17 نوفمبر، 2024 1:38 م
Search
Close this search box.

رؤية نقدية عن مفهوم العلمانية في الظروف المعاصرة

رؤية نقدية عن مفهوم العلمانية في الظروف المعاصرة

بلاشك أن العلمانية كمذهب سياسي، قضية شغلت الفكر السياسي المعاصر وأثارت جدلا كبيرا بين الباحثين والمفكرين، حيث يرى بعض المفكرون أن العلمانية في حالة تراجع كبير في الوقت الراهن وتحديدا في العالم العربي. لقد تعرضت العلمانية ومازالت للعديد من الاتهامات على مستوى الفكر الإسلامي، هذه الاتهامات نابعة من العلاقة المعقدة أو الصراع التقليدي بين الدين والسياسة، الأمر من وجهة نظر التيار الإسلامي المتشدد أن العلمانية تشكل تحديات جسيمة أمام المنطقة العربية والدول الإسلامية، سيما أن هذه التحديات والمخاطر كما تراها الإسلاموية تتفاوت بين مخاطر سياسية وعقائدية وأخرى ثقافية واقتصادية، فهي ترتبط بمحاولات الغرب لعلمنة العالم بما يتناسب ومصالحها وغاياتها بحسب مفهوم الراديكالية الإسلامية. في السياق ذاته هناك اتجاه سياسي اجتماعي فكري في الغرب رفض هو الآخر العلمانية والتحديث، هذا الاتجاه تحديدا مقطوع من سياقات الراديكالية المسيحية المتطرفة في الغرب، أو ربما قد يكون بسبب أخفاق النموذج الغربي في تقديم نموذج شامل ومتكامل للعلمانية. بالمقابل هناك اتجاه يرى أن أسهم العلمانية تشهد ارتفاع في حياة البشر بالرغم من انحسار أو انهيار المذاهب السياسية الأخرى كالشيوعية والاشتراكية.
وتأسيسا لما تقدم، أصبح من الضروري فهم العلمانية والوقوف على ما تعرضت له من اتهامات وتشويه، وإخراج مفهومها من سياقه الصحيح. من هذا المنطلق يرى كاتب المقال أن مسألة تفكيك الخطاب العلماني ومآلاته وفهم العلمانية ومضامينها لابد من الرجوع إلى كتابات الفيلسوف الألماني (فريدرك نيتشه)، حيث كانت لفلسفة نيتشه وكتاباته تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث وصولا إلى أفكار وطروحات الفكر السياسي المعاصر. عليه فإنه لا يمكن فهم إشكالات الفلسفة الغربية المعاصرة إلا بفهم محورية فلسفة نيتشة، تلك الفلسفة التي تحققت فيها اللحظة العلمانية تماما.
الجدير بالذكر أن دراستنا للعلمانية لا تهدف إلى تحليل الآراء المطروحة بصدد العلمانية كمذهب سياسي فحسب، وأنما وضع هذا المذهب في سياقه التاريخي والسعي لمعرفة ما تمثله العلمانية للواقع الاجتماعي والاقتصادي والديني والفكري وكيفية توظيف مفهومها عبر الواقع المعاصر، إذا ما اخذنا بنظر الاعتبار كم من الجرائم البشعة وعمليات الإبادة الجماعية ارتكبت عبر التاريخ الحديث والمعاصر بحق المدنيين في العالم بذريعة العلمانية والتحديث، على سبيل المثال لا الحصر، وقد اتهمت بعض آراء الفكر السياسي المعاصر العلمانية بما يلي:
1. العلمانية قتلت 161 مليون من المدنيين في العالم.
2. ان المجازر التي ارتكبتها النازية بحق الشعوب كانت بسبب النزعة العلمانية لدى هتلر.
3. كما اتهم البعض الآخر من المفكرين الأوربيين العلمانية بأنها كانت السبب فيما ارتكبه (بول بوت) رئيس وزراء كمبوديا عام 1976 من مجازر بحق المدنيين عندما أراد بوت تطبيق يوتيبيا ماركسية فلاحية في كمبوديا.
4. في الذكرى المائتان للثورة الفرنسية خرج مؤلف فرنسي مرموق وهو (رينالد سيشر) بكتاب عنوانه (إبادة جماعية فرنسية) اتهم فيه الثورة الفرنسية بعد سقوط الملك لويس السادس عشر وتحديدا أثناء الجمهورية اليعقوبية بممارسة الإرهاب والإبادة الجماعية، إذ تأثر رجال الثورة اليعقوبية كل من (روسبيير وسان جاست) في أفعالهم بتيارات فكرية عقائديّة كانت سائدة في فرنسا حينذاك، كما هو واضح في الأيديولوجية اليعقوبية، بعد أن قام رجال الثورة اليعقوبية بإبادة أكثر من نصف مليون فرنسي في قرية أسمها (فندييه) بسبب العصيان المسلح ضد الثورة. (قراءة الكاتب والمفكر المصري: ممدوح الشيخ).
وفي الحقيقة أن العلمانية براء من كل هذه الاتهامات وغيرها. بيد أن هذا الالتباس المشار إليه أدى إلى أن تتجه كثير من الكتابات السياسية الصادرة من الغرب والشرق إلى الخلط بين ما ارتكب من تلك الجرائم وعمليات الإبادة بحق المدنيين في العالم وبين العلمانية.
من هنا يأتي مقالنا هذا ليضيف عمقا معرفيا لمفهوم العلمانية وتطورها في الفكر السياسي بمزيد من البحث والدخول في الجدل الذي تديره كتابات وآراء بعض الأفكار الإسلامية والغربية، حيث أن هذا الجدل الكبير في دراسة ظاهرة العلمانية ينطلق من التصور الاختزالي في قضية (فصل الدين عن الدولة). وبلا شك أن التنظير والفلسفة تعكس الظروف والأوضاع التي عاشها أصحاب الرأي والفكر والحياة السياسية التي عاصروها، ونحن بدورنا سنحاول أن نكون على درجة كبيرة من الحيادية في هذا الجدل.
إن توضيح حقيقة مفهوم العلمانية والرد على آراء عدد من المفكرين الإسلاميين من منظري (الصحوة الإسلامية) وبعض الكتابات الغربية التي تناولت مفهوم العلمانية بشكل بعيد جدا عن محتواها الحقيقي.
من هذا المنطلق يطرح الكاتب عدة تساؤلات أهمها؟
1. إيضاح مفهوم العلمانية وكيف نشأ وتطور وكيف انتقل إلي عالمنا العربي، وتناولوا أسباب ظهور العلمانية، ولماذا يرى البعض أن العلمانية لا تتماشي مع الحضارة العربية.
2.توضيح حقيقة مهمة مفادها: هل قامت العلمانية على الفصل القطعي بين الدين والحياة العامة للناس: لادين في السياسة ولا سياسة في الدين؟
3. فرز وتصنيف الاتجاه الرافض للعلمانية أو تحول الدول العربية الإسلامية إلى دول علمانية، حيث كانوا يصورون العلمانية على إنها الخطر الأكبر علي الإسلام والعالم الإسلامي وكأن العلمانية دعوة للتبشير، لاسيما أن جميع الدراسات الرافضة للتيار العلماني ترى أن العلمانية كفكر وكتيار جاء نتيجة المشكلات التي حدثت في الغرب وكنتيجة لممارسات الكنيسة في الدول الأوروبية، بالتالي فهي لا تتماشي مع مشكلات المجتمع الإسلامي أو تتماشي مع قيمه وتراثه بحسب رأيهم.
إن الإشكالية في مفهوم العلمانية كما جاء بها الدكتور (عبد الوهاب المسيري) تكمن في وجود علمانيتان لا علمانية واحدة كما يتصور الأغلبية، الأولى (العلمانية الجزئية) والتي تعني فصل الدين عن الدولة. والثانية (العلمانية الشاملة) ولا تعني فصل الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصل كل القيم الأخلاقية والإنسانية والدينية عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص. وبما أن المفهوم الأول للعلمانية (العلمانية الجزئية) باعتبارها فصل الدين عن الدولة هو أكثر المفاهيم شيوعا للعلمانية في العالم، سواء في الغرب أو الشرق، وهي فصل المؤسسات الدينية (الكنيسة) عن المؤسسات السياسية (الدولة)، إذن هي تخص عمليات العلمنة في المجال السياسي. (كتاب الدكتور عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة: المجلد الأول: ص81ص83).
من هنا يجب فهم العلمانية بصورة علمية منهجية وتصحيح بعض الظواهر الشائعة في المجتمع، تلك الظواهر التي تتهم العلمانية بالكفر والإلحاد، سيما أن هذه الاتهامات للعلمانية تسعى إلى تحقيق غايات وأفكار أيديولوجية لإثارة نوعاً من الخلط بين المفاهيم، وبالتالي كان لا بد من التمييز بين هذه المفاهيم والاتهامات.
وبعد الاطلاع على بعض الدراسات والمراجع في موضوع العلمانية، يرى كاتب المقال أنها تعاني من مشكلة عدم الحياديـة، فقد كانت إما بمثابة مرافعات دفاعية عن العلمانية وتجميـل وتبريـر وتقديس لرموزها، وإما تهجم وتعرية للعلمانية ولكل ورموزها ومواقفها. وعليه سنحاول أن نضع إضافة جديدة في موضوع العلمانية وتفكيك هذا الجدل في الظروف المعاصرة، في الوقت نفسه الالتزام بأكبر قدر من الحيادية.
ومن أهم الدراسات التي تناولت موضوع العلمانية:
1. الفيلسوف فريدريك نيتشة: تناول الفيلسوف فريدرك نيتشة موضوع العلمانية ومن أهم دراستين بالرصد والتحليل هما:
أولا: نقيض المسيحية.
ثانيا: ما وراء المستقبل.
حيث انتقد نيتشة من خلال هاتين الدراستين المسيحية لأنها خاضت حروبا بلا هوادة ضد البشر، وأن المسيحية قد انحازت للفاشلين والوضيعين، وادخلت الفساد في عقول الناس على حد تعبيره، وكان انتقاده هذا تحديدا لرجل الدين المسيحي (القس) الذي يراه الناس أنه يملك بيده كل المفاهيم الكبرى، لكن من وجهة نظر نيتشة أن القس يستغل هذه المفاهيم ويسخرها باحتقار لمحاربة العقل والعلم والرفاه، بالتالي فإن القس ساعد على تسميم الحياة وبحسب رأي نيتشة.
2. دراسة الدكتور عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة كما ذكرنا آنفا، وهي دراسة تحليلية جاءت لنقد العلمانية وتشويه صورتها.
3. دراسة عادل ظاهر: الأسس الفلسفية للعلمانية، وهي دراسة تحليلية لتصحيح الفهم السائد للعلمانية في أوساطنا المثقفة وغير المثقفة، المؤمنين بالعلمانية والمناهضين لها، واعتبر الكاتب أن فهم العلمانية هو فهم سطحي جدا يقوم على تعريف العلمانية بالأغراض التي استهدفت تحقيقها الحركات العلمانية في الغرب.
4. دراسة محمد علي البار: العلمانية جذورها وأصولها، وقد جاءت هذه الدراسة لتؤكد أن العلمانية إنما ظهرت في أوروبا نتيجة لتعنت الكنيسة، وإن جوهر الإسلام علماني لأنه ضد الكهنوت.
5. دراسة الدكتور محمد عمارة: العلمانية بين الغرب والإسلام، جاءت دراسة الدكتور عمارة عن العلمانية الأوروبية، فهي بحسب رأيه غير التيار المادي الملحد، تيارا مؤمنا بالله، استطاع فلاسفته من أمثال (هوبز، جون لوك، روسو) التوفيق بين الإيمان بوجود الله خالق العالم وبين العلمانية التي ترى العالم مكتفيا بذاته.
تعقيب كاتب المقال على الدراسات السابقة وماهي الإضافة العلمية التي سيقدمها الكاتب:
سنحاول في موضوع (العلمانية) إلى التوافق مع الدراسات السابقة المذكورة آنفا، حيث يهدف المقال إلى دراسة وتحليل مفهوم العلمانية بشكل واسع، وخاصة مع التقدم المتسارع الخطى للمنظمات الإسلامية في عدد من البلدان العربية والإقبال الشعبي المتصاعد لطرح قضية الدين في شؤون الحكم والمجتمع، في السياق ذاته سيحاول الكاتب في المقالات القادمة إثبات عدم صحة ما يتداول عن مفهوم المذهب العلماني على أنه ينطوي على جوهر إلحادي، وتحديدا في المرحلة الأولى من تطبيق العلمانية في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، تلك المرحلة التي اقتصرت على فصل الدين عن الحكم والشؤون السياسية.

أحدث المقالات