23 ديسمبر، 2024 1:39 ص

فالح عبد الجبار رحل جسدا.. وظل فكرا

فالح عبد الجبار رحل جسدا.. وظل فكرا

العظماء يرحلون ولكن لايموتون.. بهذا الرثاء الفخم ترجل عن صهوة الفكر والبحث العلمي والفلسفة، المفكر والباحث العراقي الدكتور فالح عبدالجبار، في 26/شباط/2018.

ولأن روحه غادرت واثره باقٍ.. فأن الحفل التأبيني الذي تقيمه دائرة العلاقات الثقافية العامة/وزارة الثقافة، في المتحف العراقي الوطني، حيث ستقف روحه المتعطشة الى السلام امام الثور المجنح، ليشهد استذكاره في رحلة الفكر والبحث المعرفي والنضال والتضحية التي خاضها طوال سنين افنى خلالها زهرة شبابه، تاركا خلفه إرثا كبيرا وغنيا من المؤلفات وترجمات الكتب المهمة التى قدمها للقارئ العراقي والعربي والاجنبي.

غادر فالح عبدالجبار العراق عام 1978، وعمل أستاذا وباحثا في علم الاجتماع في جامعة لندن، مدرسة السياسة وعلم الاجتماع في كلية بيركبيرك، وفي العاصمة البريطانية وجد فرصة لمواصلة الدراسة التي انقطع عنها، وتكللت دراسته برسالة دكتوراه، قال الباحث البريطاني الراحل فريد هاليدي “انها تعادل رسالتي دكتوراه على أقل تقدير”.

بعد ذلك انتقل الى جامعة لندن متروبوليتان للعمل محاضراً فيها. ولما كان عبدالجبار يفضل البحث النظري المشفوع ببيانات ميدانية على التدريس، فقد سعى لتأسيس معهد دراسات عراقية.

فاختار بيروت مقراً للمعهد، ونال المعهد بفضل إسم مؤسسه سمعة كبيرة في الأوساط الأكاديمية وبين نظيراته من مراكز البحث في المنطقة العربية والغرب. وعمل مديرا للبحث والنشر في مركز الدراسات الاجتماعية للعالم العربي التي يوجد مقرها في نيقوسيا وبيروت (1983-1990)، وتخصص بدراسة الفكر السياسي والاجتماعي في الشرق الأوسط. فيما تتناول أعماله: الدين، دور القانون، الصراع الديني والمجتمع المدني.

المفكر الراحل الذي نعته الاوساط الثقافية المحلية والعربية، توفي إثر جلطة قلبية مفاجئة في أحد مشافي بيروت عن عمر اثنين وسبعين عاما، ليشكل رحيله خسارة كبيرة للثقافة العراقية، فمؤلفاته وحراكه المدني قادا مسيرة التنوير في العراق منذ بواكير اشتغاله في مضمار الكتابة، وحتى رحيله الحزين. وآخر زيارة للراحل إلى وطنه كانت في تشرين الثاني 2017 إذ قدّم خلالها مجموعة من الندوات القيّمة.

اما آخر ماكتبه المفكر الراحل كان حول اهمية السعي لإنشاء الدولة المدنية في العراق، محاولا التقريب بين المدنيين و”الوسطية الإسلامية” لمواجهة الفساد المستشري وبناء الدولة المدنية.

اذ كان اخر ماكتبه الراحل كتاب “دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي ..”داعش” والمجتمع المحلي في العراق”، مشيرا الى ان الدولة الفاشلة في العراق مسؤولة عن نمو الحركات التكفيرية، ولولا ذلك الفشل في الادارة، لبقي التيار التكفيري تيارا اجتماعيا صغيرا.

أما “كتاب الدولةـ اللوياثان الجديد” فحاول تحليل أصول العلاقة بين الريعية النفطية والديكتاتورية، وأسباب خضوع المجتمع وصولا إلى التفكك والأزمة.

ويرى الكاتب حسام ابو حامد ان الراحل قد آمن بعلم الاجتماع كمرآة صادقة يرى فيها المجتمع نفسه دونما تشويه، وأكد على أن تكامله مع باقي العلوم الإنسانية يشكل مدخلا لفهم واقع المجتمع العربي الراهن. لذلك ظل أمينا للبحث الاجتماعي، ساعيا إلى تخليص علم الاجتماع من أيديولوجيا مسقطة، وأحكام أخلاقية مسبقة.

وفي اشارة الى نفس الكاتب، اضاف ان المفكر عبدالجبار عني بتفكيك بنى الاستبداد، ونظر إلى سورية والعراق وليبيا واليمن، بوصفها نماذج لخواء المجتمع من الفعل، حيث ألحقت الدولة بأجهزتها المؤسسات الاجتماعية، أو بادرت إلى خلقها قبل المجتمع، مما أفقدها دورها وسيلة تغيير وتحريك. لكن هيمنة الدولة على المجتمع بدأت بالتراجع منذ العام 2010، حيث انفتحت سوق المعرفة المحتكرة بفعل التكنولوجيا ولم تعد قنوات المعلومات بيد الدولة وحدها.

إن شرعية الدولة تستمد من رضا المجتمع، وإلا لجأت إلى القمع السافر، مما يضعف الطرفين معا. ومن خلال كتابه “في الأحوال والأهوال: المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف” (2008)، يؤسس منهجية جديدة في سوسيولوجيا العنف، محملا الدولة نصيبها من المسؤولية عن العنف بوصفه ثقافة.

وظل العراق هاجسه طيلة هذه السنوات، فأنجز بحوثاً وكتباً بينها “الحركة الشيعية في العراق” و”آيات الله والصوفيون والايديولوجيون”، وكلاهما بالانكليزية، و”العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الشيعي، نموذج العراق”، و”دولة الخلافة، التقدم الى الماضي (داعش والمجتمع المحلي في العراق) وغيرها الكثير من مشاريع ظلت خلفه تنتظر من يكملها.

واخيرا.. سيبقى الدكتور فالح عبد الجبار نجمأ ساطعأ في سماء العراق بكتاباته وافكاره وانسانيته وصدقه وتواضعه وكبريائه.