18 ديسمبر، 2024 6:42 م

رحلة الدلالة نحو بانورامية الدليل الإشكالي 

رحلة الدلالة نحو بانورامية الدليل الإشكالي 

( توطئة )
يقع مشروع جان كوهن في التمييز بين اللغة الشعرية
و اللغة المعيارية في قلب الإتجاه الشكلي .. فقد كان
طامحا لتأسيس الشعرية بوصفها ( استطيقا ) عملية
في إقبال الأستطيقا الفلسفية ، أي الرجوع الى النزعات
الوضعية للوصف و الأبتعاد عن النزعات التأويلية للتفسير.
و تبعا لهذا الأمر نجد بأن التصور المنهجي للأتجاه الشكلي
في الشعرية بتركيزه على دراسة الأشكال الخاصة للغة
الشعرية . ففي الطابع الخاص لهذه التشكلات اللغوية بات
يكمن الجوهر الشعري فتكون الدلالة الأولى في النص
الشعري مطابقية أو تقريرية و في الثانية استفادة شعرية
سيميائية خلوصة للكشف عن عملية التدليل في توليد المعنى
القصدي و الدلالة في ذهن المقروء الخطابي المضاعف في
تركيبة المتمحورات الأنفتاحية في وصف تشكلات مراحل
الصورة الشعرية في القصيدة .
( الجدل الألحاقي بين فضاء القارىء و النص )
أن طبيعة أوجه الكتابة الشعرية الأسلوبية و التأويلية و
البنيوية في عوالم قصيدة شاعرنا الكبير محمود البريكان
رحمه الله و أسكنه فسيح جناته . تتميز بفعاليات دلالية
شكلية و مفهومية غاية في الأهمية و التقويم ، بيد أن فعل
القراءة لها يتطلب مجهودا تأويليا خاصا لغرض فهم
سيرورات و موجهات ومحققات تلك الأبعاد الشكلية المنصبة
في وظيفة القصيدة لدى هذا الشاعر المهيب . و من خلال
كتاب ( البذرة و الفأس / قراءات حرة ) للأستاذ الشاعر و
الكاتب رياض عبد الواحد ، الذي أرتأينا منه بدورنا بأنه
المصدر الدراسي الوحيد الذي قد أعطى لنصوص البريكان
تلك المساحة القرائية الثقافية المؤولة في مجليات فضاء
التقويم و المعالجة الإجرائية دون غيره من الباحثين
ممن اختاروا عوالم البريكان نموذجا في دراساتهم و
مقالاتهم المبحثية . ففي طيات هذا الكتاب القيم وجدنا
أيقونة قصيدة ( رحلة القرد ) و قد اخترناها بدورنا نموذجا
لدراسة موضوعة مقالنا المبسطة لتكون علامة وظيفية
مضافة بالقيمة و التقصي و الإحقاق الى كفة مقصديات و
مؤولات و إيحاءات فعالية قصيدة هذا الشاعر الكبير .
فشكرا للأستاذ رياض عبد الواحد لأنه قد اتحفنا بهذه
الإضمامة من مقالاته الجهيدة و لأنه قدم لنا نماذج مستقلة
من صور و مخطوطات قصائد هذا الشاعر التي باتت و الى
اليوم في المكتبات و الأسواق الأدبية من الككنوز المفقودة .
داخل القفص الخشبي
في مؤخرة الشاحنة
يقبع القرد . يبدو عليه الهدوء
يتفحص ما حوله
تنطوي تحته الأرض مسرعة
تتباعد عنه المناظر .
في هذه المقاطع و المناظر الأولى من قصيدة و لوحة
( رحلة القرد ) نعاين بأن الخطاب الشعري قد جاء بوصفه
خطابا غنيا بالوصف لا بالدلالة . ولكننا عند الأمعان
الفاحص في مجليات هذه المقاطع الأولى من النص نجد بأن
هناك ميزة أساسية في مكونات آلية هذه المقاطع وهي
التعريف بين الخطاب الشعري الذي يكسر الوهم التواصلي
و الخطاب التواصلي العام الذي من شأنه حدوث تحولات
صورية ( الوهم / الأمكان / المقاصد الأصلية / المقاصد
الواهمة / المجريات الواقعة / شعرية غير شعرية ) ولكننا
عندما نتأمل واقعة عتبة الأستهلال التصديرية الأولى في
النص ( داخل القفص ) ندرك بأن المعنى المقصود من
وراء هذه العلامة الثيماتية / المكانية ( داخل / القفص /
رحلة / القرد ) بأن هناك ثمة منضويات تكاثرية في البعد
التخييلي للمسار النصي البانورامي . لذا فأننا سوف نقوم
بتعيين محاور و مقاصد فضاء الدلالة النصية التي جاءتنا
بموجب هذه النقاط الآتية : 1ــ أن الدلالة ترتبط بالواقعة
المصورة تحديدا فهي تتجه بالوجه التوصيفي المحتمل نحو
فضاء المرجحات الظرفية كعوارض نفسانية و مجتمعية
و سيكولوجية 2ــ يرتبط المعنى الدال أي محور ــ رحلة
القرد ــ بالغرض الأصلي لذات الشاعر و الكتابة لذا فهو
تفهمي المقام وقد يشكل الخلفية الأيقونية التي يمكن أن
تتقدمها الدلالات التكوينية الخاصة لتكون سؤالها و وظيفتها
التواصلية في دلالات فضاء رحلة القرد الضمنية .. و عند
جس خطوط و علامات الدوال يتضح لنا : ( يقبع القرد /
يبدو عليه الهدوء ) نلاحظ بأن الخطاب ليس وحده القيمة
الحقيقة و الفنية بالدلالة . و أنما التلقي هو الحادثة التي من
شأنها الغور و البحث في هوية ذلك الخطاب و الأنطلاق
منه نحو فسيح الفضاءات الأحتمالية الممكنة . فالشاعر
البريكان من خلال دلالة المكان الفعلية ( يقبع القرد )
نجده يشكل و يرتب ما اطلق عليه من دال ( رحلة )
و بالمقابل من هذا وجود الدال وهو يفترض على الشاعر
تمكين حوادثه النفسانية / السلوكية / التماثلية / التأملية /
المصيرية . داخل فحوى مخيلة القرد / الشاعر لتكون
محتملا في شروعات الأوجه المؤولة و في عملية تبادل
الأدوار و كيفية تحويل ذلك الكائن الحيواني الى جهة
تفهمية و تجاوبية حول ما يحيطها من ذكريات / تضاريس
/ مناظر طبيعية / مسافات طويلة / مصير غامض .
أن قراءة قصيدة ( رحلة القرد ) تتطلب من القارىء لها
أن يكون ذات تجاوبات افتراضية ملاءمة و مصير رحلة
دلالات ذلك الحيوان المتفرس من خلف قضبان قفصه
الخشبي حول تلك المزارع : ( و يواصل تحديقه / المزارع
خضراء صفراء غبراء ) أن أبرز تحديد للوجه الخطابي
في قصيدة الشاعر هو ذلك الوجه الأرتسامي المفبرك من
عدة أمور و جهات تركيبية و تأويلية : ( تنطلق الشاحنة /
وهي تهتز / يضطرب القرد ) أن الوجه المركب هنا هو
( تنطلق / تهتز / يضطرب القرد ) ولو تفحصنا تشكلات
هذه المجموعة الفعلية من الدوال لوجدناها حاضنة لتوليدات
نفسانية كبيرة تخص بنيات تجاوبية خاصة بعلاقة كائنية
القرد كفاعل مدلولي يقع في بناء و تأسيس مرحلة من
مراحل دلالات رحلته نحو توليدية نفسانية دالة جديدة .
لعل القارىء لآفاق تلك المقاطع من حيوات و سلوكيات
ذلك الكائن في قفصه لربما سوف يستشف بوضوح ما
امتزاج صوت السارد و الراوي السائر نحو صنع
ملازمات نفسانية خاصة في وعي ذلك البطل الأفتراضي
بتلازم السمات الأدمية إليه الظاهرة / الخفية .
( رحلة النهار / و الأحساس بتعددية الأشياء )
تحت ضياء النهار
النخيل ، الصخور ، النساء ، الصغار ،
البيوت ، القبور ، التلال ، الوهاد ،
القرى ، المدن .
و لعل هذه البانورامية في مخيلة السارد / القرد هي بحد
ذاتها تشكل الأمتدادية المتداعية التي من شأنها تركيز حالات
كالفراق / الرحيل / الغياب نحو بؤرة الإيحاءات النفسية و
الحسية و الحدثية الطافحة ألما ، مما راح يجعل الأفق
الصوري شبيها بالترجيعات النغمية للحن اللاحق في دلالة
النص : ( ثم يأتي الظلام و يبدو القمر / تحت ضوء القمر )
أن الشاعر البريكان لمن الذكاء العجيب في تصوراته
الرسومية لمنظر رؤية القرد الى ضوء القمر و خاصة في
مكونات هذه اللوحة المقطعية الساحرة ( تحت ضوء القمر /
ثم يأتي الظلام / و يبدو القمر ) أن احساس ذلك الكائن وهو
خلف قضبان قفصه المتقاطع بتطاولات الأعمدة الخشبية
تصاحبه ثمة رؤيا حلمية انشطارية لأشعة ضوء القمر وذلك
لأن ضوء القمر بات يتراى له من داخل فضاء القفص و
كأنه مشطورا بفعل وجود القضبان . لذا فأن القرد و بعينه
المتأملة تراه يحلم .
يحلم القرد بالغابة النائية
و اراجيحها .
و تكتب هذه المقاطع التوقفية بنفس مأساوي لا يخلو من
لون حدادية سوداء ، و هي في هذا السياق تشكل سردية آسرة لقسوة القدر و الزمن و عتوه على هذا الكائن المسكين
في طيات رحلته نحو المجهول .
( رحلة الدلالة نحو الدليل الإشكالي )
رحلة القرد تبدو . كشيء من السحر لا ينتهي
أنه يتفحص ما حوله
كل ما يستطيع
أن يحدق .
في كل مقاطع القصيدة تختلط الصور ببقايا الأصداء الحياتية
النهائية مع تزامن تحديقات و تفحصات ذلك الحيوان العاقل
للدروب فيما يشعر : ( يشعر القرد بالأنزعاج / لحظة و
يواصل تحديقه / تتباعد نصب الطريق و أرقامها / يختفي
أفق / يتجلى أفق ) و هكذا تطرز رحلة المصير للقرد و
كأنها رحلة من الانصياع الواهم نحو محاكاة البحث عن
الخلود أو اللاخلود و بلمحات جسدية منه راحت تشي
برمزية الخيبة و لوعة النأي .
تتوالى المناظر مدهشة مسرعة
تتغير ألوانها .
و بهذا الوصف المتماسك المشرئب برائحة دلالات فناء
المغادرة الأسية . منذ البداية وحتى آخر سطر من مقاطع
النص نعاين بأن هناك حالة من حالات ترقب ما وراء هذا
الزمن المتلاشي بسرعة البرق من صفحات العمر الأخير .
( تعليق القراءة )
على الأرجح أن استعمال الرمزية في الكتابة الشعرية
قد عرفت طريقها الى شعرنا بفعل الإطلاع الواسع على
أعمال الغربيين الشعرية ولاسيما الشاعر الأنكليزي
ت. س . أليوت و الرمزية بطبيعتها هي الكشف عن الحياة
الباطنية للأنسان داخل حدود مواضع غير انسانية . فالرمز
في قصيدة ( رحلة القرد ) يبدأ من واقع أنساني ثم يتجاوزه
الى المعاني المجردة التي وراءه تكمن قيمته في صورته الشعرية.
لا يعرف القرد شيئا عن المختبر
غرفة الأجهزة
و المجاهر و المبضع الدموي حيث تصنع من مخه الأبيض المستدير
عينات تجارب .
و تستمر القصيدة حتى زمن نهايتها لتنهل من هذا الفضاء
الأخير ( عينات تجارب + تصنع من مخه الأبيض المستدير
= الدليل الإشكالي ) الذي هيأته عتبة العنونة و سوغته
عتبة التصدير عبر المزيد من التجليات المأساوية و الفجائية
في تلك الغرفة المختبرية التي قد وقع فيها مصير حياة ذلك
الحيوان المسكين فهي ــ أي حجرة المختبر ــ بمثابة ذلك
الفضاء الأحتوائي الإشكالي لأعضاء و مخيلة تلك البانورامية
الطويلة من حياة تلك الرحلة المحملة بمشاهد الحساسية
الحياتية المعقدة و التي راحت تقارب في دليلها الوظائفي
صورة تلك الفصول الإشكالية و الغيابية من حكاية رحلة
القرد .