قصة قصيرة
كان الجوُّ باردًا قليلًا، والنعاس يوشك أن يُطبِقَ جفنيّ. لا وقتَ للحُلم الآن، لكنّ الإرهاق قد نالَ من جسدي، والوهنُ تمدّدَ في مفاصلي كالماء البارد.

اقتربت من السرير، ألقت بجسدها كمن يُسلم نفسه لريحٍ ناعمة، ثمّ غفت سريعًا.

**** **** ****

أصواتٌ متشابكة، بعضها غامض، وبعضها كأنّه قادمٌ من أعماق حلمٍ بعيد. استيقظت فجأة، نادت بصوتٍ يختلط فيه الفزعُ بالحماسة:

ـ أبي! أبي! هيا، سأُوصِلك إلى العمل! أنا جاهزة!

نظر إليها بابتسامةٍ تَشُوبُها الدهشة، فبادَلَته نظرةً مَرِحةً مكركرة.
تردّد، بدت عليه الحيرة، ثم تحرّك مبتعدًا خطواتٍ قليلة.

كانت “زهراء”، زهرةً في عمر البراءة، لم تَبلُغ الثانية عشرة بعد. لكنها كانت تملكُ جُرأةَ الفُرسان، وعينين تتقدان بالحلم والتحدّي. تقدّمت نحو دراجتها الهوائية، امتطَتْها كما يمتطي الفارسُ جواده، وقفت أمام أبيها حائلًا بينه وبين التراجع، وهتفت من جديد:

ـ هيا! لا تخف! اركبْ معي… ستكون بأمانٍ، أعدك.

صرخ في وجهها، وقد غلبه الخوف:

ـ اذهبي من هنا! أنتِ صغيرةٌ لا تُجيدين القيادة. الطريقُ خطِر، وقد يُصيبُنا الأذى!

لكنّ إصرارها كان كالموج، لا يُجدي معه الصدّ. لم يجد بُدًّا من أن يعتلي الدراجة خلفها. تنفّسَ شهيقًا طويلًا، وكأنّه يُسلّم نفسه لرحمة الريح.

بدأت تُحرّك دواسات الدراجة برفق. حاولت مرارًا حتى تحرّكَت.

نظر خلفه بقلق. قالت له ضاحكةً برقة:

ـ ما بك، يا أبي؟ وجهُك شاحبٌ كفاكهة الليمون! لا تقلق… أنا معك، وسنصل بسلام.

حاول أن ينطق بشيء، لكن الكلمات كانت تخونه. تمسّك بطرف المقعد الخلفي، فيما كانت هي تُمسك المقود بثقة، تمضي بهدوء.

رأى السابلة ينسحبون خلفه، والأرضُ تمضي به كأنّها لا تعبأ بخوفه. صرخ فجأة:

ـ مهلاً! مهلاً! لا تُسرعي!

لكنها لم تُجب. ظلّ يصرخ، حتى خرج من صوته صرخةٌ مدوّية، كأنها شقّت الهواء. وفجأة… خسرَ كلّ شيء ومات.

صاح الديكُ بصوتٍ حادّ، تبِعَه صريرُ عربةِ بائعٍ جوّال. ارتبكت غفوتُها. تحرّكت من سريرها دون أن تصحو تمامًا. فركت عينيها، تحاول طردَ ما تبقّى من الحلم العالق بأهدابها.

نظرت من النافذة المطلة على حديقة المنزل. ثمّ، بدهشة، أسرعت راكضةً نحو سرير والدها. لم تجده.

هرعت في أرجاء البيت، تبحثُ عنه، بلا جدوى. صرخت:

ـ أبي! أبي! أين أنت؟!

سمعت صوتًا يأتي من خارج الدار:

ـ زهراء… أنا ذاهبٌ إلى العمل. حاولتُ ألّا أُوقظكِ. الوقت داهمني… ها أنا غادرتُ.

نظرت من النافذة. كان يلوّح لها. إيماءاته كانت تبعث في نفسها الطمأنينة.

أدركت حينها أنّ ما رأته لم يكن إلاّ حُلمًا… أو ربما إشارةً خفية، وداعًا مُضمَرًا، كأنّه همسةٌ من الغيب.

عادت إلى سريرها، تمدّدت بهدوء، تسترخي من وجع الحلم الذي أيقظ فيها الخوفَ والحنين.

أحدث المقالات

أحدث المقالات