19 ديسمبر، 2024 12:49 ص

سنوات عديدة مرت ومازلت أتذكر الست رجاء : بشرة سمراء ، عينان بنيتان واسعتان ، وجه جميل لا تفارقه الابتسامة.. هيبتها وهي تدخل قاعة الدرس فنصمت جميعا خوفا من كلمات التوبيخ التي لاتخلو من رقة وحنان. لم تكن الست رجاء كريمة في منح الدرجات، ولم تكن تتسامح مع المقصرين، ربما لأنها كانت تضع روحها في الدرس.. حتى اني لمحت لأكثر من مرة وأنا أختلس النظر اليها، دمعة  تتلألأ في عينيها الصافيتين وهي تلقي قصيدة ما في مادة الأدب العربي. ورغم ان درس اللغة العربية يعتبر من الدروس المملة بالنسبة لأغلب الطلاب، الا ان الست رجاء جعلته الساعة المفضلة في كل يوم دراسي، ليس فقط بالنسبة لي ولكن لاغلب الطالبات اللواتي وجدن فيها المعشوقة والمثال التي تبحث عنه الفتيات في سن المراهقة، فكن يلاحقنها كفراشات في الممر المؤدي الى استراحة المدرسات. لم أكن قبلها قد صادفت مدرسة بمثل هذه المواصفات. ربما وضعها القدر في طريقي لترشدني لمعرفة الكثير مما قد تعرف فتاة في الصف الثالث المتوسط. مازلت اتذكر نشوتها وهي تقرأ أول انشاء كتبته بصوت عال أمام الطالبات. تملكتها سعادة غامرة وهي تقول: في داخلك شيئ يجب أن تعرفيه وتدعيه يكبر.  حينها لم أفهم تماما ما تقصد ، لكني بدأت أفهم حينما أحاطتني هالتها سنوات طويلة لأدرك انها علمتني أن أكون.

لم أرها منذ ذلك الحين ، ولا أعلم ما حل بها. لكني كلما تذكرتها شعرت بغصة الحزن التي كانت تعتصرها وهي تجاهد لتكمل الدرس على افضل وجه دون ان تفارقها ابتسامتها الرائعة. حينها لم نكن نفهم سبب حزنها ونظراتها التي تشرد للحظات كأنها تلمح شبحا خلف زجاج النافذة. كانت تهمتها انها امرأة تتحدى كل شئ لتقول كلمتها. كان من الطبيعي ان يحاصرها النظام فهي تحمل افكارا تحررية. وكان من السهل اتهام أي فتاة تلبس الجينز وتقضي جل وقتها بين كتبها رافضة حتى الزواج بأنها شيوعية.

لم تخب ذكرى الست رجاء.. لكنها وجدت صنوها في عملاق آخر.. استاذ الشعر الانكليزي سلمان الواسطي. كان يطير الى قاعة الدرس كالفراشة وهو يرتقي السلم في سنواته الحادية السبعين. لم تثنه الحروب الطائفية ولا أصوات الرصاص والقتل الذي طال زملاءه عن رسالته. كان يقود سيارته بنفسه ويحضر الى الجامعة في السابعة صباحا قبل أن يبدأ الارهابيون نشاطاتهم، كما كان يقول. ورغم ان الواسطي كان لديه مقعد في جامعة بلندن الا انه لم يغادر العراق وكان يردد: حتى إن سقط بيتي على رأسي، يكفيني اني سأموت في بيتي وبين أهلي. قبله كنت أظن اني اعرف كل شئ، وفي السنة التي قضيتها في قاعة درسه، اكتشفت اني للتو بدأت ادرك معنى الحياة والوطن والعلم وأكثر من ذلك.. ادرك من أنا، وماذا أريد.

قبل أيام مر عيد المعلم، اليوم الذي كنا ننتظر لنجمع ماقل لدينا من مال لشراء هدايا لمن نحب من معلماتنا واساتذتنا. وكغيره من المناسبات والأعياد.. بهت عيد المعلم وفقد هيبته بعد ان صار التعليم مهنة كغيرها، وصار بعض الاساتذة موظفين وبعضهم شرطة وآخرين تقاعدوا رغم انهم مازالوا في الخدمة.

يقال انه في بعض بلدان أوربا يحصل العاملون في سلك التعليم على راتب أعلى من راتب الوزير، لذا يتحول كل الاساتذة الى رجاء والواسطي في عيون تلاميذهم.. فتكبر تلك الشعوب وتتقدم. في بلادي يحصل سكرتير المدير العام وحماية المسؤولين على امتيازات وحقوق اكبر من أي معلم او استاذ ، فلا عجب بعد ذلك أن نرى البلد يتقهقر، وتنصهر العقول الغضة في مناهج معلبة، ويأتي بعد ذلك من يلوم الجيل الجديد!.

[email protected]