ازدواجية الشخصية العراقية ، موضوع يستثير كثيراً من الاهتمام ويبعث على كثير من المناقشات والاراء المتباينة. ويقتضي الامر هنا ، ان اذكر ان كتب علي الوردي (شخصية الفرد العراقي ودراسة في طبيعة المجتمع العراقي) قد استحوذت على اهتمام عدد كبير من المثقفين والمهتمين بموضوعهما ، حتى ان اطروحاتها انعكست على كتابات العديد منهم في الصحف سواء آنذاك او لاحقا، وعلى مناقشاتهم في مجالسهم الخاصة . وذلك لم يكن بسبب كون اراء الوردي كانت جديدة او لم يكن ذوي الاهتمام يعرفوها حتى ذلك الوقت وانما لانها جاءت من استاذ جامعي يحمل درجة علمية في علم الاجتماع من جامعة رصينة ، وكان معروفاً بكتاباته في بعض الصحف والمجلات ، والا فأن ما عرضه من افكار كان اغلب المثقفين يتداولونه على مختلف المستويات الاجتماعية والثقافية من خلال ادانة السلوكيات السلبية لدى بعض الاشخاص وفي اوساط مختلفة وبخاصة عبر العلاقات بين الحكام والمحكومين .
لقد كانت السلوكيات السلبية ان لم نقل المنحرفة ، مشخصة ومدانة ، ولا ريب . ولكن ما كان اخطر من ذلك هو ترويج انماط من المفاهيم والافكار التي تنتقص من قيمة الفرد العراقي ، ومن ثم تسعى الى خلق شعور مرضي بالذنب لديه ، يشله عن الحركة ، وعن القيام بالمهمات الكبرى التي تتطلبها عمليات التحول التاريخي . ولم تكن الافكار المذكورة تعرض لوقع التأثيرات الاجتماعية ، والعهود السلبية التي مرت على عراقنا وتركت اثارها الوخيمة العواقب في سلوك الفرد العراقي النفسي والاجتماعي .. فهو شخصية متناقضة ، مفككة ، قلقة في مواقفها ، متذبذبة في قيمها وسلوكياتها .
الدكتور علي الوردي ، كان يتحرك على جبهات مختلفة .. فهو يحارب الخرافات ، والتقاليد البالية ، والشعوذة وغيرها .. وبالمقابل يتحرك نحو مخاطبة المثقفين ويعرض انهم لم يتوصلوا بعد الى تكوين التراص النفسي والفكري والاجتماعي والسياسي في تكوين شخصيتهم .. ومن ثم فأن مواقفهم وسلوكياتهم لا تتسم بالاصالة حضارياً .
وفي هذا الشأن اختلط الامر على الوردي ، والا فمن هو العراقي الذي يقصده ؟ ومن المعروف، ان عراق الخمسينيات كان ينطوي على بيئات اجتماعية متباينة :- حضرية وريفية وبدوية ، واديان ولغات مختلفة ، وطوائف وعشائر وقوميات واقليات واغلبيات .. وفقاً لمعايير متعددة ، ومن ثم فما كان يسمى (المجتمع العراقي) هو محاولة لاحتواء عناصر عديدة ومختلفة ، وفي كثير من الاحيان متنافرة او غير متجانسة .
لقد كانت هناك ومازالت مفاهيم عديدة في علم الاجتماع على النطاق الدولي مطروحة على المعنيين بدراسة المجتمع ان يطبقوها على واقعنا العراقي لغرض دراسة جوانب الحياة العامة فيه ، دراسة علمية رصينة لتواصل السير نحو معالجة السلبيات .. وتحقيق التقدم الحضاري . ومن ذلك مفهوم ( الشخصية ) المنازع عليه من قبل الباحثين في علم الاجتماع ، وفي علم النفس الفردي ، وفي علم النفس الاجتماعي . فقد ذكر اغلب المعنيين ، اكثر من ( كذا ) تعريفاً للشخصية كان شائعا اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، ثم عرض الوردي هو ذاته تعريفه على النحو التالي :- الشخصية هي التنظيم الدينامي للمنظومات النفسية لدى الفرد التي تحكم تكيفه مع وسطه الاجتماعي ، ولم يحسم بعض علماء الاجتماع والنفس الأمر بهذا التعريف وانما زادوا في تعقيد المشكلة . ولا ريب في ان هؤلاء شأن كثير من الباحثين في الجامعات الرصينة بنى تعريفه المذكور على دراسات نفسية تطبيقية فضلاً عن اراء ونظريات الباحثين الآخرين التي تنطوي عليها اعمالهم . وهذا ما لم يتوفر عندنا في العراق حتى الوقت الحاضر .
وعلى صعيد آخر ، عندما نعمم مفهوم ( الشخصية العراقية ) على كل الافراد الذين يعيشون على ارض العراق او على بعضهم الذي يمتلكون سمات او عناصر مشتركة تكوّن بمجملها خصائص الشخصية العراقية التي تميزها عن غيرها من الشخصيات لدى الشعوب والامم ، علينا ان نعين مسبقا ما هو معروف في علم الاجتماع بمفهوم ( شخصية الاساس ) ومن ثم تطبيقه على الواقع في العراق . هذا المفهوم الذي عمره اكثر من سبعين عاماً ، ينطبق على الاشخاص الذين لهم نفس التربية والتعليم ويتبنون قيماً حضارية مشتركة وانماطاً من السلوك متماثلة ويتمسكون باعراف وعادات واحدة ويتبادلون رموزاً ومفاهيم وافكاراً ذات دلالات موحدة وواضحة ، لم يؤخذ بهذا المفهوم ( شخصيتة الاساس ) من قبل الباحثين في علم الاجتماع ويطبقونه على الشخصية العراقية . وألا فأن بوسع عالم الاجتماع من خلال مراقبته السلوك الاجتماعي للافراد والجماعات ان يشخص وجود التناقضات في المواقف والاتجاهات والقيم وانماط التعامل فيما بين الافراد والجماعات افقياً . وكذلك التناقضات بين المراتب الاجتماعية ، اي الشرائح الاجتماعية المختلفة او الطبقات او الطوائف او الاقليات او القوميات عموماً . وبوسع عالم الاجتماع ايضاً ان يعتمد في تحليلاته في هذا الشأن على المتغيرات الحضارية والاجتماعية والثقافية والتاريخية وغيرها .
وبالمقابل ، ان الاعتماد على النفس الفرد عند التطرق الى الشخصية العراقية ، فيه بعض المحاذير التي لا تخفى على احد ، لأن ( ازدواجية الشخصية ) هي حالة مرضية ( شيزوفرينيا ) وهي مأخوذة من علم الامراض العقلية ، وحيث لم يتواصل الى الآن علاج للشيزوفرينيا ، فقد خدم مفهوم ازدواجية الشخصية العراقية ما كان يروج له منذ الخمسينيات في الاوساط الاجتماعية المختلفة مقولة ( احنا العراقيين ما تصير لنا جارة ) وبذلك وقف هذا المفهوم الى جانب مساعي خلق الشعور بالتعجيز لدى الفرد العراقي .
ان معرفة الذات كانت ومازالت موضع غاية واهتمام كل انسان على مر العصور وفي مختلف المجتمعات . والحكمة القديمة ( اعرف نفسك ) مازالت تفرض نفسها على الفرد ، كما تفرض نفسها جماعياً ـــ اعرف نفسك كأنسان ، وكفرد له ذاتيته التي تميزه عن الآخرين ، واعرف نفسك بوصفك عضواً في جماعة او جماعات اجتماعية معينة ، قد تكون الحزب ، او النقابة ، او الاتحاد ، او الجمعية . وقد تكون العشيرة ، او الطائفة ، او الطبقة ، او الامة ، وعبر ذلك وخلال عدد لا يحصى من الانتماءات الاجتماعية ، ومن الادوار والمراكز التي يتبوأها الفرد في المجتمع عبر مراحل حياته المختلفة .
وعليه ، فان وعي الذات لدى الفرد اما ان يكون داخلياً من خلال التأملات والتجارب والمواقف وغيرها ، او ان يتم اكتساب الوعي خارجياً من خلال العلم والثقافة والمعلومات التي يقدمها الآخرون عن الجوانب السيكولوجية والاجتماعية في تكوين شخصية الفرد ، ومن خلال حصيلة كاملة من المعارف التي يعرضها المختصون في دراساتهم ، وعبر الاحصائيات والعينات والدراسات الميدانية والتحليلية وما يتمخض عنها من نتائج . وبعبارة ادق تطبيق المنهج العلمي في طرح الفرضيات ثم اختبار صحتها في الواقع عبر الدراسات الميدانية .
لقد كانت محاولة الدكتور الوردي ، التعرض لمعالجة الشخصية العراقية جريئة بلا ريب ، ولكن يجب ان تؤخذ في ظروفها البيئية والتاريخية مشروطة بعوامل الزمن ، وظروف العراق ومراحل تطوره التاريخي . اما في الوقت الحاضر فحبذا لو توجه الباحثون في علم الاجتماع وعلم النفس وغيرهم لمعالجة موضوع ( الشخصية العراقية ) ابتداءاً من منطلقات نظرية جديدة ، وعلى ضوء ما استجد من احداث وظروف حدثت خلال الاربعين سنة الاخيرة ، وفي شتى مجالات الحياة .