مواقف مؤلمة ومحطات عابرة من بين آلاف الحالات في المجتمع لم تسنح لنا الفرصة بأن نكون جزءاً من تفاصيلها، وأمامي موقف مؤلم من هذه المواقف وللأسف أنه يحدث في بلد غني بخيراته وموارده، إلا أن ابناءه يعيشون تحت خط الفقر.
ورحلتي في هذه المحطة بدأت حين أَومأَ لي شاب في مقتبل العمر، بعد مغادرتي مرأب كلية الإعلام طالباً الركوب معي، ممكن معك إلى خارج الحرم الجامعي، تفضل، سألته: هل أنت موظف في الجامعة؟ فقال: نعم، عامل خدمة، وبراتب أربعمئة وثمانين ألف دينار. هل أنت متزوج ؟ قال: نعم وعندي ستة أطفال وأتكفل بمعيشة أمي وأختي وابنائها، فقلت: تعيلهم بهذا الراتب ؟ قال أعيل عشرين فرداً بهذا الراتب. سألته أين تسكن ؟ قال: في منطقة العبيدي في أطراف بغداد، كم يكلفك النقل ؟ قال: مئة وعشرين ألف دينار شهرياً، والطبيب والمدارس والملابس والطعام ووو؟ قلت له، هل يساعدك التدريسيون؟ قال: الرعيل الأول فقط، أما الشباب فقليل منهم من يستشعر حالنا وكأن الكرم غادرهم.
قررت إيصاله إلى داره وهي فرصة قد لا تتكرر لي مرة أخرى، لاستكشاف بعض معاناة الناس والوقوف عليها، تجاذبت معه أطراف الحديث، وفي الطريق توقفنا أمام أحد المحلات لتناول شيءٍ ما، ثم أكملنا رحلتنا إلى منطقة العبيدي وغمرتني سعادة لا توصف وأنا أرى هذا الشاب يبتسم ويضحك، فأنا من جانبي قد رفعت الشكليات وتقاليد (الأتكيت) كلها، وحين أوصلته إلى أقرب نقطة من بيته شعرت لديه رغبة لمعانقتي، فحظيت بشرف عناق بطل تكفل في إعالة عائلة كبيرة مكونة من عشرين مواطناً عراقياً. عشرات بل مئات وربما آلاف من هؤلاء المواطنين العراقيين أمثال هذا الشاب، وقد يوجد من هو في وضع أكثر حراجة منه، وللأسف أنهم في بلد يطفو على بحار من النفط وفيه حكومة تدعي التمسك بتعاليم الدين الحنيف، لكنها لم تعمل لإنقاذهم وتوفير ملاذ آمن لهم، بل جعلتهم عرضة لمشاريع الجهل والإرهاب، ومنعت عنهم فرص الحياة الكريمة، والعيش بسلام وطمأنينة في ظل جو أسري متين يرتكز على ثقة كبيرة في ظل حكومة كريمة لا تغفل حقوق الفقراء أينما كانوا، بعيداً عن المذهبية والقومية.