23 ديسمبر، 2024 7:34 ص

رحلة الكونتيسة الانكليزية الليدي هستر ستانهوب.. في الشرق العربي؟

رحلة الكونتيسة الانكليزية الليدي هستر ستانهوب.. في الشرق العربي؟

الليدي هستر ليسي ستانهوب Lady Hester Lucy Stanhope،كونتسة انكليزية، من ذوات الحسب والنسب، اكثر امرأة عرفها التاريخالحديث شذوذاً على كثرة ما انجبت الطبقة الاستقراطية البريطانية منشاذات وشاذين في القرن التاسع عشر. و الليدي ستانهوب هي منهذه الطبقة في الذروة، فهي الأبنة الكبرى لايرل ستانهوب Earl Stanhope وحفيدة الكونت جاثامChatham، وأبنة اخت السياسيالبريطاني المعروف وليم بت William Pitt، الذي تولى منصب رئاسةالوزارة البريطانية للفترة 1783- 1801.

ولدت الليدي ستانهوب في قصور العز والترف في لندن في 12/ اذار/ 1776م، في منطقة كنت Kent، في انكلترا. وكانت الابنة الثالثةللكونت ستانهوب المدعو ايرل (شارل) السياسي وهاوي العلوم المتأثربالافكار الثورية الفرنسية، والمعارض في مجلس اللوردات والمخترع فيحقل العلوم، بحيث كان له اختراع لعدسات الميكروسكوب، يحملاسمه، واختراع آخر في باب الالات الحساسة واختراعات اخرى.

وكانت القربى تربط  الليدي ستانهوب بوليم بت رئيس وزراء انكلتراالمناهض الاكبر للثورة الفرنسية ولنابليون. فوالدها ايرل (شارل) هوحفيد جيمس James، اول كونت  من عائلة ستانهوب المتزوج من عائلةبت اخت روبير بت والد الكونت جاثام. ثم تزوج ايرل (شارل) منهستير بت بنت الكونت جاثام واخت وليم بت، واثمر هذا الزواج ثلاثبنات منهن الليدي هستير.

لم تكن طفولة الليدي ستانهوب سعيدة بسبب موت والدتها الشابة،وكان لها من العمر اربع سنوات ، وسبب زواج والدها مرة ثانية،وبسبب الصعوبات المالية التي اعترضت العائلة، والاهمال في تربيتها،نظراً للمشاكل التي كانت قائمة بين الاب وزوجته الثانية.

عاشت الليدي ستانهوب حتى سن الرابعة والعشرين في منزلها الابويتهتم بتربية اخوتها من والدها. وفي عام 1800، قررت ترك المنزلوالعيش الى جانب جدتها والدة وليم بت، فكانت فرصة لها للالتقاءمرات عدة بخالها وليم، والى جانب جدتها بدأت حياتها المدنيةالاجتماعية، فأقامت علاقات عاطفية صاخبة كادت توسخ سمعتها. وسافرت الى فرنسا وايطاليا برفقة مجموعة من الاصدقاء.. وبموتجدتها لجأت الى خالها فعاشت معه تدير منزله بعدما كثرت مشاغلهبارتقائه الى رئاسة الوزارة للمرة الاولى في 1783- 1801.

وفي عام 1804، كانت اقامتها موزعة ما بين لندن والماركاسلWalmer Castle (مقر رئاسة الوزراء البريطانية)، وقد سمح لهادخول خالها الى داوننغ ستريت، التعرف الى شخصيات انكلتراالكبيرة، وكان من بينها اللورد غرانفيل الذي سقطت اسيرة حبه.

ولم يعمر خالها كثيراً، اذ توفي في ايار/ 1806، وله من العمر 47 سنة، بسبب كثرة مشاغله، واضحت الليدي ستانهوب وحيدة وليسباستطاعتها العودة الى حياتها العائلية، فلجأت الى صديقها السيرجون مور Moore، ولكن هذا الاخير قتل مع اخته في اسبانيا في1808.

مرة اخرى، عادت الليدي  ستانهوب الى العزلة، فلم تعد لندن تعنيشيئاً لها فانسحبت الى بلاد الويلز، حيث التقاها اخوها من ابيهاالذي اقنعها ترك انكلترا والسفر الى بلاد الغربة، فاقتنعت واشترطتعلى اخيها تأمين طبيب مرافق لها، فكان لها ذلك مع الطبيب شارلمريون Meryon، رفيق طريقها وناشر مذكراتها.

عرفت الليدي ستانهوب في هذه الفترة من حياتها الباكرة وسط لندنالارستقراطي، بحيويتها الدافعة وجمالها ونزواتها. وعندما استقرتفي مقر رئاسة الوزارة البريطانية مقر خالها رئيس الوزراء الذي لميكن متزوجاً لتكون مشرفة عليه، ملأت البيت الهادئ الكئيب بالبهجةوالمرح والحفلات التي لا تنقطع، ونسي رئيس الوزراء الحزين بقربهاحزنه، وقد كافأتها الدولة على هذا، بأن خصصت لها بعد وفاته مرتباسنوياً قدره (1200) جنيه استرليني، يدفع لها مدى الحياة.

لكنها سئمت الحياة في بريطانيا بعد موت خالها في عام 1810، وقيلانها اصيبت بخيبة في الحب، فآثرت السفر الى الشرق العربي. ففي10/ شباط/ 1810، ابحرت الليدي ستانهوب على متن السفينة Jason،وبرفقتها اخوها جايمس والدكتور مريون والسيدة اليزابيث وليمس. وفي 9/ اذار وصلت المجموعة الى جبل طارق ومكثت حتى 9/ نيسان،ثم افترق عنهم جايمس للحاق بفرقته العسكرية في قادس Cadix،فابحرت الليدي ستانهوب الى الى مالطا ووصلتها في 21/ نيسان،وتعرفت الى ميشال بروس الذي اقنعها بالسفر الى المشرق العربي. وكان وراء هذا الاقناع علاقة عاطفية ربطت الليدي ستانهوب بميشالعند اقامتها في مالطا. ومن هناك سافرت الى القسطنطينية برفقةميشال والدكتور مريون والسيدة فراي، وبقت اليزابيث وليمس فيالجزيرة عند اختها.

وقد مرت المجموعة على بلاد اليونان ومكثت في اثينا حتى 4/ ت1،ووصلت استانبول في أخر الشهر، واستقرت الليدي ستانهوبومرافقيها في Péra، ثم في  the rapia

كان ميشال بروس صديق  الليدي ستانهوب من عائلة باروناتستنهوس  وهو في سفرة خارج انكلترا، كان يتدرب على لعب دور مافي السياسة البريطانية، لذلك كان مهتماً بالذهاب الى استانبولللتعرف على موقفها السياسي من الصراع البريطانيالفرنسيبسبب احلام نابليون بونابرت. وعندما التقى ميشال بروس بالليديستانهوب، وجد انها خبيرة بالسياسة البريطانية فهي بنت اخت وليمبت الكبير وحفيدة عائلة ارستقراطية عريقة، فأعجب ميشال بروس بها ورغب بالاستفادة من معرفتها نظراً لمعاشرتها لكبار رجال السياسة.

الفرصة كانت مواتية لميشال بروس لصقل معلوماته عبر شخص مجربوجرئ كالليدي ستانهوب، وبعد وصولهم الى استانبول واستقرارهمفي منزل في Thérapia، ترك بروس حبيبته وذهب في رحلة الى آسياالصغرى، فاستفادت الليدي ستانهوب من الفرصة لجمع المعلوماتالتي دونتها في رسائل تصف الاوضاع في السلطنة.

وبواسطة القبطان باشا، قائد البحرية العثمانية، حصلت على دعوةلزيارة ام السلطان والدة محمود الثاني، وهي فرنسية من المارتينيك،تدعى ايميه دو ريفيري Aimee de Rivery، ابنة عم ورفيقة جوزفين،الامبراطورة الفرنسية، زوجة نابليون بونابرت. وكانت هذه المرأة قدوقعت اسيرة بيد القراصنة الجزائريين، فبيعت كعبدة، ثم وهبت الىالسلطان واحبها واغرم بها كثيراً السلطان سليم الثالث الذي حاولالقيام بالاصلاح في السلطنة، ثم قتله الانكشارية، وكان محمود الثانيقد ربي على يدها واحبها. وقد نشرت قصتها باللغة الفرنسية فيكتاب مشوق صدر بعنوان (ليلة السرايا La Nuit du Serail).

وتقول عنها الليدي ستانهوب، انها امرأة كثيرة الذكاء، والقبطان باشااكثر الاتراك اناقة، يرغب بالزواج منها، ولكن احدى نسائه الاخرياتتحول دون  اتمام ذلك.

وتعرفت الليدي ستانهوب الى المجتمع التركي ورأت نماذج من العدالةالتركية، وعاشرت نساء المجتمع ففهمت نفسياتهن وخالطت النصارى،ولم تكن راضية عن اليونانيين والارمن، ودرست اوضاع السياسة فياستانبول، فرأت ان محمود الثاني الى جانب الانكليز، ووجدت انممثلي فرنسا افضل من ممثلي انكلترا في السلطنة.

وعند عودة ميشال بروس الى استانبول، ذهبت معه الى بروسه ومنهاالى ببك Bebek، ثم زارت انقرة.

وكان القبطان باشا سنداً لليدي ستانهوب في زياراتها، وكانت غالباًتلبس لبس الرجال لاخفاء جنسها، وكثيراً ما كان ينتهز الفرصةلدعوتها الى الحفلات، واقامت الليدي ستانهوب علاقات حسنة معممثل فرنسا في القسطنطينية مما اثار لغطاً سياسياً.

ويبدو ان علاقات القبطان باشا بالانسة الانكليزية وصلت بالقائدالعثماني الى حد التعلق بها وطلب الزواج منها.

في تشرين الاول/ 1811، توجهت الليدي ستانهوب وبرفقتها ميشالبروس والطبيب وشخص يدعى هنري بيرس والسيدة فراي، وسبعةخدام يونان الى الاسكندرية على متن مركب يوناني، فوصلوا رودسومكثوا فيها حتى كانون الثاني 1812، بسبب تعرضهم للغرق وبسببفقدان مبالغ مهمة من اموالهم.

وفي كانون الثاني 1812، ابحرت المجموعة على متن سفينة انكليزيةالى بولاق والتقت بمحمد علي باشا، الذي استقبلها بقصر القلعةهذهالفتاة الانكليزية الفارعة الطول، الزرقاء العينينوقد دخلت عليه بلباسنبيل تركي، ولمّا تكن ارض القصر قد جفت عليها دماء، من سفكالمماليك. وقد أحسن محمد علي استقبالها لانها ابنة اخت وليم بتوحفيدة لورد تشاتم، ثم زاد في اكرامها لاعجابه بشخصيتها حتى انهاقام عرضاً عسكرياً خاصاً لتشهده، وفي هذا الحفل قدمت هينفسها عرضاً دل على براعتها في ركوب الخيل، وبلغ من اعجاب محمدعلي بها، ان اهداها حصانين من خيوله الاصيلة، وقدم لها ايضاًمملوكين فرنسيين لحمايتها وفريقها في زيارتها لسوريا.

ومن القاهرة كتبت الى احد اصدقائها تقول: “لقد كان محمد عليحفياً بيّ، ولم يكن يستقبلني الا واقفاً، وقد سمح لي ان ازوره متىاردت، ولم يرفض لي طلباً طيلة اقامتي في ضيافته حتى انه سمح ليان ازور ارامل المماليك الذين قتلهم عندما طلبت منه ذلك“.

وبعد شهر من اقامتها في القاهرة غادرت هي وحاشيتها الى دمياط،ومن هناك استأجروا قارباً نقلهم الى يافا. وفي يافا كان فياستقبالها حاكم المدينة والمعتمد البريطاني، وبعد استراحة قصيرةغادرت الى القدس عن طريق رام الله على رأس قافلة من احد عشرجملاً محملة بالامتعة وسبعة من الخدم ومملوكين وعدد من الجنودلمرافقتها وحراستها.

وفي الطريق الى القدس قابلت الشيخ ابو غوش، الذي احتفى بهاوبالغ في الاحتفاء عندما عرف انها قريبة سير سدني سميث، الذيكانت له معه مراسلات عندما كان يحاصر عكا، وانتصر فيها على قوةنابليون، وهنا عادت الذاكرة بالليدي ستانهوب الى تلك الايام، يوم انكانت ترتاد بصحبة قريبها سدني سميث، حفلات الطبقة الراقية فيلندن، وكان وقتها اميرال في البحرية. وامعاناً في الاكرام أصر الشيخابو غوش، على ان يرافقها مع عدد من عشيرته الى القدس.

وفي القدس قابلت الليدي ستانهوب اسماعيل بك المملوك الذياستطاع ان يقفز بحصانه من فوق اسوار القلعة، فكان الوحيد الذينجا من المصير الذي حل برفاقه على يد محمد علي، ومن اجله كتبتالى صديقها السفير البريطاني في استانبول ترجوه ان يتوسط لدىالسلطان من اجله.

وعادت الليدي ستانهوب الى يافا ومنها سافرت الى عكا ثم الىالناصرة. وهنا في الناصرة فوجئت يوماً بدخول شاب غربي السماتعربي الملبس قدم نفسه اليها على انه الشيخ ابراهيم وأخذ يحادثهابانكليزية سليمة ولم يكن هذا الشاب سوى الرحالة الكبير بيركهارت،مكتشف البتراء وآثار ابي سمبل.

وعادت الليدي ستانهوب الى عكا ومنها الى صور فصيدا. وفي صيداوجدت رسالة من الامير بشير الشهابي تدعوها لزيارته في بيت الدين.

وفي 29/ تموز، كانت الليدي ستانهوب على رأس قافلتها المكونة مناثنين وعشرين رجلاً وخمسة وعشرين بغلاً وثمانية خيول، تغادر صيدافي طريقها الى دير القمر حيث بيت الدين قصر الامير بشيرالشهابي. وهناك اقامة في ضيافته شهراً، وكان الامير في الخمسينمن العمر، فارع الطول، كث اللحية انيقاً.

وبعد ان جابت ارجاء لبنان واتصلت برجالاته، قررت السفر الى دمشقومنها بدأت اتصالاتها ببدو الصحراء، وعقدت معهم صداقات، وكانالمال يسيل من بين اصابعها كالماء..

وفي طريقها الى بلاد الشام، كان برفقتها صديقها ميشال بروسوالطبيب،  وبرفقتهم اللورد نورث  والمملوكين والسيد  كومب من تولوز وروزينيانا من نيس. فزارت الليدي ستانهوب ومجموعتها الرملة والقدسوبيت لحم والناصرة وجبل الكرمل وحيفا وعكا. وكانت الليدي ستانهوبتلبس لباس الرجال الاتراك. وكان الوصول الى عكا في 10/ حزيران،فزارت الوالي سليمان باشا بلباس المماليك وقد احسن هو ووزيرهحاييم استقبالها، وقدم لها هدايا جميلة وقيمة.

ومن عكا تابعت الليدي ستانهوب طريقها الى صيدا فوصلتها في 15/ تموز وكان انتقالها من مدينة الى اخرى مثاراً لفضول القناصلالفرنسيين الذين كانوا يمطرون وزارة خارجيتهم بالتقارير عنتحركاتها المثيرة للريبة خاصة لجهة استئناسها بالقناصل الفرنسيين. فالرأي السائد في اوساط الفرنسيين، ان هذه السيدة الانكليزيةالكبيرة كانت تتحرك بالتنسيق مع حكومتها. ولذلك كانت ترغببمصادقة قناصل فرنسا لاستنطاقهم. واكثر ما آثار دهشتهم كثرةاستقبال حاييم اليهودي لها واقامته احتفال على شرفها.

وفي صيدا استقبلت لدى الفرنسيين بحفاوة برغم ان التقارير عنها منموظفي القنصلية كانت متناقضة بحقها وبحق من استقبلها.

في 3/ اب، سارت الليدي ستانهوب الى دير القمر بدعوة كما اسلفنامن الامير بشير الشهابي الذي وضع بتصرفها 12 جملاً و 25 بغلاًواربعة احصنة وستة حراس من دون ذكر الساسة ( جمع سائس )،وفي دير القمر استقبلت الليدي ستانهوب في احد القصور الفخمة.

وعند وصولها الى دير القمر، ارسل الامير احد الاباء الموارنة للاحتفاءبها وتأخر استقبال الامير لها من الثلاثاء الى السبت، ونهار الاثنينزارت قصر بتدين. ومكثت الليدي ستانهوب في دير القمر حتى 27/ آب، وامضت يومين في ضيافة الشيخ بشير جنبلاط، في المختارة،وخرجت من اقامته بانطباع جيد عن الجبل.

وفي دير القمر تقرر منهاج الرحلة الى سوريا. فالليدي ستانهوب كانتترغب في ان تكون اول امرأة اوروبية تجتاز الصحراء وتصل الى آثارالملكة زنوبيا. فكان صديقها ميشال بروس يرغب في الذهاب الى حلب،فتقرر ان يذهب هو الى حلب وهي الى دمشق.

وفي 22/ آب سار ميشال بروس في طريقه ثم كان دور الليديستانهوب في 27/ آب، وكان عليها السير اربعة ايام لاجتياز جبل لبنانوالسلسلة الشرقية ووصلت دمشق في 31/ آب، ودخلتها في اول ايلولعلى رأس من الخيالة، فاستراحت قليلاً في الحي المسيحي، ثماستقرت في الحي الاسلامي قرب السوق الكبير. وكان الطبيب المرافقوالمترجم براتران، قد هيأوا لها الاتصالات الاولى مع السلطات المدنيةومع اوساط المجتمع. وخلال ايام تمكنت الليدي ستانهوب من الحصولعلى ثقة الناس بذكائها ومعرفتها التخاطب مع الناس. والحدث الاهمكان زيارتها للوالي سليمان باشا الذي اوجدته قصير القامة، متكبراًوجامداً. وقد رأت ان خدمة هذا الشاب كانت تقضي الف رجل. وزارتالقصر وكانت تقود حصانتها وهي لابسة ثياب الرجال. كانت مسرورةفي اقامتها في دمشق، فالناس تحييها كملكة، ومسكنها يثير كبريائهاوالاحتفالات على شرفها تزيدها علوا. وقد آثار فضولها جمال قصرالمعظم، وقد رأت ان قصور انكلترا ليست سوى اكواخاً بالمقارنة معه.

وفي دمشق رأت الليدي ستانهوب ثورة الفرسان الدليباش، وعاشتهموم المدينة وهواجس المعارك وثورة الناس والتهديد باجتياح دمشق. كما استغلت فرصة زيارة الشيخ مهنا زعيم قبيلة عنيزة للتعرف اليه. وكان طموحها ان تعرف العرب لا في المدينة بل في الصحراء. ولذلكذهبت مع الشيخ مهنا الى الصحراء اسبوعاً، وسارت مع عربه ثلاثةايام وعوملت بكل احترام.

وفي تشرين الثاني عاد الصديق ميشال بروس، من حلب الى دمشقبعدما عجز عن اقناع الليدي ستانهوب بموافاته الى تدمر لانها كانتترغب بالذهاب اليها بمفردها كزعيمة وحيدة لا يشاطرها اي اوروبيالشعور بالزعامة ولا يقلل من اهمية موكبها.

ومن دمشق سارت الليدي ستانهوب الى حماه في كانون الاول/ 1812، ومنها الى تدمر حيث مكثت من 14 الى 21 كانون الثاني، ثمعادت الى حماه. وكان الشتاء قاسياً من كثرة الثلج والمطر.

ومرضت  مرافقتها السيدة فراي، بداء الرئة. وبرغم كل هذه الصعوباتكانت عزيمة الليدي ستانهوب لا تفتر وهي تهيء لرحلة تدمر طيلة ستةاسابيع، وكان بانتظار سير موكبها 40 جملاً و 70 بدوياً للحماية. وكانت اقامتها في تدمر قصيرة، وكانت مسرورة بان تذيع وتشيع انهاملكة تدمر.  ولا سيما بعد ان استقبلها الاعراب هناك كأنها فعلاً ملكةتدمر. وكانت هي تسرف في العطاء وفي احاطة نفسها بمظاهر الابهةوالبذخ كأنها تريد ان تعيد الى الاذهان اسم زنوبيا ملكة تدمر.

اثناء تواجدها في سوريا، قابلت كثيرين من الفرنسيين من عيوننابليون، واتصلت بأبرزهم واخطرهم شأناً وهو الفرنسي سكاريسواستمالته ليعمل جاسوساً للانكليز على الفرنسيين وأجرت له مرتباًشهرياً ولكنها اكتشفت بعد سنوات طويلة، انه كان يخدعها وانه كانفي الواقع يعمل من اجل مصالح فرنسا في الوقت الذي كان يتقاضىفيه راتباً من الانكليز.

ابدت الليدي ستانهوب اثناء رحلتها الى تدمر كثيراً من ضروبالشجاعة واتصلت بشيوخ القبائل في بادية الشام ولم تبخل عليهمبالمال، فكانت بعملها هذا اول امرأة اوروبية وطئت قدماها ارض مدينةزنوبيا التاريخية.

وبعد ان عادت من رحلتها وجدت ان الطاعون قد انتشر في المنطقةالساحلية الممتدة حتى عكا الى جنوب اللاذقية فتوجهت الى اللاذقيةوقضت الصيف هناك. وهنا حدث لها حادثان كان لهما ابلغ الأثر فيحياتها. اولهما عودة حبيبها ميشال بروس الذي كان مرافقاً لها منذخروجها من بريطانيا الى بلاده. وثانيهما امتداد الطاعون الى اللاذقيةواصابتها به، وعندما شفيت منه بعد ان كاد يؤدي بها، كان قد تركآثاره في عقلها وفي جسدها، اذ بعد شفيت من مرضها اخذت تصدرعنها تصرفات فيها شذوذ تدل على ان قواها العقلية لم تعد طبيعية،كما ان رئتيها ضعفتا فكانت بين حين وآخر تنتابها فترات من السعالالشديد. ولكن هذه التصرفات الدالة على الجنون لم تكن في رأيبعض من كتبوا عنها سوى ستار لجأت اليه لتخفي حقيقتها، والارجحان هذا هو الرأي الأقرب الى الواقع.

وفي اللاذقية قررت الليدي ستانهوب، ان هذه البلاد هي التي تحب انتقضي حياتها فيها واخذت تفكر في شراء بيت يكون سكناً لها فحطبها خيالها عند بيت اعجبها اثناء تجوالها في مار الياس على سفحالجبل المطل على البحر المتوسط في لبنان، وهكذا كان ولكنها بعملهاهذا اثارت شكوك الامير بشير الشهابي الحاكم الذكي ولكنه لميستطع عمل شيء، والسفير الانكليزي في استانبول يحميها.

كان المنزل الذي شيدته لنفسها قصراً يشبه القلعة فوق تل صغير علىبعد ثمانية اميال من صيدا، واتخذت زي النساء المحلي، فلبستعمامة ومداساً برأس منعكف وصارت تدخن النارجيلية وتحمل السوطوالخنجر وشرعت تتعلم اللغة العربية واولعت بعلم النجوم وعلم الكيمياءالقديم واحاطت نفسها بحرس من الالبانيين وحاشية من الزنوج،وفرضت عليهم ان يسلكوا معها سلوك يتوافق وقواعد التشريفاتالملكية.

الواقع، انها استطاعت ان تكون ذات نفوذ وسلطة كبيرة جداً بينسكان المناطق المجاورة ولا سيما الدروز منهم فكانوا يحترمونهاويطيعون امرها الى درجة تبعث على الدهشة.

ومن بيتها في مار الياس حيث كانت تعيش كملكة غير متوجةاستطاعت ان تثير اهتمام السلطان نفسه اذا ارسلت اليه رسالة تقولفيها انها وقعت في رحلاتها على مخطوطة ثمينة اشترتها بمبلغ كبير،وفي هذه المخطوطة وصف لكنز عامر بالذهب والاحجار الكريمة فيمدينة عسقلان. وصدق السلطان هذه الدعوى وارسل احد كبار رجالالدولة من استانبول الى مار الياس ليذهب بصحبتها ويضع تحتتصرفها كل ما يلزم للبحث عن الكنز.

وهكذا سارت الليدي ستانهوب محاطة بكل مظاهر الاجلال تطوف فيفلسطين تنفق من مال السلطان وتتمتع بحمايته الى ان وصلت الىعسقلان صيف 1815م، وبدأت الحفريات التي امتدت الى اسبوعينوجمع للعمل فيها مائة وخمسون من الفلاحين يعملون بالسخرة. ولمايئس الجميع من العثور على الكنز امرت الليدي ستانهوب بالتوقفواسترضت كل من كان في الركب، ابتداء من ممثل السلطان الى اقلهمشأناً بالمنح السخية التي كانت متفاوتة تفاوتهم في المناصب. اماالسلطان في استانبول فلم يأس على شيء لانه لم يخسر شيئاً، اذ انالتكاليف كلها كان يقوم بها ولاة الولايات.

ومن غريب الامور واثناء توقف الليدي ستانهوب في حيفا، حدث حادثغريب، فقد دخل عليها خيمتها انسان رث الثياب يدعي الغيب، وقدمنفسه، لها بأنه كان احد ضباط سير سدني سميث، ولكنه تخلف عنالاسطول وانقطع لدراسة النجوم وقراءة المستقبل في جبل الكرمل.

وتدليلاً على قراءة النجوم، اخبرها انه في الساعة التي يقف فيهاامامها هرب نابليون من جزيرة ألبا. وتقول الرواية بعد ان وصلت اخبارهروب نابليون من ألبا، كان يوم هربه موافقاً لما قال. وقد رافق هذاالضابط الليدي ستانهوب في عودتها الى بيتها في مار الياس وبقيمقيماً فيه الى يوم وفاتها.

كما عرفت الليدي ستانهوب شخصاً يدعي الغيب هو ريتشارد براذرزالذي كان ينادي بأن الملك جورج، سيموت وستنتهي معه الملكية،فاقتيد الى مصح المجانين زمن رئيس الوزراء وليم بيت، وعند القاءالقبض عليه طلب رؤية الليدي ستانهوب ابنة اخت وليم بيت، واعلمهابنبوءته التي تقول بأنها ستذهب الى اورشليم، وعند وصولها الىالارض المقدسة ستحدث تغييرات كبيرة في العالم وستمضي سبعسنوات في الصحراء وستتوج ملكة الشرق.

القارئ لمثل هذه القصص يدهش للطرق التي كانت تلجأ اليها الدولالاوروبية الكبرى، لكي تملأ بلادنا بعيونها، بحيث لا يثيرون ريبةالسلطات الحاكمة.

ولكن هل كانت الليدي ستانهوب مصدقة لهذه الرواية بجدية؟ وهليكون طبيب الليدي ستانهوب مرافقها وحفيد صديقها قد لفقوا الروايةلاعطاء قصتها تشويقاً؟!

سواء أكانت بوحي الحلم او الواقع فقد سار موكب الليدي ستانهوبالى خرائب تدمر. ولما كان أمير العرب مهنا مريضاً فقد ارسل ابنيهناصر وحمد لمرافقة الموكب. وفي 20/ اذار، سار موكب الليديستانهوب المؤلف من صديقها ميشال بروس ومن الطبيب ومن ترجمانعربي وترجمان آخر ومملوك وطباخين اثنين ومن قهواتي، والسيدةفراي، وخدم متنوعين بحيث وصل العدد الى (15) مرافقاً ومعهماربعون جملاً محملة ماء وعلفاً للاحصنة وخيماً وحقائب وطحيناً وخبزوتبغاً.. ومكثت الليدي ستانهوب في تدمر من 20/ اذار الى 13/ نيسان/ 1813، اجتازت فيها 300 كم ذهاباً واياباً.

وبعد مسيرة ثلاثة ايام، وصل الموكب الى خيام مهنا، زعيم البدو،وكانت خيامه ضاربة قرب بئر فا ستراحت الليدي ستانهوب يوماًواستقبلت الناس خاصة زعماء القبيلة، وأضيف الى الحامية المرافقةحراس آخرون من الخيالة والمشاة وخادم اسود يحرس خيمة الاميرةالانكليزية. كانت المنظمة قليلة الأمان بسبب صراع قبيلة عنيزة معغيرها من القبائل. وعند اقترابها من تدمر خف لاستقبالها فرسانتدمر وهم يضربون الطبول. ووصلت الليدي ستانهوب بعد دخولها تدمرالى قوس النصر، وكان سكان الناحية قد اصطفوا على اعمدة هيكلالشمس، والفتيات يرقصن امام القوس، والاطفال جالسين عند قواعدالاعمدة وبايديهم الازهار. وكان احدهم واقفاً عند وسط القوس ويحملتاجاً بيده لتتويجها عند وصولها الى الهيكل.

وبعد توقف قليل تابع المحتشدون الاحتفال والفتيات احطن بالاميرةوهن يرقصن. ومكثت الاميرة الملكة ثلاثة ايام بين الآثار الخالدةوحضرت حفلة زفاف، ثم انكفأ الموكب عن المدينة لتخوفه من هجوممباغت من قبل القبائل المتحاربة مع عنيزة التي ستجد في الليديستانهوب رهينة مناسبة، وعند وصول الموكب الى مضارب الشيخ مهنا،أولم لهم وليمة كبيرة. وعند العودة الى حماه استقبلهم احد قادةالدليباش واحتفل بهم بعشاء ضم ثلاثمائة شخص.

ومن حماه بعدما حققت الليدي ستانهوب حلمها بتخيل نفسها ملكةتدمر، سار الموكب الى اللاذقية منزلاً لثلاثة اشهر، وأثارت حفيظةالناس الذين كانوا يتزاحمون عند مرورها، لابسة لباس الرجاللاعتقادهم انها ابنة ملك الانكليز.

وفي اللاذقية بدأ ميشال بروس يستلم من والده الذي كان متكفلاً بكلمصاريف الفريق منذ الرحيل من مالطا الى استانبول الى اللاذقية،رسائل تحثه على العودة الى انكلترا، هو والليدي ستانهوب، ولكنهافضلت البقاء مشجعة صديقها على الرحيل واضعة نقطة نهائية لحبدام ثلاث سنوات.

وما ان تركها صديقها حتى هاجم الطاعون مرة اخرى المدينة وسقطتالليدي ستانهوب مع حاشيتها طريحة الفراش، وكان الاعتقاد انالطاعون سيهزمها، وبان الموت يحوم حولها، ولكنها تغلبت على المرض،و ركبت البحر الى صيدا، حيث ستستقر بجوارها، لتبدأ معهاصفحات من حياتها، والذي بنتيجته حملت عن حق لقب (فاتنةالصحراء) و (نجمة جون) نسبة لقرية جون قرب دير المخلص فيالشوف اللبناني.

اختارت الليدي ستانهوب مدينة صيدا مقراً لها بعد تركها اللاذقيةواقراراها بعدم الرجوع الى اوروبا والاستقرار في المشرق. وكانت قدتعرفت الى المدينة اثناء تجوالها فوجدتها حسنة، وسرّت باجواء المنطقةالتي يحكمها الامير بشير من جبل الشوف وحيث للفرنجة وجود فاعلمن عكا الى صيدا الى بيروت.

كانت الليدي ستانهوب قد تعرفت الى صيدا وجوارها، ولفت نظرهامركز للقديس الياس تابع للروم الكاثوليك في قرية عبرا، المشرفة علىصيدا، يؤمن العزلة وبأمكانها استئجاره بسعر زهيد. ولذلك ارسلتمرسالاً لهذه الغاية الى البطريرك مطر تسأله فيه عن امكان استئجارالمكان. فكان جواب البطريك التأهيل لها ساعة تشاء. ولعله كان وراءرغبة الليدي ستانهوب الذهاب الى صيدا للبحث عن الكنوز المخبأة فيتلك المنطقة التاريخية.

اقلع المركب، ورسي في طرابلس، حيث استقبلهم مصطفى بربر اغابالترحاب، وفي العاشر من الشهر المذكور كان الوصول الى صيدا.

طبعاً لم يكن باستطاعة الليدي ستانهوب الانكليزية الصعود مباشرةالى عبرا، لذلك فضلت الاستراحة في خان الفرنج متمنعة عن استقبالاحد بسبب ارهاقها واوجاع رأسها.

وكانت الليدي ستانهوب بسبب مرضها تعاني من حالة انهيار جسدي/ نفسي، لذلك اعتزلت في غرفتها وقد زاد من ألمها اصابة رفيقتهاالسيدة فراي بمرض الدازنتريا.

وبقيت الليدي ستانهوب على حالتها حتى نهاية كانون الثاني، عندهاشعرت بان قواها عادت اليها فاستعادت نشاطها وخرجت من عزلتهابعد اعتناء طبيبها ومرافقها الدكتور مريون بها واحاطته لها بكلعطف.

وكان الدكتور مريون بعد نزولهم في صيدا قد زار دير مار الياس فيعبرا في اليوم التالي، والدير يقع خارج حدود وابواب المدينة المحاطةبالاشجار والتي تبعد عن اول مرتفعات لبنان مسافة نصف ميل. وعلىبعد ربع ميل يصل المرء الى اول مرتفع يسرح فيه النظر بالافق الممتدمع البحر وبالجبال الشاهقة في المقابل. وفي مواجهة هذه التلة الاولىيقع نظر المرء على تلة اخرى يربض عليها الدير.

والدير المذكور تهدم بعد الزلزال الذي ضرب المدينة فيما بعد، وكانسكان الجوار قد سرقوا اكثرية حجارته لبناء مساكنهم وما تبقى منهبئر وبعض الحيطان وقناطر وكنيسة صغيرة. هكذا كان وضع الدير. اما في عام 1814، فقد وجد الطبيب مريون ديراً مربع الشكل مبنياًبالحجارة، سقوفه مسطحة يحيط بباحة مربعة ومبلطة وفيها ازهارواشجار ليمون. والغرف نظيفة مدهونة بالكلس من دون كراسيوطاولات. وفي جهة واحدة تجد فقط مقعداً من الحجر بشكل سريرمستطيل.

في الجهة الجنوبية الشرقية تضع الكابيلا على اسم القديس الياسالذي يعطي اسمه للدير. وكان آخر بطريرك للروم الكاثوليك وقتذاك، قددفن في هذا الدير. وعلى احد حيطان الكابيلا نجد درجاً غريباً يوصلالى السطح. كانت الامطار، والليدي ستانهوب ورفاقها في عز موسمالشتاء قد احدثت بعض الاضرار في الدير، مما اقتضى بعضالاصلاحات التي اخرت استقرار الليدي ستانهوب في الدير حيثخصصت لها ثلاثة غرف تصلح لأن تكون صالوناً وغرفاً للمنامة، وفياليسار من الدير هناك مطبخ وغرفة صغيرة في الزاوية حيث توفيالبطريرك.وستكون غرفة الليدي ستانهوب.

وفي شرق الدير نجد ثلاث غرف وغرفة راهب واحدى هذه الغرفستحول الى غرفة حمام. المجموع خمس غرف قابلة للسكن. وهذا ماجعل الطبيب يبحث لنفسه عن منزل في القرية على بعد ربع ميل منالدير، والدير بموقعه يسمح للمرء بمد ناظريه على اكبر مساحة منالبحر وهو يبعد عنه مباشرة قرابة الميلين.

وقبل ان يباشر ميرون باختيار منزله قام بجولة في عبرا فوجد انهامؤلفة من اربعين مسكناً، من طابق واحد، مبنية بشكل رديء. والبلدةموقعها افضل من موقع الدير، وهي من اقليم التفاح وتابعة لقضاءجباع وبرغم هذا الواقع الاداري فالفلاحون الروم كاثوليك متعلقونبامير الجبل.

وكانت عبرا قد اشتراها البطريرك الكاثوليكي قبل وصول الليدي ستانهوب من عائلة درزية بثمن بلغ 18 كيسا اي 450 سترلينية. والبطريرك يملك ثلثي القرية. والقرية مضطرة لدفع الضرائب ثلاثمرات، مرة للحاكم في جباع واخرى لحاكم صيدا. والسكان فقراءبشكل مدقع. وفي بحثه عن مسكن له يجد ان المنازل رديئة كليا وهيمن الطين في الارض ومن اغصان الاشجار المقصوصة بطريقة سيئةلدعم السقف والحيطان المطلية برمل ممزوج بالماء من دون كلس(اللبن). وافضل مسكن كان عبارة عن غرفة واحدة، كان في طرفهابقرتان وحمار، وفي الطرف الآخر العائلة. وفي وسط الغرفة فرنوالباب والنوافذ مدخنة له واربع جرار في الارض تكون احد اطرافالمسكن .

العائلة كانت مكونة من رجل ضخم ومن امرأة جميلة ومن امها معولدين ومن الجدة. وعندما طلب الطبيب ميرون منه المنزل، وافق شرطالحصول على اذن من البطريرك.

ولم تصل الليدي ستانهوب الى مار الياس الا في اواسط شباط لانبناء الحمام استغرق وقتاً. وبعد سكنها للدير كانت صحتها جيدةوكانت اميرة الانكليز تمضي فترة النقاهة بالتنزه على ظهر الحماروتاكل شوربة الخضار مع الرز مع الزبدة الطازجة التي يهيئها لهاخادمها في الحديقة نفسها لان زبدة البلاد نوع منالسمبسببطعمها ورائحتها. وكانت لا تأكل اللحم. وقد جعلت الدير مربحاً وثبت لهمداخن وسوراً من الحجارة يقيه من دخول الغرباء والحيوانات.

واضافت الى الدير اسطبلاً وقنا للدجاج وفي الداخل وضعت الخزائن. وبانتهاء الاصلاحات وجهت الليدي رسالة الى البطريرك تعتذر فيهاعن مبادرتها بالقيام باصلاحات من دون موافقته المسبقة وتضع نفسهابتصرفه في حال عدم ارتياحه لبعضها، فهي لا تجد مانعاً بهدم ماقامت به.

كانت الليدي استانهوب، بنت بيت عريق في ارستقراطيته وهي قدادارت منزل خالها رئيس وزراء انكلترا بدقة، لذلك كان من الطبيعي انتكيف مسكنها حسب متطلباتها وحسب ما يقتضيه النظام المدنيالعام.

ولكن هذه الاجواء الراكدة وهذه الحياة الهانئة لم تكن لتروق كثيراًلليدي الانكليزية المعتادة على الحركة، فالحياة تكرر نفسها، والنشاطالذي بذل لتحسين البناء توقف مع توقف العمل فيه. وزملاؤها بعيدونعنها. بيار مهتم بشؤون المسكن وبرتران في عكا والقنصل الفرنسي لايعجبها، والاخرون من الفرنسيين لا يثيرون شعورها. ومن اقرب اليهامن طبيبها مريون.

والليدي كانت لا تعامله كرفيق او صديق او حتى طبيب بل كخادم برغمانه قضى الى جانبها ما يفوق العشرين سنة ونيف. فهي كانت ترىانه يخطئ في كل حركة يقوم بها، كانت تنظر اليه كرجل لا يهتم الابامعائه ولا شيء آخر يعنيه، فهو في نظرها فاقد الشعور والاحساس. وهو من جهته كان غير مسرور من اقامته في عبرا حيث لا كتاب يبددعزلته، والحديث بين شخصين يصبح تافها عندما لا يعودان يجدانمواضيع جديدة يبحثان فيها وليس باستطاعته مغادرة الليدي وتركهالوحدها بعدما تحمل تجاه اخيها، واصدقائها مسؤولية مرافقتهاوالسهر على صحتها.

حالة الضجر من البلاد التي كان يعاني منها الطبيب، لم تكن قددخلت الى قلب الليدي، التي كانت تتمتع بجمال المناظر وحسن المناخ. وكان لا يزعجها سوى كثرة النور الذي يزعج النظر لمن لم يعتد عليه،ومرض الطاعون المنتشر في البلاد اجبرها مع حاشيتها على القعودفي المنزل من دون حراك خوفاً من الوباء.

وبانتهاء الوباء عاد النشاط الى الليدي فتحركت من مخبئها وكان كلما يحيط بها تحت امرها واهل البلاد واميرهم اي بشير يلاطفونها. وبرغم العرض الذي قدمه لها قائد احد المراكب البريطانية الراسية فيصيدا لحملها حيث تشاء فضلت البقاء في البلاد. ولكن ما ان اطلالصيف بحره حتى شعرت بضرورة الانتقال للاصطياف في مكان مابعيدا عن الشاطئ، فصعدت مع طبيبها مريون الى الجبل فوق صيدافي جزين واختارت قرية مشموسة مصيفاً لها.

ويعتبر ما كتبه الطبيب المرافق لليدي، والذي اضحى يحسن العربيةجيداً، من اهم ما كتب في كتب الرحالة عن جزين، التي نادرا ما جاءالكلام عنها قبل القرن التاسع عشر في المصادر العربية عامةواللبنانية خاصة.

ان  سبب اختيار الليدي بلدة مشموسة مصيفاً انها  ترى بان التجارالفرنسيين قد نصحوا، ربما، الليدي او مريون بذلك لانهم كانوايترددون على المنطقة في تجارتهم. كما ان المهندسين الفرنسيينساهموا في بناء كنيسة دير مشموسة في القرن الثامن عشر. ولربماتأثرت الليدي بالحظوة التي كانت تلقاها عند الشيخ بشير جنبلاطالذي كانت مشموسة. وكتب طبيب الليدي  الآتي: “كانت الليديمنزعجة من شدة الحر المستمر الذي كان يتبعها بحيث وجدت منالضروري تغيير المناخ، وابداله بالبرودة في مكان مرتفع.

وقد اختيرت مشموسة، لحسن هوائها وجودة مائها، وكانت تبعد عندير مار الياس مسافة خمس ساعات من السير، وحصلت الليدي علىاذن الامير بالسكن في مشموسة. وسارت اليها  راكبة على ظهرالحمار الذي اهداها اياه الامير بشير لتتمتع برؤية جمال المناظرالجبلية، وقد اختصرت حاشيتها لان المسكن كان صغيراً فاقتصرتعلى الطبيب، وعلى بودان والطباخة ام رزق، وشخص آخر يدعى عيد.

انتقل وفد الليدي من عبرا الى الصالحية ثم توقف في عين الحجرالواقعة مسافة ميل في الدير حيث نصبوا خيامهم. وفي اليوم التاليوصلوا لبعا وهي قرية مسيحية تبعد 3 اميال وفيها 44 بيتاً. وفي اليومالثالث وصلوا قرية صفارية المشهورة بتبغها وفي اليوم التالي مرّواعلى قتالي ونصبوا خيامهم في بسري قرب العين ذات الماء الرائع ،وفي 29 تموزم  وصلو مشموسه.

مشموسه تقع على تلة تنهي تقريباً سلسلة من الجبال. الهواء جيد،ولكن الغمام يغطي المكان كل مساء. وعند وصول الموكب كانتالدزنتاريا والرشح منتشرين. والقرية مسكونة من 12 الى 14 عائلةتنحدر من اربعة اخوة سكنوا القرية منذ قرن لاحياء ارضها شرطاعفائهم من الضرائب. وزعيم العائلة هو جهجاه ابو يوسف (عتمةضو) وهو يدعي الحفاظ على الفرمان الذي اعطاه اياه الامراء (ايالامير احمد معن) برغم ان الامراء لا يراعون ما جاء فيه. ولذلك فان آلعتمة يدمغون الميري ولكن منازلهم لا تزال معفاة و صادف ان اختلفتالليدي مع خادمها عيد وطردته فاشتكى للامير بشير، فارسلت الليديسكرتيرها الترجمان بودان وطبيبها الى بتدين فاجتازوا شلال جزينومروا عند اقدام قلعة نيجا وعلى جسر بحنين حيث يقوم قربه اربعةاعمدة من الغرانيت، ثم وصلوا مزرعة الشوف فبتدين ولما كان الاميرغائباً، ومهتما بشق القناة التي ستجر المياه الى عاصمته، ذهب للقياهالسكرتير بينما اكتفى الطبيب برؤية ولدي الامير خليل وامين اللذينسألا عن صحة السيدة وكانا مهتمين بمعرفة ما اذا كان ميشال بروس(صديقها سابقاً) من اصل ملكي. ثم عاد الطبيب لوحده الى مشموسهولحقه السكرتير في اليوم التالي وحلت المشكلة بتقديم الخادم الاعتذاروطلب العفو من الليدي.

وخلال اقامتها في مشموسه ذهبت الليدي الى عبرا عدة مرات. وكانتتهتم بصحة سكان القرية فاخترعت دواء لهم من بعض الاعشاب لمنعالعدوى. وكانت لاتنام في الدير بل في خيمة تحت اشجار الزيتونوتسعى لتشجيع السكان على محاربة التعصب ومحاربة الطاعونواخذ الدواء. ومن عبرا عادت الى مشموسه مروراً بمزرعة الطاحونة(المطحنة) حيث خيم الوفد لبضعة ايام ومنها الى القرية استعداداًلزيارة بعلبك  .

بعد ان استرجعت الليدي  ستانهوب قواها بفضل مناخ مشموسه،قررت زيارة بعلبك، فسارت اليها في 18 تشرين الاول. ومرت بالمختارةوالجديدة وعين وزين وخيَّمت في الباروك. ومن هناك انحدرت الىالبقاع الى قرية عانا حيث ضربت خيامها من 20 الى 22 تشرينالاول. ثم انتقلت الى بر الياس فألى المعلقة التي نقل السكان اليهاقسراً من الخربة بأمر من أمير الجبل، وخيَّمت وفريقها في الخربةالتي يقال ان لنوح (عليه السلام) قبر فيها. وفي 24 من الشهر المذكوروصلت الليدي الى بعلبك ومكثت فيها حتى 8 تشرين الثاني. في بادئالامر نصبت الخيام عند زاوية المعبد ثم نقلت الى رأس العين خوفاً منالطاعون.

بعلبك كانت وقتذاك، بلدة صغيرة فيها حوالي 120 عائلة من اصلها30 عائلة كاثوليكية ويتزعم عليها الامير جهجاه حرفوش الذي كانتحت سلطة والي دمشق وامير الجبل في آن معا. وقد زارته الليديستانهوب وتناولت الغداء الى مائدته.

ومن بعلبك توجهت الكونتيسة الى طرابلس مروراً بالارز في 8 تشرينالثاني في وقت يصبح فيه اجتياز المنطقة محفوفاً بالخطر مع تساقطالثلج. كان المرور عبر الطريق التقليدي من دير الاحمر الى عيناتاوصولاً الى بشري في 9 تشرين الثاني. فاستقبلها الشيخراجلواسكنها في منزله فاستراحت يوماً، استرعى في انتباهها حملالناس للسلاح من طفولتهم ومعارضتهم للأمير بشير. وفي 11 منالشهر المذكور وصلت الى اهدن فاستقبلها الشيخ لطوّف العشي الذييحسن الفرنسية قليلاً. ومن اهدن صعدت  الى الارز حيث خيماسبوعاً.

وخلال استجمامها في الارز اصرت الليدي على الهبوط الى دير مارانطونيوس قزحياً. وارسلت الى رئيس الدير رسالة تدعوه فيها للغداءعلى مائدتها مع المشايخ الذين رافقوها من اهدن الى غرفة الضيوفقرب الدير، على ان يكون الاحتفال في غرفة من غرف الدير. وكانتحجتها انها تحمل امراً من السلطان يجيز لها فيه ان تزور كل الامكنةالتي ترغب بزيارتها. فرفض الرهبان الامر.

عندها، وعندما اذنت ساعة الاكل، ركبت الليدي  ستانهوب على حمارهاودخلت الدير وزارت المائدة برغم محاولة الرهبان صدّها عن عزمهاوجلست الى المائدة وبعد اربع ساعات تركت الدير ورهبانه مسرورين.

ومن اعالي الشمال هبطت الليدي الى طرابلس فدخلتها في 15 كانونالاول 1814، وقد اثار وجودها فضول الناس وخشية القنصلالفرنسي شارل غينر الذي وصفها في تقاريره بالسيدة الغامضة.

استقرت ستانهوب  في دير الكبوشيين وحاشيتها في منزل واسع. وكانت الخطة ان تبقى بضعة اسابيع لتنعم ببعض الوقت في اجملمدن الساحل.

بعد وصولها بدأت اتصالاتها بالمسؤولين في المدينة وبدأت تقاريرالقنصل الفرنسي الى حكومته تحصي حركاتها. وحاول السيد غينرمقابلتها فلم يفلح لتضارب المواعيد برغم انها استقبلت كتاب ديوانالسرايا والمعتمد البريطاني. ثم زارت مصطفى بربر الحاكم الذي كانقد اهداها فرسا. وامضت وقتها بالنزهة وهي بلباس المماليك فيالمدينة وفي الجوار وزارت الحمام.

وفي اقامتها في المدينة راسلت صديقها السابق ميشال بروس معلمةاياه بزيارتها للمدينة وبرغبتها بالعودة الى دير عبرا، وبانها جمعت كلما يوّد معرفته عن مصطفى بربر الذي ابدت اعجابها به لذكائه وعدلهبرغم استبداده. وقد جاء مصطفى لزيارتها وعاملها كشخصية كبيرةوكأنها مبعوثة استانبول .

وتروي الليدي قصة عن عدالة مصطفى بربر. فبعد ارسال تجاراليونان شحنة من القمح الفاسد الى المدينة، مرض الناس وشارفبعضهم على الموت، واصيب البعض الآخر بعوارض فقدان التوازن ولماكان يستحيل تحديد المسؤولية والمسبب فيها، امر مصطفى بمصادرةالقمح في المنازل والمحلات وبرميه في الساقية تاركا للتجار ان يتدبرواامرهم بنفسهم لتحديد المسؤولية كما ان مصطفى بربر يمنع الغش،ويحدد بنفسه اسعار الحاجيات مما يسمح للفقراء بان يعيشوا،وللمدينة بان تكون نظيفة وكل شيء فيها منظماً.

وفي 16 كانون الثاني اتجهت الليدي الى صيدا على الطريقالساحلي وبرفقتها بعض الاشخاص كانوا في المدينة. فاجتازواالقلمون وخيموا في دير الناظور ثم مروا بمنطقة آنفة، فالهري فمدينةالبترون حيث امضوا ليلتهم ومنها الى مدينة جبيل التي تحتوي 500 منزل نصفها مدّمر، وبعد استراحة يومين اكملت الليدي طريقهافاستراحت في طبرجا واجتازت جسر المعاملتين حيث تبدأ مقاطعةكسروان الاكثر سكاناً في مقاطعات لبنان. ولم تكن جونيه سوى مزرعةصغيرة فيها بيت صغير للتسلية تابع للأمير. ومن جونيه وصلت الليديالى انطلياس فاستراحت. في ديره ومنه الى جسر بيروت فالشويفات. واستغلت المناسبة للقاء الستحبوسوهي سيدة درزية نبيلة تمتلكعدة قرى تضمنها للشيخ بشير جنبلاط.

وفي 26 كانون الثاني ذهب الترجمانبودانالى بيروت فعاد منهابخبر مفاده ان كبوجي باشي، موجود فيها ويحمل امرا باعتقالالليدي  ستانهوب وبسوقها خفورة الى استانبول.

وفي 27 من الشهر المذكور تابعت ستانهوب رحلتها فاستراحت فيمنطقة النبي يونس في الجية ومنها الى دير مار الياس في عبرا.

لم يكن مجيء الكبوجي باشي الى بيروت لاعتقال الليدي كما تصورذلك الناس البسطاء، بل كان مرسلاً من استانبول لمقابلة ستانهوبوالاتفاق معها على تنفيذ مشروع غريب يقضي بالبحث على كنز كبيرخلفه الفرنجة في بقايا مدينة عسقلان الصليبية.

كان وصول الكبوجي باشي الى صيدا في 28 كانون الثاني، واثاروجوده خوف الناس وكان في اثره حاشية كبيرة. الليدي كانتالشخص الوحيد الذي لم ينتابه الخوف لانها كانت تعرف سرَ مجيئه. وملخص القصة ان الليدي عثرت على وثيقة مخطوطة باللغة الايطاليةكتبها راهب يخبر عن وجود كنز ضخم في منطقة عسقلان يقدر بثلاثةملايين قطعة ذهبية. وكانت الليدي اكيدة من القصة بعد حصولها علىالنسخة الاساسية للوثيقة وقد اخبرت صديقها السابق بذلك واخفته عنطبيبها فترة من الزمن. واجرت اتصالات بسفير انكلترا في استانبوللاخبار السلطان بالقصة. وقد اثار الموضوع اهتمام السلطان فقررارسال الكبوجي باشي للقاء الليدي والذهاب معها الى فلسطين.

وعند وصول الكبوجي باشي الى صيدا وهو يدعي درويش مصطفىاغا، ارسل في طلب السيدة، فرفضت الذهاب اليه وأصرت ان يأتي هواليها؛ وهكذا فعل حيث مكث في دير مار الياس ثلاثة ايام.

ولتحقيق هذه العملية كان على الليدي ان تتدبر المال. ولم يكنباستطاعتها الاتكال على حكومتها او على اصدقائها في انكلترا، ولميتحمس لمشروعها الا القنصل البريطاني في حلب المدعو جون باركرBarker الذي مدّها بـ 12000 قرش دفعها في عكا.

كان المشروع يتطلب عدة اشهر. ولتنفيذه توجهت كما توجه الكبوجيباشي الى عكا فوصلتها في 17 شباط وبقيت فيها حتى منتصفاذار بانتظار وصول المبلغ المذكور من القنصلباركروغادرت المدينةفي 18 اذار وبرفقتها درويش مصطفى وريس افندي ومئة خيال. وكانالكبوجي معجباً بها وبشخصيتها وطريقة حياتها ويجد فيها مثالالمرأة. وكانت شهرتها تسبقها حيث تمضي وكذلك الاساطير التيتحاك حولها. وفي 31 اذار توجهت البعثة من يافا الى عسقلان.

كانت عسقلان مدينة مدمرة تنبئ بماض عظيم لكثرة ما فيها من آثارواعمدة وتيجان اعمدة. وبدأت اعمال التنقيب من اول نيسان الى 14 منه وقد تركزت اعمال التنقيب عند الحائط الجنوبي لسور المدينة، حيثتقوم بقايا مسجد قديم، لان الوثيقة المذكورة تشير الى ان الكنز مخبأفي هذا المكان، وبقدر ما كان العمال ينبشون الارض كانت معاولهمتقتلع بقايا اثرية من مجوهرات وتماثيل وحجارة منحوتة. وبعد اسبوعوصل التنقيب الى بلاط المعبد حيث بني المسجد، وكان بلاطا جميلاًاستحسنه اغا يافا وشحن منه ثلاثة مراكب. وفي اليوم التاسعاستهدى المنقبون على مكان الكنز المزعوم. ولكن للاسف كان قدسبقهم اليه اناس آخرون وافرغوا محتوياته منذ زمن بعيد.

كان هذا الفشل صدمة كبيرة لليدي ستانهوب التي كانت تعلل النفسبجني ربح وفير من هذا المشروع، برغم انها كانت ستقدم الكنز الىالسلطان، ومع الفشل كان عليها ارجاع المبلغ الذي استدانته وصرفتقسماً منه في اعمال التنقيب.

وفي مطلع ايار عادت، الليدي الى ديرها خائبة خالية الوفاض فاعتزلتفيه وانغلقت على نفسها.

مضى شهر ايار والليدي في عبرا لم تتحرر بعد من صدمتها، وهيمسترسلة للقدر الذي تعودت الاتكال عليه لطول عشرتها للشرقيين. ومعاقبال الصيف وتعاظم الحر في شهر حزيران، قررت الصعود مرة ثانيةالى قرية مشموسة في جزين. فاستأجرت ثلاث منازل مخلدة للراحةمستجمة في الطبيعة الجميلة التي تحيط بالقرية وبالمناظر، الخلابة،ممضية ايامها في التنقل بين الصخور والوديان متنشقة الهواء الناعمطيلة الصيف والخريف.

ولتمضية الوقت، وقطع رتابة النزهات، اقترح عليها طبيبها بناء كوخ منجذوع واغصان الشجر في وسط غابة صنوبر بكاسين. كان افرادالوفد يمضون النهار بالقراءة والمحادثة.

وبرغم الاخلاد الى السكينة، كانت الليدي ستانهوب مهتمة بامور كثيرةمنها مشاكلها المالية، ولذلك كان مرسلوها لا ينفكون عن زيارة المعلمحاييم في عكا للحصول على مبلغ من المال لتنفيذ مشاريعها السريةدائما. وكانت توزع الهدايا على المسؤولين في اسطنبول وبلاد الشام. وقد اثارت هذه الهدايا انتباه القناصل والمبعوثين الفرنسيين. فكثرتمراسلاتهم مع الحكومة الفرنسية املا في كشف سر ذلك، وكانالفرنسيون يعتقدون ان الحكومة الانكليزية كانت وراء ذلك ولم يدر فيبالهم ان الليدي كانت ارسلت صديقها السابق ميشال بروس طالبةدعمه فكان ان ارسل لها ما تطلبه في لوائح لا تزال محفوظة.

هذه الحمى من التنقلات لمساعدي الليدي كانت تثير الشبهات خاصةعند الفرنسيين ولا احد يعلم سرها. وبرغم حذر الفرنسيين منها كانتتمد يدها لمساعدتهم في المشرق، واسطع دليل على ذلك تدخلها فيمسألة الانتقام لمقتل الكولونيل الفرنسي Butin الذي كان مبعوثاًلنابليون في المنطقة وقد اغتيل في شمال سوريا. وعندما علمت الليديبالامر اهتمت به مع ان علاقتها به لا تتعدى لقاء جرى بينهما فيالاسكندرية في 1812 على العشاء.

وقد دخلت الليدي على خط الانتقام للكولونيل اكثر من الفرنسيينبالذات، وكانت غامضة لتراخي الفرنسيين في القضية. ولذلك ارسلتاحد موفديها الى حماه للاستقصاء عن موضوع الفرنسي، وآخر الىعكا لحث الباشا على التدخل. ولجمع معلومات خاصة بها ارسلتبعض محسوبيها الى قرى المنطقة حيث قتل الكولونيل وحثت مصطفىبربر على التدخل لملاحقة الجناة. وبعد اكتشافهم وتحديد منطقةوجودهم. نزل مصطفى بربر عند رغبتها فسار على رأس خمسة الافرجل فاقتحموا المنطقة حيث جرى القتل.

ولتهنئة مصطفى بربر بحملته سافرت الليدي في صيف 1816 الىطرابلس فقابلت مصطفى وهنأته، ومن طرابلس سارت الى انطاكياحيث جرى لها استقبال كبير. وكان وراء سيرها الى انطاكيا رغبةبمغادرة البلاد تهربا من استقبال اميرة بلاد الغال التي كانت فيسياحة في المشرق وكانت الليدي تكرهها كثيراً.

وقد عادت الليدي  الى عبرا في 29 ايلول. وكانت الليدي تسر بزيارةالاجانب لها واستضافتهم عندها. ولذلك استضافت في 10 اذارالسيدةوليامسالتي تركتها في مالطا عند وصولها اليها من انكلتراكما استضافت الفنان الرسام وليم جون بانكس Bankes، ثم زارهاجايمس سيلك Buckingham.

ويخبر باكنغهام بأن منزل الليدي كان يضم الانسةوليامسوالسيدةفرايوسكرتيرا من اصل فرنسي وبعض الخدم. وكان عندها فيالاسطبل بعض الاحصنة العربية الاصيلة، وبأنها كانت تنهض منالنوم عند الساعة الثامنة وتتناول الفطور من الشاي او القهوة، وافضلانواع الفاكهة كان موجوداً على مائدتها. ثم كانت تنصرف الىرسائلها التي كانت تمليها على سكرتيرها وترسلها الى شخصياتمختلفة في اوربا. وعند نهاية فترة بعد الظهر كانت تقوم بنزهة علىصهوة الحصان، فحديث هذه الامرأة، التي عاشرت كبار القوم كانتله جاذبيته التي لا تنتهي.

الليدي ستانهوب، لم تنس البروتوكولات الانكليزية في اقامتها في عبرالذلك كانت تصر على تطبيقها على ضيوفها حتى في مراسلاتها وفيعادات الاستقبال والوداع. وكانت انكليزية في اقامتها في المشرقوعيونها مفتوحة على كل شاردة وواردة تراقب الاحداث لمصلحة بلادها. فتجمع الوثائق والمعلومات وتحللها وتراسل اصدقاءها ناقلة اليهمانطباعاتها. لذلك لم يكن مستغربا انها كانت تنظر الى سوريا علىانها مفتاح الطريق الى الهند وبأن الحبشة هي الهند مصغرة او علىالاقل كسوق مستقبلية نظرا لثرواتها عندما تصبح متحضرة. وكانتالليدي  استانهوب تذهب الى حد الاعتقاد بان لا رحالة اوروبي اخريجاريها في الذهاب الى هذا الحد في هذه النظرة الى السياسةالمشرقية التي على انكلترا ان تنتهجها.

طريقة التفكير هذه هي التي جعلت البعض يطرح الاسئلة عن مبرروجود الليدي  ستانهوب في المشرق، وعما اذا لم تكن جاسوسةانكليزية تعمل لصالح بلادها. وقد ذكرنا مرات عدة ان التقارير التيكان يرسلها القناصل والعملاء الفرنسيون. كانت تصب في اتجاهاتهام الكونتيسة الانكليزية بالعمل بسرية لغايات غير واضحة وكانوايراقبون تصرفاتها ويرسلون عنها التقرير تلو التقرير محاولين الامساكببعض خيوط سر وجودها.

ولم يكن عمل الليدي مقتصراً على استكشاف السياسة الفرنسية اوالتركية والاهتمام الاثري والنزهات السياحية والطموحات الشخصيةلمركب العظمة الذي كانت تعاني منه بل كانت تسعى للحصول علىالوثائق والمخطوطات النادرة خصوصاً تلك التي تكشف اسرار بعضالطوائف والديانات الشرقية وترسل نسخها الى انكلترا.

ولكن من اين لليدي الحصول على اموال تغطي هذه المصاريفالمذكورة وغيرها، ونشاطاتها متنوعة ولا تتوقف؟

كانت مصاريف الليدي  ستانهوب باهظة، وكانت مشاريعهاوطموحاتها كثيرة ومتنوعة، وكان جزء من عملها يذهب لمصلحة صديقهاالسابق ميشال بروس، والمصاعب المالية تضغط عليها. وفي مراسلاتهالصديقها كانت تشرح وضعها المادي وتخبر ان المصاريف قدتضاعفت عن الفترة التي كان فيها ميشال في المشرق. طبعا كان هذاوضعها ووضع السكان ايضا الذين كانوا يعانون من فحش الاسعار. فالقمح الذي كان يباع في استانبول بـ 40 قرشاً كان يباع في لبنانبـ 90 وقد اضحى سعره في العام 1816 يوازي 180 قرشا، والناستتوقع المجاعة بسبب قلة الامطار التي هطلت.

واضافة الى الاوضاع الاقتصادية كانت الليدي تحاول استجلابعاطفة الحبيب السابق بوصفها لحالتها المعيشية. فهي منذ ثلاثسنوات تركب الحمار ولا حصان لديها وتلبس كبقية الناس الا عندماتفرض عليها الظروف غير ذلك.

وعندما كانت الليدي  لا تزال في انطاكيا، استدعي طبيبها، الذيكانت شهرته منتشرة في لبنان، الى المختارة لمداوة زوجة الشيخ بشيرجنبلاط. ومن ضيافة الشيخ الكبير انتقل لمداواة اشخاص اخرين فيقرية جون. ومن ثم ذهب الى قرية روم لاستئجار منزل لتمضي الليديبقية الصيف فيه.

وكانت روم وقتذاك عبارة عن قرية صغيرة فيها 40 عائلة، تقع على بعدثلاثة اميال تقريبا من مشموسة وتقع على رأس تلة بشكل مخروطي. الصعود اليها صعب. وقد استقبله فيها شيخها المدعو كليب وابنهالصغير حبيب. والكاتب لمذكرات الليدي يخطئ بجعله نسبيا للشيخبشير، لانه بالواقع كان وكيله ويدعى كليب العازوري منازل روم، حيثستمضي الليدي بقية الصيف، كانت مبنية بالحجر. وانتاج القريةالاساسي هو التبغ وهو الافضل في اقليم التفاح، وكان السكانيعملون في صناعة الفحم الخشبي الذي يبيعونه في صيدا. وقداستكرى الطبيب ثلاثة منازل، وكان منزل السيد يوسف الحداد مكرسالها وقد دفع 38 قرشا للفصل. وقد دفع 8 قروش لاحد المستأجرينلتخلية منزل الحداد. وكانت المنازل واقعة في السفح الشرقي من التلةلتجنب البرد.

وفي 29 ايلول وصلت الليدي الى عبرا ثم صعدت الى روم في 6 تشرين الاول/ اكتوبر ثم هبطت منها في 13 منه لاستقبال السيدرينيو” “Régnaultقنصل طرابلس الجديد الذي امضى بعضالوقت في الدير في ضيافتها.

واستقبلت ايضاً في 28 تشرين الاول امبرواز ديدو Ambroise Didot ابن صاحب المطبعة الشهير في باريس الملحق بسفارةاستانبول وكان برفقته المدعو لاغرانج Lagrange المترجم الذي درسالعربية في لبنان، والذي تقرب من الليدي فافشت له باسرار حبهاالسابق للجنرال مور Moore عندما كانت لا تزال في انكلترا.

وفي 15 تشرين الثاني وصل الى صيدا خادمها جورجيو الذي ارسلتهالى انكلترا في 1815 لامور خاصة بها وكان قد عاد وبصحبته طبيبيدعينيوبريNewberry سيخلف مريون في مهمته.

وفي 24 تشرين الثاني بدأ مريون الاستعداد للرحيل الذي تم في 21 كانون الثاني 1817.

ولم تمض سنة حتى علمت الليدي بان صديقها السابق تزوج منالليدي باركر Parker ارملة كابتن في البحرية وبان ميشال افلسماليا. ومنذ ذلك الوقت في العام 1818 توقفت الاتصالات بين الليديوميشال.

ولم تكن اقامة الطبيب الجديد طويلة ففي العام 1819 غادر الليديالتي كانت مهتمة جدا بتقديم المساعدات الانسانية والطبية لمرضالطاعون.

وكانت ايضا الى جانب ذلك تقدم الحماية للهاربين من اضطهادالباشوات. ومثال على ذلك استضافتها لحاكم انطاكيا، الذي كان قدتعرف اليها ابان زيارتها للمدينة والهارب من باشا حلب. وقداستضافت المذكور وطلبت من متسلم صيدا عدم ملاحقته فكان لها ماارادت.

كانت الليدي تختار المناسبات لابراز سموها على الزعماء المحليين. فكانت تنتقل من عبرا للسكن لمدة قليلة في مكان ما حيث تخلع الهداياعلى الزعماء.

وعندما تدخل الى صيدا، كانت تصلها محاطة بالجنود. وبحاشيتهامن الاجانب ومن ابناء البلاد. كانت تجتمع بالمسؤولين وتحادثهم فيالسياسة العالمية وتغدق عليهم الهدايا وعلى مساعديهم. طبعا، كانذلك يثير شكوك الفرنسيين، الذين كانوا كالعادة يكثرون من التقاريرعنها التي تشرح تفاصيل ما تقوم به، طارحين اسئلة من دون اجوبةعن سبب تصرفاتها.

كانت الليدي غريبة الاطوار في تصرفاتها، وهي قد احبت كابتن يدعىجان باتيست لوستونوJ. B. Loustaunau وقصته معها غريبةعجيبة.

يظهر انها قد تعرفت الى والده في عام 1815 في حيفا. وكان الوالدالمدعو بيار فلاحاً معدماً ترك منطقته في البيرنيه وذهب الى بوردوومنها الى الهند. وبرغم عدم ثقافته العسكرية انخرط في الجندية وقامبمآثر عسكرية ضد الانكليز، فاكتسب شهرة بطل ورفع الى رتبةجنرال، ثم تزوج ابنة احد الضباط الفرنسيين الاغنياء. ثم قرر تركالهند والرجوع الى فرنسا حيث فقد ثروته في استثمارات غير ناجحة،ثم ادت الحرب الفرنسية الاسبانية الى افقاره.

وكان ل بيار ولد يدعى جان باتيست، خدم في الجيش الفرنسيواصيب في معركة واترلو. كان الوالد بيار يهيء نفسه للسفر الى الهندوهو بعمر 56 سنة لاسترجاع ثروته فسافر الى المشرق ومر بمصرومنها ذهب الى فلسطين حيث مكث في عكا يهيء للالتحاق بقافلةدمشق ومنها الى البصرة. وفي عكا مرض وفقد عقله وعندما عاد اليهانقلبت حياته راسا على عقب فمارس الشحادة وحياة الدروشة. واثناءذلك تعرفت اليه الليدي وقد انعمت الليدي  على بيار واحاطته بعنايةفائقة، وعندما وصل الكابتن الشاب باحثا عن والده في المشرق وكانبحوزته جواز السفر  يخوله الذهاب الى الهند، فقد وجد والده عندالليدي التي استقبلته في عبرا بانتظار ان يحين موعد السفر، ولكنالشاب لم يسافر وبقي الى جوار الليدي يهتم بخيولها. وقد تعلقتالليدي بالشاب الصغير، لانها اعتقدت انها وجدت فيه شبها غريبابضابط انكليزي احبته سابقاً. وفي قراءتها لكفه، ولبرجه وفي شكلرجله وجدت انه ينبغي ان تلتصق حياة الكابتن بحياتها.

كان الكابتن يدير املاك السيدة وكان حب الليدي له حباً صوفياً، نقياً،ممزوجاً باولى تحركاتها العاطفية زمن الصبا، وبقناعتها بأن الغيبيحتم عليها ان تضم حياتها الى حياته. ولكن الموت ما لبث ان داهمهفدفنته في حديقة المنزل وكانت تزور القبر مرتين في اليوم ناثرة الزهروغارقة في بحر من الاحلام.

كانت وفاة ذلك الشاب، الذي اعاد الى نفس الليدي ذكريات الصبا،في اواخر آب 1820 وبعض الكتاب الفرنسيين يميل الى الاعتقاد انهادفنته في حديقة مسكنها لانها كانت مقتنعة بروحانيته ولربما هذا جزءمن خيال القصاصين الفرنسيين الذين جعلوا من حياة الليدي موضوعاًشيقاً لقصصهم العاطفية.

ومن زوار الليدي  ستانهوب الفيكونت دو مارسيلوس Marcellus الذيالتقى بها في حزيران 1820.

كان مارسيلوس سكرتيرا للسفارة الفرنسية في استانبول  وهو الذيحصل على التمثال الشهير للمرأة الجميلةVenus de Miloالموجود في متحف اللوفر وعمل كسكرتير اول لشاتو بريان في سفارةلندن ووزيراً في دويلة ايطالية.

ويقول مارسيلوس بأنه وصل صيدا في منتصف حزيران 1820. وكانمهتما بزيارة الليدي والتهيئة لذلك بذكاء لان الكثير من الرحالة لميتمكنوا من مقابلتهابسبب سوء اتصالهم بها.

ولذلك ارسل لها وريقة صغيرة لا يذكر فيها شيئاً عنه ويطلب مقابلتهامن دون رسميات. فأثار ذلك اهتمامها وارسلت بطلبه. وقد اثار انتباهالشاب الفرنسي ان السكان يطلقون عليها لقب السيد Cid الليدي. وعند دخوله منزلها وجد بدوياً جالساً على جلد دب سرعان ما تبين لهانها الليدي. التي سلمت عليه على طريقة العرب واجلسته قربها وهيبثياب الرجال وفي حديثه معها اعتاد على غرابة ثيابها ونسى جنسها. وهي تلبس ذلك لاخفاء هويتها، ولباسها هو لباس الشيوخ الاغنياء لاعامة الناس طبعا.

وكانت وراء لباسها تخفي قامة كبيرة، عيونها كبيرة وحادة ونظراتهاتمزج النعومة بالبراءة. وجهها مستطيل وشاحب، وقد وجد الكاتب انهاجميلة.

وداخل المنزل، وجد الدبلوماسي الشاب لوحة تمثل حصانا حرا يجتازسيلا من الماء، ولعل هذه اللوحة هي خير ممثل لشخصية الليدي ووراءاللوحة كانت تخفي صورة لنابليون بونابرت.

كانت الزيارة مناسبة لنقاش طويل ابدت فيه الليدي امتعاضها منرغبة الاوروبيين بزيارتها ثم عند عودتهم الى اوروبا يعمدون الى نشركتابات عنها يصورونها فيها على ذوقهم ويسيئون اليها. وابدتتفضيلها للفرنسيين على الانكليز وميلها للعرب، كما اخبرته ببعض مارأته من اسرار الشرق. ويبدو ان الشاعر الفرنسي لامارتين، قد سرقمعلومات صديقه  مارسيليوس عن الليدي واضافها الى كتابه  وتوسعبها على هواه.

وفي عام 1821 انتقلت الليدي  ستانهوب من عبرا الى قرية جون حيثاستأجرت منزل جوزيف صوايا قرب القرية. والسبب وراء هذا الاختيارغير معروف، وقد يكون لدوافع اقتصادية محض.

وما ان استقرت في مسكنها الجديد الواقع على تلة في آخر جونوقرب دير المخلص حتى بدأت ورشة اعادة تأهيل المسكن علىطريقتها. فنظمت الحديقة وجعلتها فائقة الجمال وبنت فيها غرفاًصغيرة واسطبلات ومكاتب خدمة وغير ذلك من امور تساعد علىاستقبال اللاجئين اليها. واحاطت هذا التجمع بحائط يعلو من 10 الى6 اقدام لحماية الداخل من الفضوليين. وكان لهذا التجمع السكنيبابان، واحد للزوار والخدم وآخر للنساء وللداخلين سراً.

وقد امضى لامارتين الشاعر الفرنسي يوما وليلة في ضيافة الليدي في1832 وترك وصفاً وانطباعات عن ذلك تقرأ في كتب رحلاته. وكانالجناح الذي سكنته الليدي يطل على قرية مجدلونا وهو مكون من غرفةاستقبال ومن غرفة اخرى. كان المسكن شبيها بالخلايا الديرية لجهةتقشفه والليدي كانت في السنوات الخمسة عشر الاخيرة لا تغادرالفراش الا بعد الظهر ولا تنام الا مع الفجر ما بين الساعة الثانية اوالخامسة صباحاً. وكانت حاشيتها مؤلفة من سكرتير فرنسي ومنرئيس خدم ومن سبعة عبيد سود، رجلين وخمسة نساء، ومن فتاةلبنانية ومن عشر خدم اخرين يعملون في الاسطبلات والمطبخ وحملالماء وبوابين يضاف الى ذلك العمال الذين يعيشون في خارج المسكنويعملون في مشاريع ستانهوب .

ويبدو ان نشاط الليدي بدأ بالتقهقر منذ عام 1820 وازداد تقهقراً معتقلص مواردها المالية. لذلك احبت ان تنسحب الى جون لتمضية بقيةايامها في هدوء.

وكان صيتها في انكلترا قد جعلها تكتسب لقب في انكلترا قد جعلهاتكتسب لقبملكة لبنان المجنونة، بعدما كانت تسعى وتعتقد انهاستكون ملكة اورشليم.

ومن الاحداث المهمة خلال انزوائها في جون كان استقبالها لباشا عكاعبد الله بعد هربه من امام جيش ابراهيم باشا في 1832 حليف الاميربشير، ضاربة عرض الحائط بمعارضة الامير لذلك.

وكانت علاقتها بأمير الجبل قد بدأت تسوء بالتدريج منذ عام 1818 ووصل الخلاف ذروته بعد مقتل الشيخ بشير في العام 1825. وكانالامير بشير قد وزع في القرى اعلانا يحيط به خدم  ستانهوب بتركهاوالا فقدوا ارزاقهم وحياتهم. وبان من يساعدها سيقطع ارباً. وهذا ماجعل خدمها لا يجرؤون على الخروج. والفلاحون لا يستطيعونمساعدتها.

وعندما حاول الامير اعادة المياه الى مجاريها معها رفضت استقبالالوسيط. ولكن تليين موقف الامير لم يكن نابعا منه بل من وساطةسفير بريطانيا في استانبول السير روبرت ليستون Liston.

سبب معاداة الامير لها هو في اعتقاده بانها جارة خطرة له وصديقةعدوة الشيخ بشير ولا تخفي رأيها السيء به. وقد حاول الامير بكلوسائل الضغط ابعادها عن جون فكان جوابها لمرسليه: “قولوا له انهوحش، واذا ما احب استعمال القوة معي، فانا مستعدة لذلك“.

ولذلك، كانت الليدي تساند كل من يقع غضب الامير عليهم ويقتلهم ،وسكان الجبل يخافونها وكان تحت امرتها 400 رجل، فهي تمارسكامل سلطتها كزعيمة اقطاعية على مخدوميها.

وبرغم ضائقتها المادية كانت تستقبل كبار زوار الشرق، وكان البعضمنهم لا يحظى بالموافقة على الزيارة. وما يكتب عنها كان يصلهافتقرأه وكثيراً ما كانت تجد فيه مبالغة وسوء نية. وهي عندما قرأت ماكتبه عنها لامارتين حكمت عليه حكما قاسياً، بأن ما كتبه خاطئوكاذب. وبأنه ليس بشاعر بل ناظم اشعار ولا يقاس اطلاقا بشكسبير.

وقد زارها عالم الآثار Madden  مدير المتحف البريطاني لاحقاًوالشاعر الانكليزي Kinglake الذي نقض الزعم الشائع بان الليديامرأة مجنونة. وكان آخر زوارها الكبار الامير الالماني Muskau .

نهاية هذه المرأة النبيلة كانت تعيسة. ففي عام 1838 اشتكى عليهاالمدينون الانكليز ووقعت الملكة فيكتوريا امرا بالحجز على ممتلكاتها،وبعد توسل الليدي اوقفت الملكة الامر، ولكن مشكلة الديون بقيت عالقة،فالليدي من دون مال، وعليها الاف القروش دينا لسكان القرية وعندها34 خادما عليها تأمين اعالتهم.

وفي 23 حزيران 1839 انطفأت الليدي  ستانهوب في عزلة تامة فنهبخدمها المنزل وبقيت جثتها متروكة ثلاثة ايام. ولم يجر دفنها الا فيليل 26 حزيران بعد تدخل القنصل البريطاني ومرسل امريكي.

ما بقي من منزل الليدي ستانهوب في جون خرائب بين اشجارالزيتون تذكر بتلك المرأة التي اثارت فضول اوروبا وكتابها فيمنتصف القرن التاسع عشر، فحاكوا حولها قصصاً كالاساطير. ويبقى السؤال الذي لا جواب واضحاً عليه.

ماذا جاءت تفعل هذه الليدي في الشرق؟

…………………

* التوثيق

1. ألياس قطارلغز في تاريخ الشرق اسمه الليدي هيستر ستانهوب،مجلة الصياد (بيروت/ لندن)، الاعداد– 2292 ( 7 /10 /1988) و2293 (14 / 10 / 1988) و 2294 (21 / 10 / 1988) و 2295 (28 /10 / 1988).

2. بيير كربتيسابراهيم باشا، ترجمةمحمد بدران، ط1، دن،القاهرة، 1937.

3. محمود السمرةغربيون في بلادنا، ط1، منشورات المكتبالتجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1969.

4. ميخائيل مشاقةمشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان، القاهرة،1908.

5. علي الورديلمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث (ج2)،ط1، دار الوراق، لندن/ بيروت، 2007.

6. روجيه جاويشحسناء جون، ط1، بيروت، 1970.

7. Stanhope, Hester Lucy, Wrote- Meryom, charles lewis, memoirs of the lady Hester Stanhope, Henry Colburn, Retrived, loundon, 2014.

8. Stanhope, Hester Lucy, Wrote- Meryom, charles lewis, Travels of the lady Hester Stanhope, Henry Colburn, loundon, 2014.

9. Michel de Gréce – Aimée du Buc de Rivery- la nuit du Serail, Gallimard, Paris, 1982.

10. Philip Hitti – Lebanon in history, London, 1957.

11. Sarah Searight- The British in the middle East, London, 1969.

12. Hussein El- Mudarris, Oliver Salmon, Alphonse de lamartime voyage, en orient 1832- 1833, Aleppo Art.

13. The Encyclopedia Americana, vol 25 edition 1962- Stanhope, lady Hester Lucy.