عُرف عن العراق أنه عاش تحت وقع المصائب والمصاعب منذ قرون ، فأرضه لم تهنأ بسلام دائم حتى يومنا هذا ، ذلك لتكوينته الجغرافية والسكانية وتنوع موارده وثرواته ، والأهم مركزيته الدينية ، الأمر الذي جعله محط أنظار المتربصين ، لكن رغم كل الظروف وبرعايةٍ إلهية لم تزده الملمات إلا صلابةً وقوة ، فلكل زمن رجال يذودون عنه وقت المحن ، يحملونه على اكتافهم فيعبروا به نحو شواطئ ألأمان، ونحن اليوم إذ نعيش فترة من أصعب الفترات التي يمر بها العراق نستذكر أحد أهم هؤلاء الرجال.
الأول من رجب من كل عام حسب التقويم الهجري هو يوم الشهيد العراقي ، يستذكر فيه العراقيون شهداء العراق الذين سقطوا دفاعا عن وطنهم ومقدساته ، ليحدثوا العالم عن ابطالهم وما سطروا من قصصٍ رهيبة في أيامٍ خلت ، حينما كان الظلم يغزو الطرقات ، والقهر يحرق مهج الأمهات ، والخوف يستوطن قلوب الرجال ، انتفض هؤلاء الأبطال فغيروا معالم التاريخ وكتبوا صفحاته من جديد.
آية الله الشهيد السيد محمد باقر الحكيم ، نجل السيد محسن الحكيم ( قدس سره) زعيم الطائفة الشيعية في العراق والعالم في القرن الماضي وأحد اهم رموز العراق في تاريخه الحديث ، سليل شجرة نبتت جذورها في أرض العراق حتى وصلت به نسباً إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن طريق ولده الإمام الحسن ( عليهما السلام ) ما جعله ينهل من بحر جده الزاخر بالعلم والعمل والعفة والشجاعة.
منذ أن نزل العراق وباء البعث الملعون وعين الحكيم نحو السيف ، إذ لم يكن يؤمن بغيره حاكماً ، فلغة العقل لا يدركها البعثيون ، حينذاك كان البعث لا يميز في بطشه بين فئة وأُخرى من فئات الشعب ، فما وقع على العرب الشيعة وقع مثله على الكرد ، كما العرب السنة ، والمسيح ، والصابئة وغيرهم ، جعل البعث سطوته تسري على الجميع مستخدما أقسى واخسأ وأقذر الأساليب القمعية ما حتم على الحكيم الانتفاض من أجل دفع الضيم عن الشعب والوطن.
أسس الحكيم قوة جهادية معارضة أستوطنت محافظات الوسط والجنوب لتتخذ من الأهوار مقراً لها ، كان الهدف منها ضرب النظام وتحجيم قدراته العسكرية ، بالإضافة إلى التأسيس لجبهة سياسية تعمل على إيصال مظلومية الشعب إلى المجتمع الدولي للضغط على مجلس الأمن لاتخاذ قرارات مساندة للشعب العراقي والمعارضة العراقية وهو ما حصل بالفعل بعد حين.
شارك الحكيم وقواته في انتفاضة عام 1991 التي تبنتها محافظات الوسط والجنوب ، استطاع ان يفرض السيطرة التامة على تسع محافظات كاملة ، لولا تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الضائع والسماح للنظام بالسيطرة على الأجواء ، بعدما كانت محظورة على الطيران الصدامي وذلك لخشية الأمريكان من تغيير ديموغرافية الحكم في العراق والإضرار بالمصالح الأمريكية في الخليج.
أستمر الحكيم في معارضته للبعث رغم فارق الإمكانيات بين الجانبين ، ودناءة الأساليب المتبعة من قبل النظام للضغط على الحكيم ، بإعتقال واعدام العشرات من عائلة آل الحكيم جلهم من العلماء والمفكرين ، حيث مُلئت بهم غياهب السجون وذاقوا أنواع المآسي والويلات ، لم تمنع أساليب البعث المجاهد الحكيم من الإستمرار في طريقه الجهادي حتى إسقاط النظام ، وهو ما تحقق في العام 2003 عند سقوطه على يد القوات الأمريكية.
دخل السيد الحكيم البلاد منتصرا يستقبله الملايين من أبناء شعبه ويحتفوا به ، ليبقى فيهم عدة شهور قبل أن تطاله يد الغدر في تفجيرٍ آثم مع ثلةٍ من المؤمنين في صحن جده أمير المؤمنين عند قيامه صلاة الجمعة في الأول من رجب عام1424 هجرية ليرتحل شهيدا محتسبا إلى ربه ، يحمل في يمينه كتابا مُلئت صفحاته بالعلم والعمل والجهاد في سبيل الله والوطن .