23 ديسمبر، 2024 12:08 م

راهنية الحداثة في الثقافات التقليدية

راهنية الحداثة في الثقافات التقليدية

” ليس للكلام عن الحداثة أي معنى عندما يتعلق الأمر ببلد لا يملك تقاليد وتراث ودون عصور وسطى”

بقي مطلب التحديث من المطالب الأكثر إلحاحا في الثقافة التي تخصنا وذلك لانتمائنا إلى مجتمعات تقليدية وبقاء العالم المتشكل منذ القرون الوسطى جاثما على صدورنا واستمرار النظرة التقليدية للعالم متماسكة والضغط الذي يمارسه التراث على طريقتنا في التفكير والتعيير وغلبة القيم القديمة على سلوكنا وأفعالنا.

من هذا المنطلق يبدو مطلب الحداثة حاجة ملحة ومسألة حيوية وذلك للخروج من العالم القديم والدخول إلى العالم الجديد والتخلص من عباءة التقاليد البالية والعادات السيئة والتعويل على الذات في التشريع.

غير أن الحداثة ليست كلمة تقال ولا مفهوم يمكن استعارته من الأجوار ولا مذهب حري بنا إتباعها وإنما هي تجربة كاملة وطريقة في التعاطي مع العلاقات الاجتماعية ومنطق متكامل ونسق من المعايير المتبعة وواقع جديد متعدد الأبعاد ومتشابك الأطراف وحقل من التفاعلات والعناصر التي تجري تحولات جذري في المجتمع والاقتصاد والثقافة والسياسة وتؤثر بشكل كبير على الإنسان والمدينة والطبيعة والمؤسسات.

يمكن أن نجد عدة نظريات حول الحداثة ويجوز للمؤرخ التطرق إلى قوانين التحديث ولكن معالم الحداثة نفسها لا يقدر أي كان على رصدها وملامسة تأثيراتها الملموسة إلا بالمعايشة الوجدانية والتجريب الفعلي والانخراط في التطبيق وتسريع أنساق التطوير وأساليب التصنيع وامتلاك أدوات إنتاج التحضر والتمدن.

من علامات الحداثة امتلاك المجتمع نمط جديد في الحياة وطريقة غير مألوفة في الوجود الاجتماعي وخلق ثقافة راقية وأفكار عصرية والقيام بتنظيم محكم للعلاقات بين الأفراد واعتماد التقنية في المجتمع ولكن كل هذا قد لا يكفي للإقرار بدخول فعلي للزمن الحديث بالمعنى الحقيقي للكلمة طالما أن التقدم في التاريخ لم يحصل والتطور في الاقتصاد لم يتم وطالما أن العقلنة مازلت محاصرة والأنسنة ظلت محدودة.

جوهر التحديث في معارضته للتقليد وفي إحداثه للتغيير الجذري في الأشكال والمضامين، ومنطق الحداثة يقتضي رسم نقطة اللاّعودة مع الماضي والذهاب في طريق لا محيد عنه ولا يقبل الرجوع على الأعقاب.

لا يمكن مشاهدة الحداثة على العمران البشري إلا بإحداث قطيعة مع الجغرافيا القديمة وتدشين سياق ثقافي واقتحام بنية تاريخية مختلفة والدخول في جدل مثمر مع التقاليد وإجراء حوارات نقدية مع التراث الروحي والقيام بالإصلاح الديني وإعادة قراءة النصوص المقدسة من منظور تاريخي وفك الهالة عنها والمشاركة في الخصومة مع حراس التاريخ التذكاري وافتتاح النزعة الإنسانية وتبني العلمنة وتحريك باب الاختراع.

لن تحوز تجربة التحديث عن عناية كبيرة وتحظى بالاهتمام والتأييد إلا في المجتمعات التي لا تزال تعاني من مشاكل التقليد ولن يمارس التحديث تأثيرا قويا إلا في الدول التي بقيت تسيطر عليها ثقافات تقليدية ولن تخرج للشعوب من التأخر إلا بعزمها على الالتقاء والالتحاق والاحتكاك ومبادرتها بالانتشار في العالم والتفاعل والتصادم مع الذات والتغالب فيما بينها والانقلاب على العادات والتقاليد والانفلات من التبعية.

يجد ر بها أن تتخلص من أسطورة الحداثة واستعارتها لكي تترجم عملية التحديث على أرض الواقع وتدفع الأفراد نحو التقدم وتكرههم على المطالبة بالحريات والحقوق وتفضيل العقل والتجربة على النص والحفظ وتبدل الطقوس وتبث الفوضى في لعبة الرموز المتكلسة ومنظومة القيم المتجمدة وتحدث توترات ايجابية بين الممكن والراهن وبين المتخيل والواقعي وتجعل من التحديث قيمة متعالية ومرجعية حاضرة وشاملة.

لا يتطلب التحديث مساعدة البرجوازية على الصعود ولا تمكين النموذج الرأسمالي من الانتشار ولا في ابتلاع الآلة الحضرية للمدينة للأرياف المجاورة لها ولا في زحف المناطق الصناعية على ما تبقى من المساحات المعدة للزراعة ولا تقلص المساحات الخضراء وتزايد المناطق التجارية والطرقات السريعة.

يرتبط التحديث بالتوقف عن الخضوع الميتافيزيقي للتقنية وعن الإرادة اللاّمشروطة للإنسان للهيمنة على الأرض واستبدال ذلك بالتحكم العملي الإنتاجي في التقنية والتسلح بإرادة الحفاظ وإنماء الحياة وتطويلها.

في الواقع إن الحداثة معطى لا يمكن تكميمه وقيمة لا تقبل القياس وخيار كوني لا يجوز التراجع عنه ومسار ارتبط بالتنظيم الإداري للدولة وشمل أنماط الإنتاج الاقتصادي وهيمن على تقسيم العمل وارتبط بجوانب الحياة الوجدانية وغطى طرق التصرف في الجسد وساد على أوقات التسلية والحياة الخاصة.

لقد تحول التحديث إلى صيرورة واقعية للمجتمعات متجهة من الماضي نحو المستقبل وصارت الحداثة متعددة الأصوات وتفكر في ذاتها بشكل نقدي وفق جدلية تاريخية خاصة بها تحول فيها الانتصار على تناقضاتها والتغلب على أزماتها والتعويض عن أضرارها وخسائرها وإبراز منافعها وإظهار مكاسبها.

لكن لماذا تحاول الحداثة بأن تعثر على أفضليتها في أن تكون دوما معاصرة ومرتبطة بالتقدم ومتجهة المستقبل بالرغم من اختلاطها باليومي وامتثالها لأنماط الاستهلاك المباشر وتحققها في للراهن؟