصالح والقلق والافكار السطحية ,
وللوطن أيضا مكانتة وحرمته على حد سواء عندما تسود في تعاملات ابنائه اساليب الحياة العقلانية وهي غير قابلة لكي تنتزع بالحرب واقتياد الوطن الى قواعد التفكيك والتفتيت كالتي جرت على بلدان عربية واجنبية من قبل وتسلط الأشرار على حكم شعوبها بشكل يرتكز على التبعية والخضوع لتلك القوى الخارجية فينجم عنها العذاب والويل بنموذج يتبع مسارآ سياسيآ لايمكن التنبؤ بمستقبله .
ولكن بوادر نشوء الحرب في السودان عندما تسلطت زمرة من القادة الأشرار وانطلاق مشاهد التظاهرات وقتل الناشطين بدأت بمرحلتين ; الأولى , منذ ان تم تشكيل المجلس السيادي العسكري بعد الإطاحة بنظام الرئيس البشير واعقبه اصدار الوثيقة الدستورية والتوقيع عليها في 17 آب 2019 من قبل المكون العسكري وإئتلاف قوى الحرية والتغيير , واعتبرت الوثيقة المرجع القانوني للبلاد لفترة انتقالية امدها 39 شهرآ تجري في نهايتها الانتخابات حول تسليم السلطة الى المدنيين .
اما المرحلة الثانية , فقد بدأت بعد الإنقلاب العسكري وتعليق الوثيقة الدستورية واعلان حالة الطواريء الذي قام بها عبد الفتاح البرهان واعتقال عبد الله حمدوك بسبب عدم موافقته على رؤية البرهان في انقلابه الذي يؤسس الى عدم فصل الدين عن ادارة الدولة من ناحية ,
وبعد 2 تشرين الثاني 2020 عندما تم تغيير بعض البنود في الوثيقة الدستورية وتعليق بنود اخرى بسبب تشكيل مجلس جديد في البلاد تحت مسمى “مجلس شركاء الفترة الانتقالية”، يختص بالفصل في الاختلافات التي قد تنشأ بين الأطراف السياسة المختلفة من ناحية اخرى ,
في هاتين المرحلتين بدأت اشارات عديدة تنعكس امام نائب رئيس المجلس الجنرال حميدتي الموالي السابق لنظام عمر البشير من جهات عسكرية موالية لنظام البشير يمكن ان تتسلل الى الحكم تحت جناح رئيس المجلس عبد الفتاح البرهان والعودة بالسودان الى الحكم الاسلامي الراديكالي الذي تمتاز واجهته بالإصلاح الشامل بالبلاد , وهذه الجهات لاتختلف من حيث عدم الثقة بإستقامته ومعه البرهان الذي بدت آرائه القمعية في الوثيقة الدستورية واضحة ,
في الوقت الذي ادرك انه في موضوعة دمج قوات الرد السريع التي يقودها والتي تم التوقيع عليها بالوثيقة المذكورة , ستجرده من قوته التي تبجّله امام انصاره من العشائر واتباعه , بل سيكون في حالة من عدم الاحساس بالأمان والإطمئنان , خاصة ان قواته تسيطر على مناجم الذهب في منطقة جبل عامر في دارفور منذ 2016 وجنى منها ثروة هائلة لبناء قواته المسلحة التي بلغت المائة الف مقاتل , علمآ انه سلّم منجمآ واحدآ منها الى وزارة التعدين السودانية , كجس نبض لمايجري بعد ذلك من حقبة المجلس العسكري الأنتقالي ,
لذلك ادرك من ناحية ان انصاره لايرضيها ان تسلب الحكومة مناجمهم التي تدر عليهم اموالآ طائلة ليكونوا اذنابآ تحت امرة مناوئيها بقوانين حكومية تنحّيهم من المشهد السياسي بشكل وئيد على المدى البعيد .
لذلك ابتدأ حميدتي بتمرد قواته التي يقودها تحت عنوان ” قوات الرد السريع ” على البرهان وبدأ بإنتشارها في مناطق عديدة من البلادوخاصة العاصمة الخرطوم من دون موافقة البرهان ردآ على تحرك البرهان نحو الراديكالية .
لاشك ان الحرب الحالية ستتيح للمشهد السياسي ان يتنوع بمراح دراماتيكية , إذ ستظهر شخصيات سياسية وتتلاشى اخرى , ولكن الخطوة المهمة لدى البرهان هي احتلال كل مناجم الذهب اولآ , والابتعاد عن بث افكارة التي اعلنها تدريجيآ من اجل استقرار يضمن الثقة به رغم مايوعد به من وعود زائفة ,
وهو بذلك ليس جديدآ كرئيس وزراء يدعو الى كسب ثقة الدول الكبرى اولآ وازالة الذعر من قلب المواطن السوداني الذي عانى من حكم البشير الراديكالي الفاسد واعطى من الدماء الكثير ثانيآ .
ان اشكال التوترات بين الأقطاب السياسية الحاكمة تحت راية الدولة الواحدة تؤسس دائمآ الى الحروب الأهلية التي تستجيب بالنهاية الى حلول يتحملها الشعب لوحده لأنه لايحاط علمآ بكل الاتفاقات التي تضرّه , وخاصة عندما يكون احد الطرفين العسكريين المتمثل بالنائب حميدتي سطحيآ بالثقافة العسكرية والسياسية ,
فالرجل قبائلي وتاجر للأبل ولايملك اي شهادة اكاديمية لتكون له دليلآ في الحياة السياسية , ناهيك عن قوة تأثير انصاره عليه سواء بإستجابته للبرهان او معارضته له من ناحية , او لإستجابته للقوى الخارجية في ايجاد حل مناسب لهم , او لإستمرار مسار صواريخ الحرب المتجهة الى العاصمة الخرطوم .