19 ديسمبر، 2024 7:35 ص

للتو نفضت يدي من تراب قبرها ..النار تشتعل في صدري لهبا مقدسا يكاد يذيبني ويحولني الى شعاع يخترق ذرات التراب التي اهيلت عليها ..اصرخ بألم دعوني اريد ان تزهق روحي ..دعوني اريد ان الحق بها ..لكنهم ابعدوني بقوة وسحبوني الى خارج المقبرة ثم وضعوني في السيارة فكان ولدي الصغير الى جانبي يشاطرني الالم والدموع .فرحت اناجيها قائلا:-

من كان يدري انها سترحل سريعا كما السحاب ,بل كما النسيم .بل كما البرق الخاطف.

ياه …كم اشعر بالحنين ويخذلني الصبر فما عاد لي من احتمال..

رفقا بروحي فأنها رفيقك الدائم.

الا تعلمين ….؟

حياتي معلقة بين ان تكوني معي وبين الموت وحيدا..

رفقا بروحي فأنها اضحت تأن ..تتألم …تراقب الموت البطيء زاحفا بلحظات أخالها الدهر .

وهاجسي انك ما زلت معي في كل خفقة قلب ,في كل دفقة دم ,في كل طرفة عين …اقول واعيد القول …رفقا بروحي فأنها رفيقك الدائم .

وتذكرت يوما زعمت لها انني سأهاجر الى عالم آخر….فرفعت اليّ ناظريها وارتسمت فوق شفاهها ابتسامة حزينة وهتفت قائلة:-

لا تحملني عناء الرحيل…

الا تعلم انني هنا كشجرة السنديان لا…لا…استطيع ان افارق هذه الارض ..

الا تعلم انني استمد حياتي وانسانيتي بهذا الانتماء…!!!

قلت محتجا لكن الا تنظرين …؟

وتتابعت كلماتي…

هنا خراب دائم كلما امتدت يد للأعمار تزاحمت ايدي الخراب لتعجزها ولتزيد حجم الدمار.

ليس لنا من وطن …انه خراب واحتراب …معاول معدة للهدم والخراب.

وتوسلت ُكلماتي اليها…لنرحل فأنا لا أحب الحرب ولا اطيق ان اعيش عذابها الدائم.

اذ ذاك رأيت في نظرتها عتاب ولوم فهي لم تألفني ضعيفا كما ظهرت لها في تلك اللحظات ولهذا بادرت الى الهرب خارجا كي لا تلاحقني نظراتها ولا اسمع عتابها لكن كلماتها كانت اسرع من خطواتي وسمعت عباراتها كأنها النشيج:- …

انت تعلم انني لا استطيع ان امد يدي لغير خالقي واخجل ان اوضح معاناتي حتى للمقربين…فلا اشركهم في المي بل انطوي عليه اضمه الى الحنايا كما تضم الوردة اكمامها واعمل جاهدة على ان يكون كل شيء على ما يرام وان احتملت شديد الاذى.

واستمرت كلماتها كأنها الشكوى …تعلم انني اخجل ان امد يدي لاحد فكيف تريد لي الحياة في الغربة…؟وانت على يقين انني حين اعود من زيارة الاهل والاحباب ورغم طيب الاستقبال وحسن الضيافة اعود متعبة مجهدة ادور كالفراشة في ارجاء بيتي……حقا هي كذلك وقد حفظت عبارتها الدائمة وهي مثل شعبي باللهجة العراقية الدارجة ويردد ه الكثير من الناس(لو ابيت الله مثل ابيوتي لا والله) وحين تقرأ الدهشة على ملامحي تقول ضاحكة انا سنديانة تمد جذورها الى الارض وترفع رأسها الى السماء ,لله وحده اتوجه بدعائي ان لا يحرمني عطفه ورحمته.

حاولت ان اثير مخاوفها لتوافقني الرأي وترافقني الرحيل ولكنها كانت عنيدة وقالت بغضب :- لن اكون ضلا للأخرين اجل ولن اكون عبئا على احد ..واسترسلت بنبرة حادة وقد اكتسى وجهها حلة ارجوانية عكست المها وعذابها لن اتسول عطف الدنيا ولن اكون جزءا من مشكلة كبيرة تضاف الى المشاكل الاخرى التي يعاني منها وطني …لا…لا ..لا ابدا ان ذلك ما لا يمكن ان يحدث..

قالت عبارتها الاخيرة بحزم وبيقين من لا يمكن ان يتراجع عن قراره مهما كلفه الامر وانا اعرفها جيدا لا يمكن ان تهرب من المواجهة فالحكمة التي تقتدي بها هي كلمة الامام علي عليه السلام (اذا هبت امرا فقع فيه) وكلما حدثتها عن حال معينة اجدها غير لائقة تسالني ماذا فعلت لتغير ذلك الخطأ وحين يكون جوابي النفي تقول لا يكفي ان نبين الخطأ وانما ينبغي ان نعمل على تغييره ونبذل ما امكننا من

الجهد ليصير الحال افضل فرددت شفاهها احد الشعارات التي حملها المشاركين في التظاهرات المليونية ( لن اهاجر…ابحثوا عن عبيدكم بعيدا عني …) ورفعت بصرها الي قائلة:-

هذا الاعتقاد المنطوق اثلج قلبي وجعلني اجدد آمالي التي اوشكت على الانهيار ..عاش محبو الوطن والمدافعون عنه ضد انواع الهجمات التكفيرية او الجاهلية او سرقة احلام وآمال الشرفاء…سيبقى وطني شامخا متعاليا رغم كل عواصفهم وقواصفهم بسواعد جيشنا الباسل وحشدنا المقدس والاشراف الطيبون وهم كثر في وطني الغالي فما كان مني الا ان هتفت بنبرة قاسية حادة … آه….آه…آه … هكذا اذن ..لكني سأهاجر وحدي وابقي انت في وطن يعيش المآسي مدى الدهر واضفت, الحمد لله الذي لم يجعلك مسؤولة كبيرة لأنك كنت ستقتلين واكدت كلمتي الاخيرة أجل كنت ستقتلين لان اسلوبك هذا وتعاملك لا يروق ذوي المأرب والمخالب… تبتسم ابتسامتها الهادئة وتجيبيني.. هكذا قدر الله تعالى وما قدره الله تعالى فهو الخير والرحمة…خرجت وصفقت الباب خلفي وعبرت الشوارع لا الوي على شيئ.

….

ما ان جلست بمكتبي حتى تلقيت مكالمة هاتفية مضيت بعدها الى المستشفى .. آه.. ما اسرع ان فجعني القدر بأمره ففقدتها على حين غرة حين مضت الى عملها ففاجأتها مركبة حمل اودت بحياتها وحولتها الى جثة هامدة في لحظات .

أحدث المقالات

أحدث المقالات