23 ديسمبر، 2024 6:15 ص

ربيع الديكتاتوريات

ربيع الديكتاتوريات

انقلاب السيسي في مصر هو النتيجة النهائية لظاهرة الانتفاضات الشعبية في العالم العربي , كما كان مخططاً في جميع تلك الدول , سوى الدول التي تم السماح لأنظمتها بالاستمرار وحجب انتفاضة شعوبها عن الاعلام العالمي مثل البحرين كما عبّر نعوم تشومسكي , ومثل اليمن التي انفلتت اوراقها كأعراض جانبية للمخطط الخارجي فعبّرت إسرائيل مؤخراً عن فقدانها لليمن .

فيما كان المخطط الأصلي في عملية الانتقال من مرحلة الديكتاتوريات الاشتراكية الناشئة في بيئة شعاراتية قيمية الى مرحلة الديكتاتوريات الرأسمالية المستعدة لبيع الوطن بالكامل والتي لا قيم ولا ثوابت إعلامية او نظرية لها يقوم على استغلال شعوب مظلومة فعلياً للثورة ضد أنظمة فاسدة عملياً تم الانتهاء من الحاجة اليها بوجود ضامن وصمام امان عسكري يقوم بالانقلاب على تلك السلطة والظهور بصورة المخلص والمخلّص , ثم ارجاع الجماهير الى بيوتها من خلال تصريحات الضامن العسكري ذي الكاريزما الشعبية بالقضاء على الفاسدين , وتسيير العملية من الالف الى الياء عبر اعلام مملوك كلياً او جزئياً للخارج , ثم القضاء على فكرة الديمقراطية من جذورها باعتقال ومحاكمة او قتل كل الوجوه الشعبية التي ظهرت للعلن وهي تطالب بها , كما امكن السيطرة من قبل على الكثير من الوجوه الشعبية الاسلاموية التي جذبها مغناطيس القاعدة الى السطح فأصبحت تحت مرمى النيران بسذاجة . فيكون الحاكم العسكري الجديد غير شرعي ومحتاج كلياً للدعم الدولي الذي لا يتم منحه مجانا .

لقد نجح هذا المخطط في مصر والسودان نجاحاً مبهرا , رغم انه نسخة طبق الأصل , فكانت النتيجة قطع الطريق الوحيد لانتقال الدعم الإيراني الى فلسطين عن طريق السودان عبر مصر , حيث كانت تتعاون حكومة البشير السودانية , فيما تتم رشوة الضباط المصريين لتسهيل عملية الدعم , فنجح السيسي بعد الانقلاب بهدم واغراق الانفاق بين سيناء وفلسطين , واوقف الجيش السوداني المنقلب وصول المساعدات الإيرانية واعلنوا انهم حلفاء لإسرائيل رسميا . فيما تم تغيير مجمل القوانين الجماهيرية في مصر وتفعيل خصخصة مجمل الصناعة الوطنية وانفاق المال العام والمساعدات على العقارات الحكومية . وفي السودان تم تغيير مجمل المناهج الدراسية في ظل عملية انتقالية عسكرية غير مؤهلة قانونياً ولا منطقياً لمثل هذا التغيير الفكري حتى على مستوى الرؤية الدولية , حيث يحتاج تغيير الأفكار الشاملة الى مؤتمرات وطنية نابعة من ديمقراطية حقيقية , فيما تم على الأرض تسليم ملف التغيير الى شخصية طالما اتهمها الشعب السوداني بالإلحاد , ولم تنفع في إيقاف هذه الظاهرة الغريبة صرخات المنابر او كلمات النخب الثقافية السودانية , فالقرار كان خارجي , والتنفيذ المحلي كان اثبات ولاء للكفيل الأجنبي الذي رفع اسم السودان حينها من قوائم الإرهاب .

ولتمييز مظهر الأنظمة القديمة عن الأنظمة الجديدة رغم عمالة النظامين يمكننا تمثيل ذلك من خلال ظاهرة الغضب الشعبي ضد الرئاسة الفرنسية التي اساءت للإسلام والمسلمين , حيث يخجل الحاكم القديم مؤقتاً ولفترة من الزمن من الظهور كصديق للحكومة الفرنسية او قد يصدر بياناً يشجب ما قالته , اما الحاكم الجديد فيتخذ موقف السيسي الذي زار فرنسا ودعمها في خضم المقاطعة الشعبية الإسلامية لها .

وبين المرحلتين يكون مهماً جداً دور المرحلة الوسيطة التي تحاكي الإرادة الشعبية المائلة الى الإسلام , من خلال أحزاب وكيانات اسلاموية ساذجة ومخترقة ومسيطر على تحركاتها من خلال المنظومة العسكرية او المخابرات الدولية , لإقناع الشعوب العربية بفساد النموذج الإسلامي – المتعاون مع الغرب ذاته – وتهويل فساده عبر الماكنة الإعلامية الضخمة , حيث لا يعد فساده شيئاً امام فساد وديكتاتورية النظامين القديم والجديد المحميين اعلامياً في كل مرحلة . فكان حزبا الدعوة والاخوان في العراق ومصر اصلح جهتين ساذجتين وغير حيتين لهذا النموذج الوسيط .

لكنّ المشروع في العراق لم يجد النجاح الذي لاقاه – بسهولة – في مصر والسودان , لاختلاف طبيعة وهوية الشعوب الفكرية ولاختلاف ظروف كل بلد . فقد تم كشف هوية الضامن العسكري للانقلاب بعد تحريكه لواءين نحو بغداد دون علم القائد العام للقوات المسلحة وزيارته للسفارة الامريكية , فتم نقله الى الميرة . وهنا كان موعد الحراك الشعبي – المسيّر من خلال مواقع التواصل والمواكب بالإعلام القائم على المنح الامريكية والاوربية والاعلام القائم على ما تمت سرقته من أموال العراق على يد البعثيين ونقله الى الأردن والاعلام المملوك لحلفاء داعش بعد حلق لحاهم – قد خرج عن إمكانية التلاعب به , لاسيما في ظل الفساد وانعدام الخدمات الذي يعيشه العراق وخصوصاً المنطقة الجنوبية التي تنطلق منها الثروة والتضحية باتجاه كل العراق ويعود لها الموت والخراب , فتحركت الجماهير كما كان مخططاً في 1\10 , ولأن اكثر الفصائل كانت متأكدة من كون هذه العملية استغلال خارجي لغضب الشعب فتصورت ان الانقلاب قادم لامحالة , ومما زاد الطين بلة ان هناك عناصر تم تحريكها باتجاه مقرات الحشد الشعبي الذي لا يمكن عده كجزء من السلطة , الامر الذي انتج الاستغراب , وزاد من شكوك تلك الفصائل التي رفضت تسليم مقراتها , فحدثت المواجهة التي خلقت الحاجز النفسي بين مؤسسة الحشد وبين الجمهور إعلاميا , وهو المطلوب دوليا . فيما كان المتحركون على الأرض متعاونين مع السفارة الامريكية تم تشخيصهم لاحقا , ومجاميع تابعة لتيار السيد مقتدى الصدر تبغض هذه المؤسسة لأسباب تنافسية حزبية , ومجاميع شبابية مراهقة مسيرة لا تدرك ما تفعله ولا حجم ما يجري . فكانت ردود أفعال فصائل الحشد مخيبة للآمال واقل من مستوى المواجهة الفكرية .

وهنا لم تعد اللعبة مسيطراً عليها وخرجت من يد جميع اللاعبين , وبقي اللاعب الوحيد هو الشعب العراقي , ولو ان المؤسسة الدينية ( العليا ) والنخب العشائرية والاجتماعية تدخلت بحكمة لتسيير التظاهرات لتغيرت المعادلة , لكن ظلت الساحة فوضوية , فتشكلت عصابات للابتزاز , فسنحت الفرصة لدخول جهتين سيغيران المعادلة بدءا بضخ المال , هما السفارة الامريكية والتيار الصدري اللذان تواجدا في ساحات التظاهر عبر وكلائهما بصورة اقرب للرسمية رغم كونهما شريكين علنيين لمجمل الحكومات الفاسدة السابقة . فكان هناك رفض خجول لوجودهما من قبل الجماهير المنتفضة التي تعاني التفكك الفكري والقيادي , لكنّ الطرفين الأمريكي والمقتدائي كانا يعيان خطوط اللعبة انها تقوم على التشكيل العصابي لارهاب أولئك الرافضين . وكان الامريكان يريدون إعادة تصنيع الانقلاب , فيما كان المقتدائيون يريدون العودة الى الاستحواذ على السلطة من الأسفل الى الأعلى .

وهنا كان لابد من اجتماع الامريكان مع التيار لالتقاء المصالح , فالامريكان كانوا يريدون انهاء مؤسسة الحشد الشعبي وايصال رأسمالية بلا قيم الى سدة الحكم , وكان التيار معاد على الدوام لمؤسسة الحشد ويصف معظم فصائلها بالمليشيات الوقحة وتقوم فلسفته على المال فقط .

وهنا كان ظهور الحكيم بينهما بداية لتشكيل الحكومة الجديدة في بغداد , بموافقة شركاء الانقلاب الاصلين من الاكراد الذين دخلوا في مرحلة فكرية جديدة بعد ان وصل الجيش العراقي الى حدود أربيل في حكومة العبادي وتم قطع رواتب الإقليم في حكومة عبد المهدي بعد رفض البارزانيين إعادة ما سرقوه من النفط . وبالتأكيد ان العرب السنة كانوا بين مؤسسات ضعيفة لا تستطيع معارضة احد وبين بقايا البعث او داعش او بؤر عشائرية تريد عيش حياة اميرية مشابهة لما عليه امراء النفط في الخليج . وكان رئيس الوزراء الجديد عميل امريكي بامتياز هو الكاظمي الذي يعمل تحت المواطن الأمريكي كنعان مكية وكان احد موظفي خدمة الارشفة البريطانية لوثائق العراق , وثم تم تسليمه ملف المخابرات في اطار فوضى السياسة في العراق . بعد ان اصبح التيار المقتدائي هو الضامن الجديد للانقلاب والمتعهد بالقضاء على كل الانتفاضة الشعبية التي انتفت الحاجة اليها بعد وصول الكاظمي , والذي فك تجميد القيادات العسكرية المتعاونة مع السفارة الامريكية مثل الساعدي , وبرّأ القيادات العسكرية التي ارتكبت مجازر بحق المنتفضين مثل جليل الشمري الذي قتل أبناء الناصرية ثم رجع الى مقر عمله في القواعد الامريكية , لتتم تبرأته في ظاهرة مشابهة لتبرأة عائلة مبارك ووزرائه في مصر تحت ظل قضاء منخور تديره شخصية جاء بها الامريكان وظلوا قائمين على حمايتها .

ثم بدأت ظاهرة اغتيال النشطاء الثوريين المندفعين عاطفياً على يد وكلاء الامريكان وحلفائهم , لانتفاء الحاجة الى وجود امثالهم من المطالبين بتحقيق اهداف الانتفاضة الحقيقية , والذين لا يملك الامريكان سلطة فكرية او مالية عليهم , لكنهم كانوا يستغلون حماسهم فقط , ليتم القاء التهمة على فصائل مؤسسة الحشد , لضرب عصفورين عراقيين بحجر امريكي واحد , وهذا ما وجده التيار مناسباً لأفكاره ونزعاته النفسية والعملية . فيما ليس لفصائل الحشد اية منافع فعلية من اغتيال هؤلاء الناشطين لان حلفاءها فقدوا السلطة تماما , ومن ثم التظاهر ضد الحكومة الجديدة في مصلحة تلك الفصائل لا ضدها .

وقد قام الامريكان باستخدام هذه الورقة فعلاً من خلال فرض وزارة الخزانة الامريكية العقوبات على رئيس هيئة الحشد الشعبي – الرسمية – فالح الفياض دون تحقيق . فيما لم تتحدث مطلقاً عن المجزرة التي ارتكبها حلفاؤها من السياسيين الاكراد بحق المتظاهرين في الإقليم اذ قتلتهم بدم بارد , بل تم ضخ دفعة جديدة من المساعدات الرسمية الدولية للبيشمركة الكردية بعد جريمة القتل تلك , دون اخذ اذن الحكومة العراقية التي تعجز حتى اليوم عن إيصال مدير أي دائرة اتحادية الى المنافذ الحدودية الوطنية في الإقليم , الامر الذي تسبب بخسارة العراق لعدة مشاريع نقل مربحة , فيما تحاول اظهار قوتها – التي جاءت من اجل اظهارها – في جنوب العراق , حتى وصل الامر الى تعهد خلية الازمة الحكومية بقيادة مستشار الامن الوطني قاسم الاعرجي في مجلس علني لانصار التيار باعتقال جميع خصومهم , وهو الذي تم فعليا , فرفع التيار دعاوى كيدية ضد هؤلاء المعتقلين , حتى لاقوا من صنوف التعذيب ما لاقوا في زنازين الاعتقال , الذي كان بمشاركة عسكرية من عناصر ميليشيا التيار , بل تم تجاوز كل القيم الإنسانية والوطنية وانتهاك حرمة الصروح التعليمية والمدارس في مدينة الناصرية لاعتقال الشباب وسحلهم