23 ديسمبر، 2024 8:11 ص

قراءة في ( مرثية دم على قميص قتيل ) للشاعر مكي الربيعي

عودنا الشعر العربي منذ قرون طويلة على كتابة قصائد المراثي ، الامر الذي تمكنت قصائد الرثاء بشتى انواعها من تخليد  شخصيات مختلفة جراء تلك المراثي التي بقيت في ذهن الانسان العربي من المحيط الى الخليج ، ولعل قصائد الخنساء في رثاء اخويها صخر ومعاوية قبل اكثر من اربعة عشر قرناً مازالت خالدة في الاذهان ، ناهيك عن فعل وديمومة الشعر في الرثاء الذي يجسد حالات هي غالباً ما تصلح للكثير من الازمان والاوقات ،  ان ترثي الخنساء صخر فهذا نابع من حرقة قلب اخت لاخيها ، أو ان يرثي شاعر حديث مثل البياتي صديقه الشاعر بلند الحيدري فهذا ايضاً بالامر الطبيعي بالنسبة للشعرية العربية وبمختلف مدارسها واتجاهاتها الشعرية ، وكذلك ينطبق الحال على الشعر الفرنسي والانكليزي والامريكي والروسي ، فلطالما قرأنا الكثير من المراثي التي لا تختلف كثيراً عن مراثينا في الشعرية العربية والتي تبدو للدارس انها تمتاز بطابع الرثاء اكثر من غيرها من المدارس الاوروبية ، ولهذا فالرثاء داخل الجسد الشعري يشكل حلقة مهمة من الهيمنة النوعية للتفرد بأحاسيس ووجدان الانسان المتلقي الذي بالتأكيد قد عاش مأساة فقدان عزيز ما ، الامر الذي سيعيد في ذلك ذكريات وجراحات قديمة وعميقة لم تتمكن سنوات الماضي من نسيانها مهما طال الزمن .

وبما اننا الآن بصدد الكتابة عن ( مرثية دم على قميص قتيل ) للشاعر العراقي المبدع مكي الربيعي الذي ذهب في هذه المرثية الى مساحات بعيدة لم يطأها الشعر العراقي خاصة إلا ما بعد عام 2003 وكذلك الشعرية العربية برمتها لم تتوصل في كتابتها للمراثي كما في هذه القصيدة الطويلة التي استطاع فيها مكي الربيعي ان يقوم برثاء الوطن العراق بتلك الدقة والتفاصيل التي تسحبك الى اماكن القتل والدم والطرق الموحشة بالموت والجدران الكونكريتية التي قُطعّت اجزاء العاصمة بغداد وشلت حركتها في ظل تهافت الاحزاب على السلطة بعد سقوط النظام العراقي الذي حكم بالحديد والنار على مدى عقود اربعة من الزمن الغابر ، ولعل شاعرنا الربيعي هنا في مرثيته هذه استطاع ان يبوح بالقول الحق في تفاصيل غاية بالاهمية والخطورة أزاء تدمير بلاد كاملة ذهبت الى الموت عنوة بأيدي ابنائها وبأيادي خارجية كانت دخيلة على المشهد العراقي الذي لم تفارقه المراثي يوماُ من الايام فهو على طول الطريق كمن يلهث وراء الحزن والموت والفقر  .

 لقد تمكن الشاعر مكي الربيعي من اعادة المشهد التاريخي للقتل العراقي منذ آلاف السنين بطريقة الاسترسال المشوق داخل هذه المرثية الطويلة والتي تعتبر واحدة من اطول مراثي شعرنا العربي الحديث وبخاصة في قصيدة النثر ، كما انه ابقى حبل الرثاء مفتوحاً حتى يومنا هذا فكل ما حدث بالعراق ويحدث الآن ارشف له في هذه القصيدة ، ولعل القاريء  والدارس صاحب النظرة الثاقبة سيجد في هذه القصيدة كل الرثاءات التي يحتاجها او التي كان يتمنى ان يكتبها او يقرأها في الكثير من القضايا ، وما موت الانسان إلا فاجعة خاصة حين يكون الموت القادم عبر الارهاب والتفجيرات العشوائية والكواتم والتصفيات الجسدية التي رافقت تاريخ العراق منذ عصور طويلة كانت وظلت ومازالت مظلمة  .

 ان الثيمة الشعرية التي استند عليها الشاعر الربيعي في مرثيته هذه هي عبارة عن سلسلة طويلة من الآهات والجراحات التي عصفت بالبلاد وجعلت منها أن تكابر وتلهث وراء طرق الموت والتفنن بالقتل ليصبح الانسان لقمة سهلة له ، ولكن من خلال هذه المرثية الطويلة نكتشف ان تاريخ الدم العراقي وعلى مدى القرون الطويلة التي مرت مازال طرياً ومازال يسحب بضحيته الى شوارع الموت المجاني عبر مفرداته التاريخية الجميلة وتضاف لها مفردات عصرية ظلت عالقة داخل الذاكرة العراقية التي لم تستطع ان تغادرها بعد ان شبعت الارض من الجثث البريئة الذاهبة الى الموت بطريقة مؤلمة جراء صراعات طائفية او صراعات سلطوية  وازمات البلاد الطويلة والعريضة على امتداد التاريخ الحديث وحتى القديم  .

ان ترثي روحك فهذا بالامر الممكن ، لكن ان ترثي بلادا بأكملها فهذا ما لا تستوعبه الشعرية العربية ، ولكن كل شيء جائز داخل الشعر العراقي الذي دائماً يأتي لنا بالجديد من المدارس الشعرية وحركات التجديد في الادب العربي خاصة وان الشعر العراقي مازال يتربع على عرش الشعر العربي ومنذ عقود طويلة لِما فيه من مميزات ظلت عصية على الشعرية العربية ومازالت ، في هذه المرثية وللوهلة الاولى يصور لنا الشاعر مكي الربيعي الحياة لا يمكن ان تستمر إلا في الشعر وكذلك فأن الشعر لم يبرز صوره المؤلمة والجميلة ذات الوقت إلا بعد الموت حيث ألم الفراق وصدمة الموت التي تجعل من الانسان وفي احايين كثيرة عرضة لعواقب وخيمة قد تغير حياته برمتها بطريقة سيئة جداً حيث يقول :
لاحياة إلا في الشعر،
لاشعـر إلا بعد موتْ .
رؤوسٌ تـحولـت إلـى مـعـسـكـراتٍ لـجـيلٍ يتبادلُ الرصاص 
والسكاكـين والقـمـصان الموشومة
بالعـقارب السامة .
قـال :
أتعرفُ هذا القادم من بعيدٍ ومن قـميصه
تتساقط الخوذ ؟
قلتُ :
هذا وطني .
تبدأ مرثية مكي الربيعي بالمقطع ادناه :
لك هذا المدى الشاسع ، البحر وما خلفهُ .

من يكون هنا ضمير الغائب ؟ هل هو القتيل ؟ ام الوطن ؟ بالتأكيد المعنى هنا يبتعد عن القتيل الواحد وقد يذهب الشاعر الى مديات ابعد في ذلك ، لكنه ينتقل بعد مقاطع معدودة من ضمير الغائب الى الأنا حيث يقول :
اشطبُ الليل وأعيد تكوينه .
ثم يسدد الشاعر من خلال نصه المفتوح على الآفاق كافة طعنته الى الفراغ ، كما في المقطع ادناه :
هذه طعنتي ، اسددها لقلبك ايها الفراغ .
تمضي مرثية الشاعر مكي الربيعي ضمن السياقات الشعرية التي تتقافز منها الصور الشعرية المطعمة بعذابات الموت ولغة الدم ، لتتمكن من بناء نص متفرد بالألم واللوعة ، نص يمكن لنا تسميته بالمفتوح والمطلق مستحضراً فيه رموزا تاريخية من بلاد وادي الرافدين قبل آلاف السنين وهي تتفاعل مع مفردات ورموز حديثة مع الحفاظ على وحدة القصيدة وانسيابيتها بطريقة فنية ممسوقة تجعل من القاريء والمتلقي  ان يدخل في نفقٍ مظلم اسمه العراق وسيكون من الصعب الخروج من ذلك النفق داخل مرثية هذا الدم المسفوح على مّر التاريخ ومازال .

يقول الشاعر في مقطع آخر :
وطني : ايها الكمان المتوغل في دماء الريح
في روحي خمر كثير من ظلال المكان .

لقد نجح الشاعر نجاحاً باهراً في أن يجعل من وطنه مثل كمان متوغل في دماء الريح ! فهنا حتى الريح التي لا طعم لها ولا رائحة جعل لها دماء ، كدماء الوطن التي تسيل عبر ابنائه الذين يقتلون في كل الاوقات ، ولعل مقابرنا داخل العراق خير شاهد على كبر حجم فجيعتنا وآلامنا التي لا تتوقف ، وفي مقطع آخر يقول الشاعر بمرثيته :
بخطىً ثابتة
يسير القتيل الى قبره من غير صحبٍ يسلونه
في الطريق ،
انه يتسلى بالسكاكين العالقة بثيابه ، وهو يعد الخطى نحو
موتٍ جديد .
ولعل نص مرثية دم على قميص قتيل ، وعلى طول صفحاتها ال 64 لم تهرب من وحدة القصيدة ووحدة موضوعها كما اسلفت ، وفي الوقت نفسه فالصور الشعرية تتدفق مثل شلال ذهبي مملوء بروعة وجمال تلك الصور لكن بالمقابل فالناظر إليه سيرى عن كثب هول الفاجعة ومرارة القتل والدماء خاصة وأن الشاعر تمكن من استنطاق الكثير من المفردات المؤلمة داخل نصه مثل ، القسوة ، والريح واليد والدم والذئب والموت والألم والفجيعة والفراق والبكاء والرمح والسكاكين والظل والجفاف والقهر والنوح على الموتى الى آخره ، وحتى جعل من البحر والفضاء والنخيل  وغيرها من المفردات الجمالية أن تصطف جنباً لجنب مع مفردات الموت .  يقول الشاعر :
في بغداد
صرختُ بالمارة ساعدوني
اريد أن أرفع
ظلي المطعون من الخلف برمحٍ طويل .

ومن ثم يقول في مقطع آخر :
قالت الأم :
قضينا العمر كله نحشو ثقوب الحرية
البنتُ استنشقت الهواء وصاحت :
يمكن لعباءتي
أن تجف البكاء في حناجر النخيل ..
ثم يختتم الشاعر مكي الربيعي مرثيته دم على قميص قتيل بهذه المقاطع المؤلمة التي تعبر تعبيراً صارخاً ومؤلماً عن مدى حجم الخسارات وحجم الفقدان وغزارة الدماء التي سالت ..
مـن جـيـوب الـضـحـايـا يـتـساقط الـرصـاص
بـارداً والأمـنـيـات ،
حـيـثُ يـرسـم الـشـرق شـارة نصـره بـأصـابـعـي الـمـيـتـة .
حـيـث يـمـتـلـئ ثـديـا الأرض بـحـلـيـب دمـي الأبـيـض .
حـيـثُ يـصـبـح الـرأس الـمـقـطـوع نـقـطـة دالـة يـلـتـقـي عـنـدهـا الـقـتـلـة
 أول الـلـيـل .
آهٍ ،
لـمـاذا كـلـمـا أخـتـصـرُ الـمـسـافـة بـيـنـي وبـيـن حـلـمـي ،
تـمـد الـحـرب يـدهـا فـي جـيـبـي وتـسـرقُ الـقـصـيـدة ؟