18 ديسمبر، 2024 9:20 م

رؤية خاصة لظاهرة عامة

رؤية خاصة لظاهرة عامة

اسطر هنا عدة ملاحظات تشكل رؤيتي للواقع من موقعي خارج الحدود والزم نفسي بها.
1- إن جميع أحزاب السلطة، بل كل اطراف العملية السياسية في أي شبر من العراق، بلا استثناء ومن الألف للياء، هم بين حالين، إما قوى فاسدة مفسدة، أو إنها قوى فاشلة في الإدارة وعاجزة عن تقديم أي أمر ذي جدوى.

2- إن العملية السياسية في العراق قد وصلت الى طريق مسدود، واعلن الشعب رأيه صريحا فيها عبر مقاطعته الانتخابات الأخيرة بشكل لا لبس فيه، واكد على ذلك الموقف بازدرائه ولا مبالاته بانتخابات مجالس المحافظات التي حان موعدها بدون أن يبدي أي اهتمام بها، بل بوجود المجالس نفسها.

3- إن هذه الطبقة السياسية بقضها وقضيضها غير قادرة بشكل واضح لا لبس فيه على تجديد نفسها، ولا على إنتاج أي حل حقيقي لمشاكل البلد، وعلى ذلك التغيير المطلوب يجب أن يكون جذريا شاملا لكل أركان النظام، ما عدا *الصيغة الديمقراطية في إدارة الحكم* التي يلزم التمسك بها.

4- التغيير يلزم أن يكون برؤية واضحة وبرنامج كامل مسبقا وليس قفزة في المجهول. التغيير لأجل التغيير عملية عشوائية، لان النتيجة سوف تكون قطعا أسوأ بكثير مما نعيشه الآن، فالنظام مهما كان قبيحا فالفوضى اكثر قبحا منه. وقد جربنا ذلك من قبل، وما زلنا نرى ذلك في اكثر من بلد عربي ما حصل عقب التغيير غير المبرمج. ليكن التغيير للأفضل وليس للتغيير وحسب.

5- الأهداف الحقيقية من المشروع الأمريكي لغزو العراق يمكن تلخيصها بتحديد محورين أساسيين.

المحور الأول: تدمير كل الدول العربية الكبيرة التي تملك موارد بشرية وطبيعية، ويمكن لها وفقا لهذا الحجم من القدرات الكامنة أن تشكل خطرا مستقبلا على إسرائيل. والعراق ليس المستهدف الوحيد في هذا المخطط بل جزء منه وهذا ما جرى بالفعل تحقيقه في ليبيا وسوريا ومصر وسوف يفعل الشيء ذاته مع السعودية.

المحور الثاني: جعل العراق ساحة لحرب استنزاف في الصراع مع خصوم السياسية الأمريكية – الإسرائيلية في المنطقة. وأول هؤلاء الخصوم بالتأكيد ايران، لأنها رفضت ولا تزال ترفض دور التابع للقوى العظمى، وتصر على أن تكون دولة مستقلة بل وعظمى على مستوى الإقليم وتقرر الأمن وسياسة تقاسم المصالح فيه مع القوى الكبرى المهتمة به، إلا إنها ترفض الاعتراف بإسرائيل بشكل مطلق كجزء من الإقليم. هذا الموقف الإيراني الصلب الثابت تجاه إسرائيل يتعارض مع سياسة أمريكا ويغلق التفاهم معها، لان إسرائيل هي ركن أساس، بل هي جوهر وروح السياسة الأمريكية في المنطقة. ايران لا ترفض التعامل مع أمريكا بشكل مطلق، بل إنها مستعدة للتفاهم معها حول دورها في المنطقة، لكن ما يمنع تحقيق ذلك اللقاء والتفاهم هو العقدة الإسرائيلية، وهي عقدة غير قابلة للحل وفق المعطيات والظروف الحالية، ولا يوجد أي أفق لحلها.

6- إن اغلب ما يجري الآن في أي منطقة من الإقليم -الشرق الأوسط- هو صراع بين محورين، المحور الأول تقوده إسرائيل وتتبعها في ذلك دول خليجية معروفة وأحزاب وجهات ومنظمات مرتبطة بهذا المحور بشكل مباشر وغير مباشر والمحور الثاني تقوده ايران وتتحالف معها دول وتتبعها حركات ومنظمات بعضها ذات طابع سياسي وأخرى بطابع مسلح معلومة للكل. هذا الصراع لا ينحصر في النزاعات العسكرية، بل يمتد لكل الميادين ومنها ظاهرة الاحتجاجات في هذا البلد وذاك إن كان في البحرين والسعودية أو في لبنان والعراق، وهو امر ليس بخاف على احد. وتعكس ذلك وسائل الإعلام العربية التي صار استقطابها السياسي أوضح من أن يستدل عليه مستدل.

7- المشروع الوطني في العراق ولشديد الأسف غائب بصورة كلية، وكل الحركات سواء من كان منها مشاركا في العملية السياسية بشكل وآخر أو من كان خارجها ممن يعمل بالأطر الاحتجاجية أو المعارض، لا تخلو من حالين إما فوضوية في حركتها، والفوضى لا تنتج إلا مزيدا من العبث والفوضى، أو إنها منظمة لكن تحركاتها الجوهرية مرتبطة بأجندات خارجية ومسيطر عليها بشكل تام من تلك الأجندات المرتبطة بأحد المحورين المذكورين.

8- عراقيو الخارج من النخب الناشطة في الشأن العام أمامهم فرصة مهمة لتقديم منفعة جيدة ومساهمة فعالة لوطنهم عبر الدخول للوطن، وتأسيس تيار وطني مستقل غير منخرط في صراع المحاور والمساهمة الحقيقية في التغيير، وتقديم رؤية ناجعة للتغيير وليست مجرد أماني وردود أفعال كما هو سائد الآن، ولا أن يكونوا مجرد امتدادات للصراع بين المحورين بشكل وأخر، بوعي أو بدونه، مع التأكيد بشدة انه ليس كل منخرط في هذا الصراع بالضرورة أن يكون مرتبطا بأجندة خارجية بوعيه وإرادته، بل تسوقه في اغلب الأحيان دوافع نفسية وعدم الوعي للعمل مجانا لتلك الأجندات. عراقيو الخارج بإمكانهم الانضمام للمحتجين أو للسلطة كل بحسب قناعته، ولا يعني وجودهم في أي طرف خللا في الإخلاص أو الوطنية أو الوعي السياسي، بل ما يسجل عليه من نقص حقيقي هو العمل بدون رؤية والافتقار الى برنامج للتغيير. الطريق مفتوح للذهاب في كلا الاتجاهين، ولا توجد موانع كبيرة أمامه، ولا يوجد أي مبرر للامتناع عن المشاركة لمن يدعي انه يملك برنامجا حقيقيا ورؤية للتغيير.

9- أن تكون هناك فرصة للتوجه الى داخل الوطن لا يلزم منها انه على كل عراقيي الخارج من الناشطين أن يتوجهوا فورا للداخل، ولكن ما يلزم منها حتما هو المشاركة بإيجاد تسوية وتهدئة في الصراع بين السلطة ومعارضتها اذا اختاروا السلامة أو فضلوا عدم الانخراط في العمل بشكل مباشر. أما إن اختاروا الخوض في هذا الصراع سواء كانوا مع الحكم أو الاحتجاج، فعليهم أن يعلموا إن دمائهم وسلامة عوائلهم ليست افضل من دماء وسلامة غيرهم ممن في الداخل.

10-أما الحديث عن دعم وتضامن ودعاية في الخارج فهو كذبة كبيرة ولا قيمة لها ولا اثر مطلقا في الواقع. إنها صيحات لا ترضي إلا مشاعر مستقطبة أو دوافع مصلحية ذاتية. الدعم يكون في ساحة الصراع الحقيقي هناك في الداخل، والحسم يكون أيضا هناك في الداخل وليس في أي مكان أخر، ألا اذا كان الهدف والغرض هو إعادة التدخلات الدولية في الملف العراقي. هذه التدخلات الدولية والإقليمية هي التي جرت هذه الويلات والأيام والتجارب أثبتت ذلك بشكل حاسم وقاطع في العراق وغيره.

11- فيما قبل أحداث 2003 كانت المعارضة في الخارج تحرض معارضة الداخل لتعطي الدماء وتتحمل العذابات، وجاءت بعد تغيير نظام الحكم معارضة الخارج للحكم واستبعدت جل عناصر معارضة الداخل من المعادلة تماما، ولم تترك لها إلّا هامشا ضيقا لا قيمة له وأحدثت بتصرفها هذا فجوة كبيرة مع عموم الشعب بين وخلفت أزمة ثقة كبيرة عنوانها العام أصحاب الجنسيتين القادمين من وراء الحدود. معارضة الخارج الإعلامية التي قامت بدور التحريض وليس من احد غيرها، هي التي أوصلت البلد الى ما وصل له الآن. معارضة اليوم لا تختلف عن معارضة الأمس في أداء نفس الدور ولا يتوقع أن تكون النتائج غير تلك التي حصلت.
وقد قيل “أن تخطئ مرة، لا يعني، أنك إنسان سيئ، وأن تخطيء نفس الخطأ مرتين، يعني أنك إنسان لا يريد أن يتعلم”. العيب كل العيب مواصلة الاستمرار في الخطأ، لا بل أنها حماقة كبرى. ولنتذكر حقيقة ثبتها التاريخ، وهي انه لم يحمل لنا أي قطار جاء من الخارج حاكما جيدا الى العراق منذ تأسيسه الى يومنا هذا، وتاريخنا قريب يمكن ملاحقة أحداثه وعمر دولتنا قصير لم يبلغ بعد حتى المائة عام فيمكن تفحص تفاصيله بيسر وسهولة لمن أراد الاستزادة لخبراته. بعد كل هذه الملاحظات وحرصا على أداء افضل الأدوار انصح نفسي وليس غيري بالصمت والسكوت في الفتن التزاما بالقول المشهور
“كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب”.