طارت وطرنا معها، سفينتنا العملاقة، أمنيتنا التي تحققت، نحن ومن التحق بنا، ممن رغب في الرحيل من كوكب الأرض المجنون.
الشمس في الأفق، بخجل تنير أرض السواد، ترسل حرارتها بأسف، فالأجواء حارة، حارة، كل ما في أرض السواد يسخن ويتّقد
الصورة تحتنا تنكشف، المعالم الصغيرة تختفي، الدخان والبارود ووهج النيران، الصراخ والعويل ولطم الخدود يختفي، حدود المدن تتلاشى، البناء يتصاغر، البساتين تلبس لوناً واحداً.
“تُرى، أحقاً هذه الصورة التي نراها؟ فمالنا كلمنا اقتربنا من الحب احترقنا؟”
استمر العلو، واستمرت السفينة في اختراق الحجب بعد الغيوم .
تطير كما الملاك يطير، لا شيء يوقف زحفها نحو العُلا.
كنت في المقدمة، أصدّ بصدري نسائم الملكوت، تخترق صدري رائحة الكون الصافية، الخالية من الدرن الأرضي، والحقد البشري الفاشل.
أُشبع بصري من هذا التألق الذي يتصاعد أمامي، أنا والسماء وهذا الرحيل الذي انتظرته طويلاً.
لا شيء في خاطري، لا وسواس يقلقني، لا هاجس خوف، من موت أو تمزيق، تركت كل ذلك قبل الرحيل، لأحيا، ولو لحظة تأمل نقيةً واحدة.
سمعت جلجلة وقرقعة خلفي.
صوتٌ وسط حلقةٍ للقوم، كان الحمار يستغيث: أردكني يا مُغيث !
اقتحمتُ الجمع، رأيت الحمار في أمان، والسبع والنمر يتنافسان، أيهما الأقدر على البطح ؟ النمر أم السبع.
سألت الحمار: مالكَ وهؤلاء، ولم تستغيث بلا سبب؟
بكى الحمار وعلى نفسه تحسّر، وقال: يا صاحبي تصبّر، فالرهان عليّ، لا على من عصى وتجبّر.
: عجيب !
أوقفتُ النزال، استدعيت الأبطال، وسألتهم سؤال: على من كان الرهان، لو أحدكم من طوله مال؟
كأنهما أدركا الحكاية، فتملصا من الجناية، وقالا: على قُبلةٍ من فم الحمار كانت البداية.
أدركت أنهما كذبا، وعليّ دلّسا، وعلى الحمّار خيّلا ! فعليّ وعلى الحمار الحذر، من هذه الأجناس.
أنزلت الأسد والحمار إلى إحدى غرف السفينة التحتية، أردت أن أحلّ الموضوع وداً، وأن أفهم الأسد أنّ الحمار ليس بالفريسة السهلة.
توسطتُ الحمار والأسد، وقدمت لهما شيئاً من المقبلات، لكن الحمار لم يستسغها.
: شتريد لعد؟ سلطة مايونيز بالبروكلي؟
مدّ الأسد ذيله من خلفي وداعب به خاصرة الحمار وقال: اوفّيش، اشلون دُوش؟ مال بامية.
قرصتُ فخذ الأسد، فاستحيا وذيله سحب.
بدأت خطابي بالأسد: هل كنت تريد تقبيل فم الحمار؟ أم الفتك بالمسكين يا مغوار؟
قال بكل أدب ووقار: وهل الحب حرام ؟ أم أنت مني تغار؟
: تحب المطي؟ .. همست في أذنه ( أيا مطي ).
كان لا بد من حل القضية، فزمننا القادم لا يتحمل المزيد من الدماء، وقد كنت على علم بنوايا هذه الوحوش، فقررت المناورة، علّني وعساي أن أحقن دم هذا الحمار البريء.
قلت للأسد: إذن، أنت تحب الحمار، وفي قلبك تجاهه أسرار وأسرار.
قال: بلى.
قلت له: إذن، اسمع حكايتي هذه، وبعدها قرّر الذي تريد، في علاقتك مع هذا الشديد.
وضع الحمار رأسه على فخذي الأيمن، وطلب مني أن أحك فروة رأسه وأنا أسرد الحكاية، ومال الأسد عن يساري وانبطح،
فقلت له: إي نعم انبطح، تجيك السالفة.
(( يُروى في سالف عصري وزماني، في غابة مقطوعة عن الأمصار والأخبار، أن أسداً مغروراً، انقطعت به الأسباب، وتاه عن قبيلته في ليلة ليلاء، بقى وحيداً يغازل نفسه بزئيره الرنان، جاءت الأيام ومرت الأيام، وصاحبنا في تيه ما بعده تيه، وجفاف ما بعده جفاف، فلا أصحابه بانوا، ولا هو بهم التقى، والحرّ يحرك المسائل، وتجعل المخلوق أهون سائل.
كان الأسد يصيح: أين اللبوات؟ أين اللبوات؟ بزئير وحسرة، وقد خنقته العُسرة.
أضطجع على جذع شجرة الجوز العجوزة، وغرق في تأملات الماضي العتيد، أيام صوله وجوله من لبوة للبوة، غائضاً كل الليوث، رادعاً كل الفحول.
سمع خرخشة أوراق خلفه، انتعش، وكأن الدم عاد إلى عروقه، وحين التفت، رأى حماراً يمشي سارحاً.
قفز ونزل وصار أمامه وجهاً بوجه، بقيا هكذا لحظات، العين تقدح بالعين، والفكرة تمتزج بالفكرة، في غابة التيه هذه.
قال الأسد في نفسه “مطي، مو مطي، مالي علاقة، لازم آخذ راحتي وياه، فبدأ يمهد للمسألة”
قال: يا حمار .. وقبل أن يكمل، قاطعه الحمار.
: عادي !
فهل قرأ الحمار الأفكار؟ أم عنده علم الأسرار؟
قال الأسد: يعني قابل؟ معقولة؟
قال الحمار: هي موتَه لو موتين؟ هاي رگبتي گدامك؟ وبَلّش.
تفاجأ الأسد من ردة فعل الحمار.
: لا حبيبي ( انتصبت أذني الحمار ! ) آني ما مفكر آكلك، معقولة أنت هيچي دموي؟
: لعد شتريد أسدو؟
: يعني !
هزّ الحمار رأسه، وشدّ حاجبيه مستفهماً: شنو يعني؟
عاد الأسد، وهو يهز ذيله: يعني ! .. آخذ راحتي، وتاخذ راحتك !
استغرب الحمار من شرود الأسد: آني ماخذ راحتي، بس أنت اشبيك؟ أحچي، فضني.
قرّب شفتيه من أذن الحمار وفهّمه مراده، وبيّن أن هذه الفعلة هي فدية عن عدم افتراسه.
نعم، راود الأسدُ الحمارَ عن نفسه.
قال الحمار: يعني يو تاكلني؟ يو .. تاخذ راحتك؟
حرك الأسد رأسه وابتسم: لا مفرّ يا صاحبي، no way !
قال الحمار بعدما فكّر وتدبّر وتأمّل.
: عندي حل وسط، يريحك ويريحني.
: عجّل به.
: لا يخفى عليك، ياصاحبي، واسمح لي أن أناديك هكذا، أنني أنا أيضاً أعاني من الجفاف مثلما تعاني، والحال الذي أصابكم أصابنا، وكما تفكر أن تريح نفسك، فأنا أيضاً لنفسي أبحث عن راحة، وأنت أدرى بأن مؤشرات التنمية البشرية وتقرير دول الكونكاكاف لم يكشف عن حقيقة العلاقة بين الأزمة والبطاقة التموينية !
اجحظ الأسد عينيه وأصابه الدوار .. واسترسل الحمار ..
: إن مفهوم جدلية الركوب بعد تجاوز الخمسين يختلف جذرياً عن تناسق الأحياء البشرية مادون العشرين، ولفك هذا الارتباط الأزلي تكون فكرة الانبطاح أولاً أقوى من تنظيم عائدات النفط !
أجاب الأسد وقد أصيب بسكرة: يعني شنو؟
قال الحمار بعدما أمِن الحياة واطمأن: أنا أبدأ أولاً، أنا مأزوم، مأزوم جداً.
قال الأسد منفجراً: كلا ! هيبتي؟ وكبريائي؟ وسمعتي؟
أجابه الحمار باستخفاف: يا هيبة؟ أنا وأنت والشيطان ثالثنا، لكن يا صاحبي أنت تعلم مظلوميتي أبد الدهر، فحقق مرادي، هذه المرة، واجعلني أول من يبادر، وبعدها لك الأمر، كلّه .. كلّه !
لم تك أمام أبو خميّس حيلة، وأسلوب الحمار في الحوار أرخى عنفوانه، ومن ضايقته الصعاب، عليه بالتنازل في هكذا أحوال، وكأنه قبِلَ الشرط، وقبِلَ أن يكون الحمار هو أول من يبدأ .. بالراحة.
انبطح الأسد ( فزّ الأسد عن يساري وترقب سطور الحكاية القادمة .. بينما الحمار ابتسم، حتى بانت أسنانه البيضاء ).
استرسلتُ بالحكاية ..
تقدم الحمار بخطوات بطيئة، وكأنه كان يتمزمز بالموقف، فلأول مرة في تاريخ بني الحمير، يركب حمارٌ أسدا.
اقترب الحمار أكثر، بدأ الأسد يفكر في وضعه، سرت أمامه كل حوادث أيامه الخوالي، كل عنفوانه، وبطولاته.
ظِلّ الحمار يتقدم نحو ظهره ورأسه، والأسد كاد أن يفجّر استرخاءه بانفجارٍ بدأ ينمو في بواطنه.
“هل هذه حقيقة؟” .. قال الأسد في نفسه، أراد أن ينتفض ويقفز من تحت الحمار الذي غطى ظله ظهره ، نعم، أراد أن يقفز، لكن حوافر الحمار كانت أسرع، إذ ثبتت فوق كفّيه وقدميه، وانبطح الأخير تماما والتصق بالأرض، وبرك الحمار عليه.
صاح الحمار ناهقاً: عليَّ آثام العرب إن أبقيتك لبعدها ! وبدأ العد التصاعدي.
صرخ الأسد: أويلي !
قال الحمار: هذا الحچي يفيدك.
استمر الوضع على ما هو عليه، والقضية في تقدم وتصاعد.
زئر الأسد، بُـحَّ صوته.
قال الحمار: بأسم كل الحمير المظلومين على وجه المعمورة، اقدم عطائي لك يا مَلك الغابة.
أجابه الأسد وصوته بالكاد يُسمع: لك يا مَلك، يا قنادر، ولك كافي.
القضية مستمرة، الأسد ينهار، يتلوى، يستغيث، حتى جاءت لحظة حاسمة، فجمد الأسد تماماً وتشنجت رقبته، وتجمد رأسه إلى الأمام، وفتح فكّه، وانتصبت شعيرات رأسه كالقنفذ وصار في حالة احتاج فيها إلى المعجزة للخلاص.
مدّ الحمار رقبته بكل رومانسية وكل رقّة، والأسد على هذا الحال الكسيف، داعب بفمه شعر الأسد المتهيج من أثر الحالة.
ثم قرب فمه من أذن الأسد وقال له بنغمة حميمية.
: عيني أسدو، ما ادّير راسك عليّه، خليّ أبوسك.
ختم الحمار النزال، وسقط الأسد جثةً بالكاد تخرج منه الأنفاس، لا قدرة له على النهوض أو النزال، من طرف عينه يرى ابتعاد حوافر الحمار.
انتهت الحكاية، إذ ترك الحمار الأسد وحيداً بعد الجناية. ))
الأسد من جنبي انتفض، قام من مقامه، يمطّ جسده ويزأر، والحمار ينظر إليه غامزاً بعينه. سرح الأسد لحظاتٍ بوجه الحمار ثم فرّ صاعداً إلى سطح السفينة، واقسم أن لا يحارشه ويكتم حبه وحنينه.
[email protected]