هناك معلومة ليست بجديدة إن ذكرتها، هي ان لغتنا العربية تزخر بكنوز مخبأة في صفحات التاريخ القديم والمعاصر، تضم فنون الأدب والشعر والنثر وسائر الفنون، وللأمثلة حضور في كل العصور التي مرت بها البلدان الناطقة بالعربية ولاسيما وادي الرافدين، فمنذ القدم كانت بغداد قبلة الثقافة على مر العصور، ولم يترك مثقفوها -وكذلك عامة الناس- جانبا في حياتهم اليومية إلا وأرخوه بمثل او بيت شعر او مقولة، او نادرة، وصوروا به حقبة او حالة معينة.
ماذكرني بماضي العراق الثقافي هو المثل القديم: (أحشفا وسوء كيلة؟) وقصته أن هناك شخصا يبيع للناس أردأ أنواع التمور غير الناضج، ومع هذا فهو لايعدل في الكيل بل يخسر الميزان، فأخذت الأعراب هذا الحالة مثلا لتشبيه من لايخلص في البيع مرتين، مرة في النوعية ومرة في الوزن.
ورب سائل يسأل بلهجتنا العراقية مستفسرا عن (ربّاط السالفة) فيما مضى من سطور، أقول: جميعنا ننتظر بلهفة وشوق اجتماعات مجلس نوابنا الممثلين عنا والناطقين باسمنا، والموصلين أصواتنا والمداعين بمطالبنا، وضامني حقوقنا، ومراقبي عمل المؤسسات التنفيذية. فمنا من علق أمله في الحصول على فرصة عمل بنتائج تلك الاجتماعات. ومنا من بات فوه وأفواه عائلته فاغرة، بانتظار لقمة عيش كريم بتوظيفه في مؤسسة من مؤسسات الدولة، كثمرة دراسة سنوات طوال، إذ من غير المعقول أن يعلق شهادته الجامعية الأولية او العليا على حائط غرفته، بعد جهد وعناء ومشقة للحصول عليها.
ومنا من يطمح برؤية بناء وعمران وصرح يقف شامخا في مدينته وقضائه وناحيته، كما يراها في فضائيات (A.D) او (القطرية T.V)
ومنا من يتحسر على رقعة خضراء في شوارع منطقته، كتلك الواحات الغناء التي يشاهدها على قناة (Ajman) او (Kwait T.V)، وقطعا مامن عراقي يشعر بانتمائه وولائه الى بلده، إلا ويتحسر على الفارق الكبير والبون الشاسع بين دول وأمم أتت متأخرة عن حضارة وادي الرافدين، وبين ما وصلت اليه بلاده في جوانبها كافة.
ومنا من يهوى استنشاق نسمات ليل دجلة، وباله خالٍ من هموم نهاره ومشاكله التي جاء بها حاكموه الذين تعاقبوا على مسك زمام أمور بلده، فكان منهم ما لم يكن يتمناه، حيث حققوا له الفوز بالمراتب المتقدمة بين الدول ولكن، بالفساد والتخلف والمخدرات والجريمة. ومنا المتقاعد الذي شد الحزام على بطنه حتى كاد يقطع خصره، على أمل مايخرج من كنف برلمانه من قرار فيما يخص المتقاعدين.
ومنا الطالب الذي يأمل ان يكون صفه كالذي يسمع عنه في المدارس النموذجية الحديثة، بعد ان قضى سنته الدراسية بمدرسة لاتحتوي على (W.C).
إذن، فعطاء رؤوس الحكم للمواطن حشف، ويُخسرون الميزان بأبخس كيل، وفي الحقيقة هو ليس عطاءً أو فضلا أو منّة، بل واجب عليهم إتقانه خير إتقان (غصبن عالخلفوهم) وماذكرته في السطور السابقة غيض من فيض احتياجات العراقيين في محافظاتهم كافة، وكلهم آذان صاغية وعيون جاحظة تترقب بفارغ الصبر ما يأتي به مسؤولوهم وساستهم المتربعين على عروشهم، بعد أن طال حرمانهم من البشرى السارة، والخبر المفرح، بما يستبشرون به خيرا لمستقبل أيامهم التي بات يعلوها الصدأ المتراكم من عهود سابقة، من دون إيلاء أهمية ممن يتناوبون على كرسي الحكم، بتغيير الحال الى الأحسن، حتى بات اليأس من قرار او قانون يشرع لصالح المواطن عنوانا بارزا في مخيلته، إذ أضحى يردد مثلنا القائل: (ياطابخ الفاس ترجه من الحديده مرگ).
[email protected]