18 ديسمبر، 2024 6:52 م

رحلة .. إلى وطنٍ هناك

رحلة .. إلى وطنٍ هناك

( 1 )
يا إلهي !
ضاق صدري من هول هذا السيل القادم، وشهقت .. شهقت عالياً.

تقدموا، تجمعوا، تكوروا حولي، بكل هدوء، ثم بركوا.

مررت عيني على وجوههم في ذلك الظلام، على عيونهم، كانوا يسألون بصمتهم عني، يسألون.

: هل أنت هو؟

: هل تملك كلمات السرّ؟

: هل ستفعلها؟

كانوا ينتظرون جوابي بترقب، كأن حاجتهم إلى الرحيل، كانت كحاجتي إلى الرحيل.

جلت ببصري مرةً أخرى عليهم، ثم أدرت رأسي نحو السفينة، ثم نحو السماء، بعدها أطرقت رأسي إلى الأرض.

أوشكوا أن يبكوا من القلق، حتى سمعوا صراخي، مع قبضة كفي نحوهم.

: نعم، سنرحل !

علا الصفير والصهيل والزئير وصوت الجنيات وهفهفة أجنحة الفراشات، وتعانقوا جميعاً.

تقدمتُ نحو السفينة وفتحت بابها.

: هيا اركبوا، يا .. ربعي، بسم الله ننجو من هذا الكوكب.

تقدمتْ الجموع، زحفت الزواحف وركبت الأسود، نطنطت الأرانب وتدافعت الخيول والحمير، تسلقت القرود والجرذان، دخلت مجاميع البطاريق، طارت الحمائم والفراشات، أسراب النحل وقوافل النمل ومالك الحزين.

وقفَ قردٌ أمامي سائلاً، وهو يحك رأسه.

: حضرتك نبي نوح، لو گرايبه؟

: امشي ولك ! بدينه؟

استقر الجميع على ظهر السفينة، كلٌ أخذ مكانه، واسترخى.

كان الفجر على وشك القدوم، حين دققت في الجوار مسرعاً، أبحث عن متخلفٍ هنا أو هناك.

لم يبق إلّا أنا والفرات، ومن بعيد، أطلال قريتي المدمّرة.

ذهبت إلى الفرات واغترفت من ماءه، غسلتُ وجهي، استنشقت عطره لآخر مرة، آخر مرة، وفيما أنا غارق في هذا التأمل صاح عليّ الثعلب الرمادي، بعدما مدّ رأسه من طرف السفينة.

: ها خالي، ألـمّ الكروة؟ لو أنتظرك من تجي؟

ركبتُ السفينة، وتوجهت إلى مقدمتها، معتلياً منصة هناك، قابضاً على حبل السارية عن يميني.

(( أيها الناس “يا ناس؟” أيتها الحيوانات ! .. قاطعني أحدهم وسط الجمع دون أن أميّزه .. احترم نفسك ! ..

أيتها المخلوقات الكونية، أنا وأنتم أصحاب محنة، وقد ضاقت بنا سبل العيش في كوكب الأرض الغبّي .. استدار القرد نحو الحمار وقال له: يعني أنتَ ! هزّ الحمار رأسه وبكبريائه أهمله .. ونحن راحلون إلى وطن آخر، لا نعلم معالمه، لا ندري أين هو، ليست لدينا أيّ معلومة دقيقة عن تفاصيله، لكن ما يريح سريرتنا، ويثلج قلوبنا الحرى، أننا راحلون، راحلون من ظلم البشر وترهات البشر، والسلام )).

قال الغراب: استادي راح تگضيها خطب؟ فضنه ! چَيّك الماي والدهن، وخل نتوكل.

استدرتُ إلى مقدمة السفينة، لأقرأ كلمات السرّ المطلوبة، أغمضت عيني، وتكورت على نفسي، وغرقت في التأمل، لكن صوتاً خلفي أعادني إلى المشهد.

كان صرصوراً يخنق عبرته، ويحبس دموعه، شاهقاً بأنفاسه، يشتكي من أمر ما.

استدرت نحوه.

: خير صرصر أفندي؟

انفجر بالبكاء.

: خير؟ عسى ما شَر؟

قال الصرصر وهو يترنح من البكاء : اتذكرت بيتنا والدرابين، يعني مراح نرجع؟

نظرت إليه بحقد، ومسحت على فكي، ثم حولت بصري إلى نعل عتيق بقربي، وقلت له.

: ترجع لو هسة اصلخك بنعال، بيتنه ! قصر شعشوع خوما قصر شعشوع؟ أشو مگضيهه بالبلاليع، ولّي يلّه !

رجع مكسوراً يمسح قرنيه بكفه وفمه، لكني ناديتُ عليه من الخلف ومسحت على ظهره بهدوءٍ وطيبتُ خاطره.

عدتُ إلى السرّ الأعظم والتراتيل، فاهتزّت السفينة، رعدت السماء، أمطرت دخاناً كثيفاً أحتوى المكان كله، تحركت السفينة، لازلتُ غارقاً في طلاسمي وحروفي، علت السفينة قليلاً، علت، نحن نغادر كوكب الأرض، نحن نعلو، نعلو، أصوات غريبة من السماء تخترق الحجب، نحن نسبح في الفضاء.

انتصبت أذني الحمار وصاح : طارت والعباس !
[email protected]