كأنها بالأمس, حفرة الذكريات التي حفرناها أنا وأخي عمار, في الجهة المقابلة لبيتنا, بالتحديد قبل عشرون عاما, وتحت شجرة التوت, وضعنا بها مجلات الرجل الخارق وقطع شطرنج وكتاب الالغاز, وكتيٌب أخر للكلمات المتقاطعة, واخرى عن كرة تنس ولعبة الدومنيو, وراديو قيثارة صغير احمر اللون, بعد أن هددنا أبي بان يحرق ألعابنا ويعاقبنا, لأننا أضعنا هوية الأحوال الخاصة به, فقررنا أن نحمي اعز ما نملك وهي مجلاتنا وألعابنا,
خرجنا في تلك الليلة بهدوء كي لا يحس بنا أبي, ووضعنا ممتلكاتنا الغالية في حفرة, لنحميها من غضب أبي.
ذهبت لغرفة الذكريات, غرفة الطفولة حيث عشت أنا وأخي عمار سنوات جميلة, ووجدت الراديو الأحمر وهو مغطى بتراب السنين, أتذكر تلك الليلة المشؤومة عندما رفض عمار أن ندفنه, فهو لا ينام الا على صوته, فعدنا وأخرجناه من الحفرة.
أكاد اختنق من صور الأمس التي تلاحقني, صخب الطفولة وضحكات تتردد في أرجاء البيت القديم, كم اشتقت أليك يا أخي عمار.
أدرت الراديو فخرج علي صوت المذيع وهو يقرأ خبرا: (قتل المئات في هجوم للإرهابيين على سوق شعبي في بغداد, وجرح المئات), تكدر حالي من هذه المحطة, فغيرتها, فخرج صوت أحدهم وهو يمدح قائد سياسي : ( لبيك يا سيدي العظيم والمنقذ والخارق للعادة ) , صرخت بالراديو:
– تعسا لك أيها الراديو المتملق.
غيرت المحطة فإذا صوت امرأة وهي تبكي: ( لقد قتلت العصابة زوجي وأطفالي واغتصبوني وسرقوا أموال زوجي).
فصرخت بالراديو:
– تبا لك من جهاز مشؤوم.
فأدرته على محطة جديدة, فخرج صوت رجل يشكي ويبكي: ( اشكي الى الله من ظلم البلد لنا, فمتى يكون لي بيت ملك, ها أنا عمري سبعون سنة, ومهدد بالطرد من بيت الإيجار, بلدنا ليس لنا, يا لهذا العمر البائس), فصرخت عاليا:
– أنت لا تعرف الا محطات المصائب, الا توجد محطات أفضل؟
حاولت أن أجد فيروز, بحثت ثم بحثت حتى وجدتها أخيرا, فرفعت صوت المذياع, وجلست أدخن سيكارة, وصوت فيروز يرتفع (( نسم علينا الهوا)).
عاد شريط الذاكرة مع كلمات أغنية فيروز الى تلك الليلة,عندما عدنا بالراديو, ونحن فرحين نمسح عنه الطين, فإذا بسيارة حديثة مسرعة تطل علينا, أنا ركضت وأخي تسمر في مكانه, فصدمته السيارة بعنف وهربت مسرعة, كنت أنا احتضن الراديو بقوة وابكي, لقد سكت عمار ومات الفرح.