18 ديسمبر، 2024 6:01 م

ربابة بشار والأحزاب

ربابة بشار والأحزاب

ربابة جارية الشاعر العباسي الكبير الأعمى بشار بن بردالذي طلبت منه هذه الجارية أن يقول بها شعرا فداعبها بقوله:
ربابة ربة البيت تصب الخل بالزيت
لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت
فطربت لهذا وزادها نشاطا في خدمته. فهي لا تفهم ولا تدرك إلا ما حولها من دجاج ومنزل ومستلزمات خدمة .ولكن تعجب الناس وتعجبت الأمة أن يقول شاعرا كبيرا معروفا بالبلاغة كبشار مثل هذين البيتين وهو القائل:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا    وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وهو أعمى لم يسبق له أن رأى نهارا أوليلا أو كواكبا وأسيافا ولكنه رآها بعقله ومخيلته وإحساسه المرهف.فجاء بهذا الوصف الرائع الذي عجز عنه المبصرون,ببلاغة معجزة.
فقال لهم إسألوا ربابة أيهما الأجمل وهويعلم إن ماتدركه عقول أهل البلاغة لا تدركه ربابة.لأن لكل متلقي مدارك وإحساس.
فكان جواب ربابة إن بيتيها هما الأجمل
واليوم نحن في عصر يخاطب فيه السياسيون الأمة كما خاطب بشار جاريته ربابة. لأنهم مقتنعون أو صورت لهم سذاجتهم إن شعوبنا ليست سوى جاوري عندهم كربابة عند بشار.وبإعتقادهم إن مداركنا لا تتعدى مدارك ربابة. فما أن يسقط طاغية بثورة عارمة بتضحيات ودماء شباب شعبه حتى يهرع الساسة الأنتهازيون, ليركبوا الموجة. ويسرقوا الثورة ويجيروها لمصالحهم الشخصية أو الحزبية أو الطائفية. ضاربين بعرض الحائط تضحيات شعبهم ودماء الشهداء التي أريقت على مذبح الحرية.وليس لديهم إلا شعارات زائفة ,ووعود كاذبة .ولم تجن الشعوب شيئا مما أرادت. فما حصل ليس سوى تبديل طاغية بطغاة , ولص بزمر من اللصوص. وكأنك يا أبا زيد ما غزيت.أو كما يقول المثل العراقي خوجه علي مله علي..ولا حظت برجيلها ولا خذت سيد علي.
لم تتعود شعوبنا على الأجواء الديموقراطية ولم تتقن لعبة السياسة وفنونها كما ينبغي. وهذا متأت من عقود هيمنة ملوك وسلاطين ليسوا فقط في الأنظمة الملكية, بل في أقطار حكمت بإسم جمهوريات ولكنها جمهوريات هي في الملكية أكثر ممارسة للديكتاتورية من أنظمة ملكية.
وعندما حقق القدر لهذه الشعوب  أن تحظّ بشيء من الديموقراطية إلتف على هذه الديموقراطية الخجولة الأنتهازيون. فسخروها لمصالحهم الشخصية أو الطائفية أو العرقية .فظهرت في الساحة أحزاب بالعشرات ومنظمات بالمئات وكل يدعي الوصل بليلى وخدمة الشعب وتحقيق مطالبه.ولكن العكس هو الصحيح.
لو تدارسنا مناهج هذه الأحزاب في العراق, وغيره من أقطارنا التي دخلت أبواب الديموقراطية من أبواب مواربة. فلا نجد إختلافا أو تضارب رؤى في خطط إقتصادية, أو برامج تنموية, أو حلول لمشاكل البطالة وتوفير فرص العمل وأزمة السكن أو النهوض بالواقع الزراعي أو الصناعي المتدهور.
لم نجد أي حزب من هذه الأحزاب والكتل السياسية يطرح مشروعا يغاير ما طرحه حزب آخر في شؤون البلدان المتعثرة في كافة مناحي الحياة.
لم نسمع ولم نرّمن هذه الأحزاب إلا صراخا وهذيانا وإدعاءات كاذبة بالوطنية وحب الوطن والسعي من أجله.وما هيّ إلا جعجعة فارغة بلا طحين.وعند الحقيقة لا نرى هذه الأحزاب إلا مهرولة لتقاسم المراكز والهيمنة على المقدرات دون وجه حق, وإغتنام الفرص والمكاسب لهم ولمريديهم وأعوانهم وأزلامهم.فباتت الأوطان ومواردها حكرا عليهم. وحرم أبناء الشعب منها ولم ينلهم إلا البطالة والعوز والفقر والجهل والمرض.
لقد فوتت هذه الأحزاب فرص عظيمة للسير بالعراق نحو أفق من التقدم أرحب. فلم تستغل ما حصل من تغيير لصالح شعبها. نعم إن قوى أجنبية هيّ التي قامت بالتغيير لأجندات خاصة بها وليس الهدف مصلحة العراقيين ولكن كان بالأمكان أن تكون لنا أيضا أجندتنا الخاصة أيضا, التي تحقق مصالحنا وتفوت الفرصة على تلك الدول. لو أستغل  الساسة الذين جاء بهم الأحتلال الفرصة المتاحة وبإحساس وطني دون تبعية, وإستغلواالظروف وقدرات هذه الدول التي إحتلت البلاد ,لأضطرت القوى المحتلة حينها لتلبية العديد من مطالب العراقيين المشروعة. لتثبت للشعوب إن غايتها مصلحة تلك الشعوب لا شيء آخر.ومع الأسف الشديد لم تكن تلك الأحزاب مؤهلة للأخذ بيد الشعب الى الرقي والأستفادة كما حصل في ألمانيا واليابان وكوريا الشمالية.
راحت هذه الأحزاب والكتل تسعى بشكل محموم وتتزلف للمحتل لتحقيق مكاسب طائفية أو عرقية أو شخصية في الغالب. غير مكترثة بمستقبل الشعب ومصيره.فضيعت فرص كبيرة لو أتيحت لشعب آخر لجنى منها الكثير.
إن هذه الأحزاب ليست لها القدرة حتى على مطالبة المحتل بدفع تعويضات لما لحق بنا من تدمير بنانا التحتية وقدراتنا العسكرية والأقتصادية. لبطلان ذريعة إحتلال العراق.كان بإمكان هذه القوى السياسية والكتل تبني رفع قضايا في المحاكم الدولية طالبين التعويض من دول الأحتلال ومن ساندها وسهل لها إحتلال العراق كالكويت والسعودية.ولكن هيهات هيهات فهذا شأن لا يهمها قدر إهتمامها بإقتناص الغنائم والمناصب والثروة على حساب المحرومين.  
في أكبر دول العالم لا تجد في الساحة السياسية إلا حزبين أو ثلاثة تطرح برامجا تختلف عن بعضها في شؤون الأقتصاد وهو عصب الحياة.فهذا الحزب له رؤيا في معالجة الضرائب ونسبها تختلف عما يراه  الحزب الآخر.وقد تختلف الأحزاب في برامج التنمية.أو التأمين الصحي أو التعليم. فهل لنا أن نسأل هذا العدد الهائل من الأحزاب على ما إختلتم؟
قد تكونوا إختلفتم على أراض عاش فيها الآباء والأجداء, بمحبة وأخاء وسلم أهلي. فسميتوها بدستوركم البائس الذي وضعتم (متنازع عليها). وكأنّ المتاريس والخنادق كان ديدن ناسها. فبدلتم تسميتها الصحيحة الواقعية (المشتركة ) بالمتنازع عليها.
نعم أفلحتم حينما وضعتم في دستوركم مادة تعطي للأقلية حق إلغاء  قرار الأغلبية. في أن جعلتم فيه من حق ثلثي ثلاث محافظات إلغاء وتعطيل  تعديل أي مادة في هذا الدستور الغامض الشائك عديد الأوجه والتفسيرات متناقض المواد, عطل مسيرة البلاد وأنهك العباد.لقد سننتم سنة لم يسنها شعب أو ساسة  قبلكم وهيّ دكتاتورية وتحكم الأقلية بالأكثرية.
أما منظمات المجتمع المدني  فحدث ولا حرج. فقد أعتبرها البعض بابا من أبواب الأرتزاق,هي منظمات وهمية تقبع في بيت مستأجر وقطعة على الباب, ولا تعدو أكثر من متجر لجني الأموال والأستجداء. شأنها شأن هذه الأحزاب المتكالبة على الغنيمة فغالبيتها وهمية تسعى للتكسب غير المشروع بمسميات وأساليب مختلفة وإحتيال.
نحن بحاجة ماسة الى قانون أحزاب يشترط أن يكون للحزب منهاجا سياسيا وإقتصاديا منهاجا فيه خطط تنموية وتصور للنهوض بالواقع العلمي والصحي والثقافي لبلداننا, لا مجرد تجمعات شخصية أو طائفية أو عرقية غالبيتها مرتبطة بجهات خارجية تنفذ أجندات إقليمية أو دولية
نحن بحاجة لقوانين أحزاب تشترط أن تكون قيادات هذه الأحزاب على مستوى عالي من الكفاءة العلمية والثقافية .لا من هب ودب وتعلّم شيئا من فنون الكلام والدجل الرخيص الذي إعتدناه هذه الأيام.
على أن تخضع هذه الأحزاب لأنتخابات حرة لقياداتها تحت إشراف قضائي لا قيادات بالوراثة….
فهل تعلم دولنا وحكوماتنا مصادر تمويل هذه الأحزاب ومدخولاتها.  لقد أنفقت بعض الكتل والأحزاب مئات الملايين من الدولارات بتمويل خارجي  على حملات إنتخابية .ألا يؤثر هذا على نتائج الأنتخابات ويجير إرادة الشعب وقراره للدول التي مولت هذه الكتل والأحزاب.فمن أين جاءت بهذه الأموال؟؟؟؟
هل من الصحيح أن تتمول بعض هذه الأحزاب من السعودية أو إيران أو قطر التي تصدرت بفضائياتها تمرير مشاريع ظاهرها مصلحة الشعوب وباطنها تمرير أجندات غربية مفهومة المقاصد؟
غالبية الأحزاب في الساحة اليوم لها أذرع عسكرية وميليشيات مسلحة. وقد أتهم بعضها بأعمال عنف وخروج عن القانون لا بل إتهمت بالأرهاب.او بعلاقة مباشرة مع عصابات كواتم الصوت.
وبعض الأحزاب في أقطارنا تقاتل من أجل الحفاظ على نظام شمولي دموي يرفض التداول السلمي للسلطة .ومتمسك بها خلاف كل الشرائع والنواميس الحديثة والأنسانية.كما يجري في سوريا واليمن.
في سوريا تمّ تغيير الدستور في خمسة دقائق من أجل أن يعتلي بشار الأسد عرش أبيه. ولكن يا دماء الشعب السوري تراق يوميا والشعب يناضل من أجل تغيير فقرة في الدستور تحتكرفيها سلطة الحزب الحاكم قيادة البلد بالمتسلط.
أما الأحزاب والقوى السرية فهي تقاتل من أجل إستعادة حكم دموي تسلطي أو الإستيلاء غير المشروع على السلطة بقوة السلاح. فهيّ لا تعترف بحق الشعب بتقرير مصيره عن طريق صناديق الإقتراع أو التداول السلمي للسلطة.
إن ثقافة شعوبنا المتوارثة أفرزت مجتمعات هي حاضنة للأحزاب الأسلامية الراديكالية المتطرفة, أو القومية الشوفينية أو العلمانية الديكتاتورية . أما الأحزاب العلمانية الديموقراطية والليبرالية المنادية بالحرية وإقامة دول المجتمع المدني ومؤسساته فهي ضعيفة التواجد, خافتة الصوت.لضعف حاضنتها الجماهيرية لغرق مجتمعاتنا في البؤر الدينية الطائفية أو العرقية.
والمتتبع لنتائج الأنتخابات في تونس والمغرب ومصر وحصول الأحزاب الدينية على غالبية مقاعد مجالس النواب . يجد تفسيرا وتأييدا لما نقول.وسوف لن نفاجأ بما سيحصل في سوريا. فسيحل حزب شمولي ديني محل حزب علماني ديكتاتوري, لا يؤمن بحرية الفرد والمجتمع. وسنبدل شمولية بأخرى.وكما لم يجن ثوار مصر وتونس ومنتفضو المغرب ثمار ثوراتهم. بل خطفتها منهم أحزاب دينية شمولية, لثقافتنا الموروثة وعدم كفاءة الأحزاب والقوى العلمانية الديموقراطية والليبرالية التحررية.
ودور المثقفين هام جدا لمآزرة الليبراليين والعلمانيين الديموقراطيين, بالتوعية والألتحام بالشباب لنقيم ديموقراطية حقة .لا ديموقراطية تزوير إرادة الشعوب وتجيير خياراتها لطوائف وأعراق وإبدال شمولية ديكتاتورية علمانية بشمولية ديكتاتورية إسلاموية.
ومن هنا يحق لنا أن نخاطب هذه الأحزاب وهذه المنظمات. ونقول إن المعادلة اليوم إنقلبت .فمدارككم أنتم لا تتعدى مدارك ربابة الجارية التي لا تفقه من البلاغة إلا ديكها ودجاجها ومستلزمات خدمتها, وهي كمستلزمات خدمتكم لأجندات أجنبية, وإبتعادكم عن أجندة أوطانكم.وما إغفالكم لمصالح شعوبكم إلا بداية خسارتكم .وأما الشعوب فستتجاوز بلاغة بشار وتكون الأبلغ منكم وتنقشع الغمامة عن العيون وستدرك الشعوب ما تريد.وستأخذ بزمام المبادرة وستمسك بالمقود.
ما أحوجنا اليوم لأحزاب تنافس الأحزاب الدينية والعرقية .وهذا يتطلب ثقافة جديدة في المجتمع, لتغيير الخيارات الدينية والعرقية الى الخيارات الوطنية الديموقراطية.للننشئ مجتمع التعايش المتكافئ السلمي المتحضر.