لا يوجد كاذب أكبر من رجل الدين في العالم العربي، بوصفه مصدرا للأخبار الكاذبة المتصاعدة والمستمرة، لأنه يتحدث عن الماضي الذي لم يعشه وينظر إلى المستقبل ونهاية العالم بوصفه عارفا بحقيقة ما سيحدث آنذاك.
في لجّة البحث عن الحقيقة، أٌبتكر مصطلح ما بعد الحقيقة في وسائل الإعلام، حتى صارت الحقائق من الموضات القديمة، أو بتعبير روث ماركوس في صحيفة واشنطن بوست “إن الخطوة التالية التي لا ترحم سوف تكون الحد من كل الأخبار إلى نفس المستوى من عدم الثقة وعدم التصديق، وإن لم يكن هناك ما هو صحيح، فيمكن لكل شيء أن يكون كاذبا”.
الأخبار الزائفة تقلق العالم وتهدد الديمقراطيات الكبرى، وتفسد مدونة القيم المهنية وتجعل وسائل الإعلام تفقد أهميتها بالنسبة إلى الجمهور، ومع أن المتهم الذي يتم تداوله في كل هذا الضجيج عن الحقيقة الغائبة وما بعد الحقيقة، وسائل التواصل الاجتماعي وشركات التكنولوجيا الكبرى، إلا أن ثمة متهما غائبا في تلك الضجة، يجلس على كرسيّه المقدس ويتحدث بما يشاء ناقلا بثقة أحاديث السماء!
رجل الدين والداعية والخطيب مصدر هائل للأخبار الكاذبة، إنه يتحدث كشاهد عيان عن قصص تاريخية خرافية ووعود غيبية، وغالبا ما يحمل سوط الله بيده لجلد الإنسان، فقد منح نفسه تخويلا اجتماعيا ودينيا بأن يكون ناطقا باسم الحق ومدافعا عن وصايا السماء في الأرض، ليعد الناس بالجحيم ويصنف القيم والأخلاق وفق ما شاء عقله أو مصلحته.
لا يوجد كاذب أكبر من رجل الدين في العالم العربي، بوصفه مصدرا للأخبار الكاذبة المتصاعدة والمستمرة، لأنه يتحدث عن الماضي الذي لم يعشه وينظر إلى المستقبل ونهاية العالم بوصفه عارفا بحقيقة ما سيحدث آنذاك، وعلى الجمهور أن يصدقه دون أن ينبس ببنت شفة أو يرجع لعقله لتحليل مثل هذا الكلام، وإلا وقع في المحظور ومس المقدس وصنف ضمن الزنادقة!
رجال الدين شركاء اليوم في كتابة المسودة الأولى من التاريخ أسوة بالصحافيين، إلى درجة أنهم يرفضون أن تمر مدونتهم على المراجعين تحت مسوغ مس المقدس.
يصعدون المنابر مدفوعين بإشاعة الفضيلة والحق بين الناس، لكن غالبية تلك المنابر، في حقيقة الأمر، أضحت مصدرا لنشر الأكاذيب الدينية والسياسية التي تجلب المال والشهرة لرجال الدين.
المنابر الدينية مشروع تجاري مربح يبيع الكلام وقصص الغيب والخرافة، توسعت إلى درجة يكون لها ملايين المتابعين، يكفي أن نعرف عدد المتابعين لحسابات القرضاوي وخامنئي والعريفي والسيستاني وآل الشيخ، على مواقع التواصل لنكتشف هول وضخامة الأكاذيب التي تصل إلى الناس، وحجم تداولها المخيف!
من البساطة بمكان أن ندرك أن رجال الدين هم مصدر للأخبار الكاذبة، لأنهم غالبا ما يتحدثون عن أخبار تاريخية سالفة وكأنها حقائق معيشة، يدافعون عن مجرياتها بوصفهم شهود عيان عليها، بينما التاريخ يحمل من الالتباس والتناقضات ما يجعله أكبر مدونة تتسع للأكاذيب.
وظيفة الداعية والخطيب سرد القصص التاريخية بطريقة مغرية وتقمص دور الشخوص فيها وكأنه كان حاضرا فيما يحدث قبل مئات السنين!
أيضا هؤلاء أنفسهم يتحدثون عن المستقبل وما ينتظر البشرية في قصص إخبارية مذهلة ومخيفة وسعيدة إلى درجة كأن المشهد بعد آلاف السنين قد تجسد أمام أعينهم!
ومن السهولة بمكان إلى درجة أن نسرد مئات الأمثلة لمشاهير هؤلاء الدعاة والمراجع الدينية، فما يتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية من قصص إخبارية مثيرة مصدرها رجال دين، لا يفسر غير الضحالة الآسنة التي وقع فيها العقل البشري عند تصديق هؤلاء.
المفزع في الأمر ليس رجال الدين كمصدر للأخبار الكاذبة وحدهم، بل الجمهور الهائل المتابع لهم والمصدق لما يصدر عنهم من حكايات وتفسيرات مقدسة باتت مرجعا لملايين الناس، هل يكفي أن أذكركم بفكرة رفض كروية الأرض التي يتداولها بعض دعاة أهل السنة بوصفها حقيقة مقدسة لا تعبأ مطلقا بالمنطق العلمي، أو ما يروج له مراجع الشيعة عن قصص وأحداث شارك فيها أئمتهم قبل أن يولدوا أصلا! أو الدور الذي سيلعبونه بعد عودة المهدي المنتظر، وكيف ستجري الأحداث بعد آلاف السنين وكأنها جرت فعلا!
ألا يبدو ذلك أخطر على العقل البشري من أي أخبار كاذبة أخرى؟
كان اللورد نورثكليف مؤسس صحيفة ديلي ميل قبل قرن قد اعتبر أن الأخبار معلومات يريد أحدهم منع الناس من معرفتها، وما تبقى هو مجرد إعلانات. ما يحدث اليوم من تداول مخيف للأخبار الكاذبة، لا يعدو مجرد معلومات أو إعلانات، بل عملية اختراق إعلامي هائل للعقول يجعل من الخرافة حقيقة مقدسة ومن رجل الدين الذي يعد التصنيف البيولوجي للأنواع الحيوانية غير موجود، ويعتبر الأرنب حشرة! أو الداعية الآخر الذي يعلن أن النص التاريخي المقدس قد سبق بآلاف السنين، الطب في اكتشافاته المعاصرة، وكأنهما (رجل الدين والداعية) مصدرا لا غنى عنه في وسائل الإعلام اليوم.
تبدو لي الصورة مفزعة أكثر مما نتخيلها، ومرد ذلك أن هؤلاء الدعاة والمراجع باتوا مؤثرين في اختراق العقول بمساعدة وسائل التواصل الاجتماعي والعدد الكبير من القنوات الفضائية.
أن ينتشر تقرير مصور لداعية مثل محمد العريفي، يشبّه فيه المرأة بالدابة ويجب ضربها كوسيلة شرعية لخضوعها، بين ملايين المستخدمين والمتابعين، أسرع تأثيرا من أي مدونة للقيم وما تقوم به مؤسسات بحثية وجامعية على مدار عقود.
إنه خبر كاذب اقترفه العريفي مستندا إلى قصص تاريخية ودينية ملتبسة، لكنه شاع ووصل إلى الملايين، وليس بمقدورنا أن نعرف كم من الجمهور اتخذ من هذا الخبر مرجعا له لضرب زوجته بوصفها دابة يجب أن تنصاع إليه!
ألم أقل إن هؤلاء هم مصدر ليس للأخبار الكاذبة وحسب، بل والمخيفة منها إلى درجة الصدمة!
نقلا عن العرب