23 ديسمبر، 2024 5:31 ص

كانت عشرة ليال من رمضان قد انفضت , حتى انى نسيت او تناسيت اي رمضان ذاك !! وكالعادة تناولت افطاري على مضض لأنني اذهب بعده الى عيادتي لأعمل ليلا , فأنا لا احتمل حرارة نهار صيف رمضان المرتفعة . تلك اللحظة المشؤومة التي لم اكن اعرف ما تحمله لي من الم ولوعة وعذاب لاينتهي الى الابد ؟؟ 
حينما رن جرس الهاتف وعلى الطرف الاخر صوتا مهزوزا كسيرا ناحبا بالكاد يخبرني بكلمات متقطعة أن انفجارا في منطقتهم قد اطاح بقامتك الشامخة التي لا تدانيها قامة ؟؟ صارت المسافة من البيت الى المستشفى حيث نقلوك كأنها بين مجرتين رغم انها امتار قليلة , صارت انفاسي بطيئة وخطواتي متثاقلة وصرت لا ار احدا سوى خيال وجهك والاف الذكريات المتزاحمة في خيالي ؟ وصلت ردهة الطوارئ وكنت أأمل نفسي خيرا ان جرحا ما اصابك وانك ستسخر منه وتترك المستشفى فأنت لاتطيق رائحة الادوية والمعقمات , تمعنت في الوجوه على مضض قد تكون هذا او ذاك ولكنني لم اجدك مع المصابين؟ ثم جاء صوت من خلفي كأنه يعلم اني ابحث عنك ؟ : ابحث عنه في الطب العدلي !! بالكاد تمالكت نفسي ولم ارد بكلمة سوى أني توجهت بأتجاه الطب العدلي وتكاد ساقاي لاتحملاني !! وصلت وفي قرارة نفسي لا اريد ان اصدق انك ممكن أن تكون هناك حقا , حالا عرفني المسؤول عن الردهة وصرخ بوجهي : اي ليلة مشؤومة هذه ؟ واستطرد وهو يبكي بحرقة لقد احضروا الي استاذي مقتولا مجندلا بدمائه !! ادركت لوهلة رغم انني فقدت الاحساس بكل شئ من حولي انه كان احد طلابك الذين لم ينسوا حسن صنيعك معه ؟؟ 
فأذا كان تلميذك هذا حاله فكيف يكون حالنا نحن ؟؟ استجمعت قواي الخائرة ونظرت بالاتجاه الذي اشار علي مسؤول الردهة وأذا بك , بجسدك اللامع النظيف مازال ينز دما نقيا من اكثر من مكان فيه ؟ ايقنت حينها انك قد تكون جريحا ولكن ماذا تفعل في الطب العدلي؟ لم اكن اريد الجزم بأنك ميت , أمعقول أنا اقف أمامك دون حراك ودون ان تقابلني كعادتك بابتسامة عريضة ودون ان تطلق ضحكاتك البريئة المدوية ؟ أمعقول تلك القامة الممشوقة هوت للأبد وهي التي طالما علمتنا كيف يكون الرجل انيقا شامخا معتدا تفوح منه اطيب العطور؟ أيعقل ان تكون تلك الروح التي تسكنك قد فارقت جسدك للأبد؟ كل هذه الاسئلة تشظت في رأسى ,ثم ايقنت أنني امام جسدك وقد فارقته روحك , ولكنها لم تفارقني , وتركت الاف الذكريات في وفي كل من عرفك ؟ لملمت شتاتي واستدركت ان عدة شظايا اخترقت جسدك الغض وسكنت داخله وكأنها تهرب مختبئة لكي لايشاهد احدا قباحتها , حتى انني حسدتها لانها سكنتك للابد؟؟ كنت مصدوما لأول مرة بحياتي اعرف معنى الصدمة وحجم الماساة وجلل المصيبة ؟ تبارك الله الف مرة الذي جعل ابتسامتك حتى وانت ميت لاتفارق محياك , حتى الموت لم يسرق منك صفاتك التي لا تليق الا بك؟ تعجب كل من راى جسدك من تلك العطور المنبعثة منك ومن ملابسك فقد كنت لاتقابل احدا الاوانت باحلى هيئة وباغلى العطور. صرت اقلب جسدك ظننا مني انك ستنهض وانك تمزح غير ان الموت لايمزح ؟ 
ثم اطرقت انظر الى كل ذرة من جسمك . اعانقها واقبلها حتى قطرات دمك تعلقت بشفاهي ولم ابه لها وانا اجتر الذكريات التى نسجتها الايام بيننا , وكيف لا وانت علمتنى كيف اكتب , وانت كنت اول شاعر اتاثر به ؟ وكيف لا ؟ وانت اول من اخذني من يدي ليدلني على كل شوارع وازقة واسرار بغداد؟ وكيف لا وانت كنت كالحلم الذى ياتى ليلة الخميس الى بيتنا حاملا معك الهديا والبسمة وافضل ماركات الملابس لكي البسها في المدرسة وتعود نهار الجمعة الى بغداد ؟ طلبت ممن حولي ان يخيط جراحك لانني لا احتمل رؤية خدش في جسدك ومن ثم قاموا بغسل كامل جسدك وانا اتطلع اليك فقد كنت اضعف من ان اخيط جراحك ؟ فقد كنت اعلم انك تحس وتتالم لأي غرزة خيط في جلدك!! تمنيت لو اننى في كابوس واستيقظ منه لكن صرخات من كانوا خارج الردهة جعلتني اعيش الواقع ؟ فقد خرجت من الردهة لاجد الكثير من الناس تريد الدخول وطلب مني الموظف ان اساعده بمنع الناس لألقاء النظرة , وتعجبت اكثر حينما اصر طلابك على البقاء بجانبك حتى صباح اليوم التالي وهم يبكون بحرقة والم؟ تبعثرت افكاري وبالكاد لملمت ما تبقى من رباطة جاش وخرجت تاركا الجسد الذي كان ينثر الفرح والضحك حول كل من عرفه , تبارك الله الف مرة وهو يرسم الابتسامة على محياك حتى وانت تموت , ساخرا من قتلتك السفهاء المأجورين , راضيا بقدرك الذي طالما تمنيته لتحظى بموتة الشهداء ؟ دفناك ثاني يوم وسط وجوم كل وجوه اهل المدينة ؟ غير اننا دفنا معك كل افراحنا ولحظات السعادة التى شاركتنا فيها , ودفنا معك احلامنا وامالنا والاف الذكريات المؤلمة ؟ كم تمنيت لو انك في يوم ظلمتني او اذيتنى او سببت لي الالم , لكنك كعادتك كالنسمة الخفيفة العليلة لا تؤذي احدا ؟ غير ان عزائنا ان عطرك مازال يملأ طرقات المدينة ومازلت مضرب المثل لكل شاب انيق ومازالت البنات يحلمن ان يفزن برجل يشبهك او بعض صفاتك وما زال بعض اصحابك يرفضون ان يدخلوا شارعا كنت تمشيه او يجلسون في مكان كان يجمعك معهم ؟ بل ان بعضهم هجروا البلد للابد ؟ 
عزائي فيك أن اسمك باق يتردد كل لحظة في حين اسماء قتلتك تلاشت واندثرت الى بئس المصير , في حين ارتبط اسمك بالبراءة والنقاء ارتبط اسماء قاتليك بالظلم والهمجية والدناءة . لطالما حلمت بوطن موحد لايعرف الحروب والصراعات ولطالما علمت الاجيال ان لافرق بين سني او شيعي الا بالوطنية الحقة ومازلت اتذكر قولتك المشهورة انا سنى وقلبي شيعي !! ولطالما تمنيت ان تموت ميتة تشبه ميتة الحسين ؟؟ ذلك انك تمنيت الموت مظلوما لا ظالما , سلام على روحك الباقية الخالدة اخي مهدي الذي لن يعود ابدا فلا شئ يؤلم كأسترجاع الذكريات مع شخص لن يعود ابدا !!! رجل مازالت اعيننا تدمع دما لفراقه في حين مازالت صوت ضحكاته تملأ المكان صخبا وعنفوانا