تطورت العقيدة الأمنية على مر العصور, وفق تطور وثقافة المجتمعات وأساليب الحكم فيها .فالمجتمعات المحكومة بحكم شمولي أو ديكتاتوري, تكون الحكومات فيها هي من يتبنى كل الشؤون الأمنية. وتكون منفردة فيها , ومهيمنةً كل الهيمنة, ولادور للشعب نهائياً .تتصرف وفق مصالح الحكام وأهواءهم وميولهم السياسية .تقمع هذا وتقرب ذاك تعاقب وتعفو وفق مصالحها وهواها. أمّا المجتمعات الديموقراطية تتولى الحكومة الشأن الأمني, ويكون الشعب عوناً لها. ومراقباً ومُقيّماً لأدائها . لأن الأمن يهم الجميع .وإن إستتب إنطلقت البلدان نحو النمو والتقدم والأزدهار . فتعددت فيهاإختصاصات الجهات الأمنية وتفرعت . ليكون الأمن عاماً شاملاً لكل مفاصل المجتمع.ولقد إهتمت الدولة الأسلامية منذ تأسيسها على يد الرسول الكريم.فوضع صلى الله عليه وآله وسلم لبنة قواعد الأمن الأولى في المجتمع الأسلامي .عندما قال وقد صح قوله: ((من بات آمنأً في سربه, معافى في بدنه, عنده قوت يومه, كأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)). فالأمن والصحة والغذاء هي المتطلبات الضرورية لأدامة الحياة.وبدونها لا يمكن أن تستمر بكرامة.
الأمن مطلب الشعوب كافة بلا استثناء، ويشتد الأمر بخاصة في مجتمعاتنا، التي إذا آمنت أمِنت، وإذا أمِنت نَمت؛ فانبثق عنها أمن وإيمان، إذ لا أمن بلا إيمان، ولا نماء بلا ضمانات واقعية ضد ما يعكر الصفو في أجواء الحياة اليومية.فلا حياة ولا إزدهار ولا نماء دون أمن وأمان.وهذا يتطلب عملاً وإجراءات عملية مدروسة النتائج الملحوظة.
أن حالة التدهور الأمني وتصاعد وتيرة العمليات الأرهابية التي تشهدها بلادنا بعد أن أصبحت ساحة وملعباً للأرهاب الذي إستباح الدماء دون تمييز, تستدعي البحث والتحليل وإبداء الرأي والمشورة والنصح.والسكوت عنه تقصيرغير مقبول ولا مبرر. ولن نَكلَّ ولن نَملَّ عن الحديث المعتدل الهادف, رغم إنزعاج البعض منه ومن الحقيقة, فدائماً لغة الأعتدال لا ترضي الأكثرية لأنها لا تنسجم مع أهدافهم أو إنحيازهم الطائفي أو السياسي. فهم يرون مصالحهم وأهوائهم الطائفية أو السياسية أولى بالأهتمام من أمن الأطفال والشيوخ والنساءالتي إبتليت بالترمل, ولن نسكت حتى نشعر أن إجراءات جدية فعالة مدروسة, قد أخذت طريقها للتنفيذ. فأرواح الناس ليست رخيصة. وبلادنا ليست حقل تجارب لعديمي الخبرة والكفاءة. وليس ساحة للثأر والقتال نيابةً عن الآخرين.
فالأمن والأمان، هما عماد كل جهد تنموي، وهدف مرتقب لكل المجتمعات على اختلاف مشاربها. لذا يقتضي أخذ الأمر بجدية ملموسة لا كلام لا يقدم بل يأخر.
تتفاخر الشعوب بالحياة الآمنة ، لما للأمن من وَقع في حس الناس، من حيث تعلقه بحرصهم على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، فضلاً عن كونه هبة الله للعباد, ونعمة يُغبط عليها كل من وهبها ولا غرو في ذلك. وكان قديماً عندما يُسْأل القوم عن حالهم يقولون (أمان وخبز السلطان).واليوم لم نرَّ أماناً ولا خبز سلطان.
بضعف الأمن وانحلاله؛ تظهر آثار الخبث الشيطاني وتنتشر الجريمة وتزهق الأرواح. ويحل الرعب والخوف والهلع محل السكينة والأمان. فيعمُّ التحلل والخراب والفقر والجهل والمرض.
إن المزايدة على الأمن والأمان في المجتمعات بعامة، مدعاة للسخرية والفوضى، المُفرِزين للممارسات الشاذة والإخلال المرفوض بداهةً، والمهدد لسفينة الأمان الماخرة لعباب الجنح والجريمة طالبةً النجاة من العنف والأرهاب الدموي والفكري، كل ذلك غير مستساغ شرعاً ولا عقلاً ولا أخلاقاً، ولا قبول له تحت أي مبرر كان. فأمن الناس خط أحمر ويحتاج لجدية ومشاركة أعظم من الجميع.ولا مَهْرب منه.وإن كل مزايدة في اختلال الأمن والأمان، إنما هي من نسيج الأعداء المتربصين بنا، وإن استعملوا في نفاذ اختلاله، الأشرار من أبناء أمتنا وأغرارهم؛ من أجل سلب أمنها ومقدراتها بكل ما تعنيه الكلمة. إن المرء الصالح في فسحة من أخلاقه، عن أن يزج بنفسه في مهاوي الرذيلة ومحال الرِيَب والشك.ومن يزعزع الأمن ويخلخله إنما هو بادي الرأي يزعزع أمن نفسه ووالديه وبقية أسرته وأهله وعشيرته، قبل أن يزعزع أمن غيره من الناس.
كل هذا يبدو واضحاً جلياً، في مثل قتل نفس، أو ترويج مخدر، أو هتك عرض، أو إحلال فساد بين الخلق، أو نهب للمال العام أو الخاص أو تقاضي رشى حرمها الله ورسوله. فبمثل ذلك ينسلخ مقترف مثل هذه الأمور عن إنسانيته ووطنيته ودينه، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك، والفاحشة والإضلال بالأمة؛ فيشل الحياة، ويهدم صرحها، ويوقع مجتمعه في وهدة الذل والدمار والخراب؛ فيخِل بالأمن ويروع المجتمع، ويبدد أمنهم شذر مذر. ومتى امتد شذوذ المرء ليشمل الآخرين، ويمس من أهله ومجتمعه فإنه لا محالة، يعرض نفسه لحتفه بالغاً ما بلغ من العنفوان والشجاعة، وإلا لو فكر مزعزع الأمن هذا ملياً في مصير والديه عندما يتحسران على مَنْ فقدا, وهما اللذان شَقِيا في التربية، يتساءلان في دهشة وذهول، أمِن المعقول أنْ يكون من ولَدْناه تحت ناظرنا قاتلاً سفّاحاً و مِعْوَل هدم لأمن المجتمع وصرحه؟!!
أما يفكر مزعزع الأمن في عياله الذين يخشى عليهم الضياع من بعده والأسى من فقده؟! ألا يشعر بأن زوجه أرملة ولو كان حياً؟ لأنه لا يعلم متى تترمل.أو يترمل.
أو ما يشعر بأن أولاده أيتام ولو كان له نفس أو عرق ينبض؟! لأن الأرهاب لن يستثني أهله وعياله ولن يستثنيه بشخصه. وإنْ لم يطلْه الأرهاب اليوم, فغداً أو بعد غد. ولا علِمَ له متى سيَتَيتْم أولاده.
وقد قال من عزَّ وعلا (وليخشّ الذين لو تركوامن خلفهم ذريةً ضعافاً, خافوا عليهم, فليتقوا الله, ويقولوا قولاً سديداً )). فالقول الرشيد السديد الرأي غير المنافق فيه العلاج. وسنستمر بقوله بقوةٍ وصراحةٍ مهما إنزعج البعض منه ومن الحقيقة. ولن ننثني عن الأستمرار فيه.
أوَ لا يفكر مزعزع الأمن كيف يحل عليه الضعف والخَور محل القوة والعزيمة، والْهَمَّ من نفسه محل الفرح، والكدر والحزن مكان الصفاء والسعادة؟! عندما يقع تحت سطوة القانون. فَيُدان على فعلته. حيث لم يعد يؤنسه جليس ولا يريحه حديث، فهوَّ قلق متوجس متربص، كثير الالتفات. فكيف يصل إلى منشوده ومبتغاه وما يتمنى لنفسه ولأهله ولوطنه؟! بعد أن يسأم الحياة بفعله الأجرامي الشاذ، والذي سيجعله قابعاً في غياهب السجون أو معلقاً على عود المشنقة بسبب جرمه، فضلاً عما يخالج أنفاسه وأحاسيسه، من ارتقاب العقوبة كامنة عند كل طرقة باب، لا سيما إن كان في هذه العقوبة حتفه وتغييبه من هذه الحياة. وبعدها سيكون حطب جهنم. وإشارة عار وشنار لأهله وعشيرته.
فلا بد من المحاسبة الصارمة لمن يخرب أمن بلده ويزعزعه. وتطبيق الأحكام والقوانين عليه دون تأخير. ولا غرو في ذلك، فإن في قتل مجرم واحد حياة هنيئة لأمة بأكملها ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب لعلكم تتقون. وقديماً قيل: القتل أنفى للقتل.
فمن أجل إستتباب الأمن في المجتمعات جاءت القوانين والشرائع بالعقوبات الصارمة، وحفظت للأمة في قضاياها ما يتعلق بالحق العام والحق الخاص. بل إن من واجب أصحاب الضمائر، قطع أبواب التهاون في تطبيقها أياً كان هذا التهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء وتشفعهم في إلغائها، أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد أو ملامة من الداخل أو الخارج. كما يجب إختصار الروتين والزمن لتنفيذ الأحكام وبموقع الجريمة. لردع المجرمين وَليَعتَبِرَ الآخرون. فحفاظاً للأمن والأمان؛ غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على من شفع في حد من حدود الله. وأكد على ذلك بقوله ))وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها((.
وإن داء التسلل والتسيب الأمني إن تسرب وتغلغل, فهذا يعني بداية إنهيار الأمن. وإن أفرادها بذلك يهيلون التراب على تراثهم وبدأوا حفر قبورهم بأيديهم، وقطعوا شرايين الحياة عن الأجيال الحاضرة، والآمال المرتقبة. وهم يخدمون بمثل هذا الغارة التي يشنها أعداءهم عليهم، من خلال أعمال خرقاء تزيد السقم علة، والطين بلَّة؛ فيُطاح بأرواح الناس وتُعطَّل حياتُهم، وتوصد أبواب الحياة الهانئة الآمنة. نحن نعيش أوضاع خاصة بعد أن ضرب الأرهاب والفساد كل جزء من بلداننا وكل مفصل, لذا يجب ألا نكترث للمعايير الدولية في تطبيق العقوبات على المجرمين, وكل من عاث فساد في البلاد وآذى العباد. فالحزم والصرامة مطلوبة وواجب. فنحن من يدفع ثمن فقدان الأمن لا المجتمع الدولي أو دول الجوار التي تضمر لنا العداء دون سبب أو مبرر.
المفاهيم العقلانية تقول: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولأجل أن نعرف حقيقة الأمن وصورته, فلابد أن تكون هذه المعرفة شمولية مدروسة بعمق، وألا تكون ضيقة, مستهجنة الطرح، من خلال قصر مفاهيم الأمن على ناحية حماية المجتمع من الجرائم فحسب. وأن يقصر مفهوم حمايته على جناب الشُّرَطَ والدوريات الأمنية في المجتمعات بعامة. كلا، فالحديث عن الأمن ليس مقصوراً على هذا التصور الساذج البسيط، إذ أنَّ الحقيقة أشد من ذلك والخطب أعظم.
بل إن المواطن نفسه رجلاً كان أو امرأة ينبغي أن يكون رجل أمن. ورجل الأمن مواطن صِرْف. وإن كل حزب أو كتلة سياسية أو رجل دين أو وجيه في المجتمع عليه مسؤولية أمنية لا ريب. وليست الحكومة هيَ المسؤولة فقط . فالحكومة لا يمكن أن تضع شرطياً داخل كل دار, وعلى كل باب. ولن تتمكن من حراسة كل متجر, أو مرفق عام لوحدها, حتى لو كانت أقدر الحكومات. فكيف بحكومة محاصصة يخاتل بعضها البعض, وربما شارك جزء منها في أعمال إرهابية؟ كما نسمع بعض الأحيان من أفواه بعض المسؤولين. والله أعلم. إذن فالكل مسؤولٌ. ولا مناص. والمقصر مساهم بالأرهاب وهادر لدماء المواطنين. ولن يغفر الله له.
لقد هيأت الخلافات السياسية والصراع على السلطة والمراكز الوظيفيه الأرض الخصبة للأرهاب. وسهلت له أسباب التوسع والنشاط. فشمل كل العراق وضرب كل جزء من الوطن. وهذا خطر كبير على البلاد وعار على هؤلاء الجاهلين بأصول اللعبة السياسية والكافرين بالوطن وحقوقه. فكان من الأجدر بهم مع وجود الخلافات إن كانوا يتمتعون بشيء من الوطنية والأخلاق ألا يختلفوا على أمن الوطن. ويضعوا أيديهم وخبراتهم بيد المسؤولين عن حفظ الأمن ومراقبة عملهم وتقييمه بوجدان, وتوجيههم بإخلاص للطرق والوسائل الأجدى والتأشير على الخلل والتقصير بأمانة لا بحقد وتسقيط سياسي. فالخلافات السياسية لا تبيح الأرهاب وهدر دماء الناس.
فإذا استحضرنا هذا التصور بما فيه الكفاية، وجب علينا بعد ذلك أن نَعْلَم شمولية الأمن، وأنه ينطلق بادي الأمر مِنْ عقيدة المجتمع، وارتباطه الوثيق بوطنه ودينه، والبعد عن كل ما من شأنه أن يوقع أفراده في الخوف بدل الأمن، والزعزعة بدل الاستقرار. الأمن بهذه الصورة هو المطلب الأول، وهو الذي تتحقق به الصلة بالله جل وعلا، والتي بسببها يعمُّ الأمن إرجاء المجتمعات، ويتحقق وعد الله لها بقوله: ((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما إستخلف الذين من قبلهم, وليمكنن لهم دينهم الذي إرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا)). ثم إن مما ينبغي علينا اتجاه مفهوم الأمن ألا نُنَحيه عن مراكز القوى في مجتمعاتنا، أو نتجاهل أثر هذه المراكز في تحقيق معنى الأمن بصورته الأساس. ومراكز القوى معروفة في بلادنا وليست مبهمة. منها سياسية وأخرى دينية وثالثة إجتماعية ورابعة هي خليط من المثقفين والأكاديميين ودهاقنة القانون والخبراء ذوي الأختصاص ومنظمات المجتمع المدني. والأستئناس برأيها مفروغ منه ومطلوب.لتتحقق الفائدة.
فهناك ما يسمى بالأمن الغذائي، وما يسمى بالأمن الصحي الوقائي،وهناك ما يسمى الأمن الأقتصادي والأمن البيئي وهناك ما يتعلق بالضوابط الأمنية في مجال التكافل الاجتماعي، وتهيئة فرص العمل والإنتاج، والقضاء على البطالة المثمرة للخلل والفوضى، فهذا الأمن المترابط هو الذي يتكون منه مزاج الأمة الأمني.
كما يجب علينا أن لا نغفل الأمن الفكري الذي لا يقل أهمية عن ما مضى، بل إنه في هذه العصور يعد هاجساً أمنياً لكل مجتمع، ،فالأمن الفكري هو الذي يحمي عقول المجتمعات. ويحفظها من الوقوع في الفوضى، والعَبِّ من الشهوات بنهم، أو الولوغ في أتون الانسلاخ الأخلاقي. وينبغي أن يتوج الأمن الفكري بحفظ عنصرين أساسيين؛ ألا وهما: عنصر الفكر التعليمي، وعنصر الإعلام الوطني الهادف، إذ يجب على الأمة من خلال هذين العنصرين ألا تقع في مزالق الانحدار والتغريب، والتي هي بدورها تطمس هويتنا الوطنية، وتفقده توازنه الأمني والاعتزاز بتمسكه بأخلاقه، إذ إن الأمن على العقول، لا يقل أهميته عن أمن الأرواح والأموال، فكما أن للبيوت لصوصاً ومختلسين، وللأموال كذلك؛ فإن للعقول لصوصاً ومختلسين. بل إن لصوص العقول أشد خطراً، وأنكى جرحاً من سائر اللصوص.
أما الفكر الإعلامي فأمنه واجب مُسلّمٌ به. فهو مقبض رحى المجتمعات المعاصرة، وعنوان تحضرها، به يُبَّصر الناس وبه يغربون، به تخدم قضايا الأمة وتنتصر، وبه تُطمس حقائقها وتُهدر. وحماية الثقافة والأعلام وحياديتهما وتنقيتهما من الشوائب واجب الدولة والمجتمع. ليكون إعلاماً ناصعاً ناصحاً مُثقفاً للناس, لا مروجاً للدجل وموظفاً لأجندات مضللة ومدفوع ثمنها. بالفكر الإعلامي تعرف المجتمعات الجادة من المجتمعات المستهترة، والمجتمعات الراقية المثلى من المجتمعات الناكبة. فما يكون في الفكر الإعلامي من إعتدال وكمال وتعقل، يكون كمالاً في بنية الأمن الإعلامي وإعتدالاً، وقرة عين لمجموع الأمة بأكملها وسعادة لها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال فإنه يكون مرضاً للأمة، يوردها موارد الهلكة والتيه والضياع. وحاصل الأمر أنه ينبغي علينا جميعاً، أن ننظر إلى الحقيقة الأمنية من أوسع أبوابها، وأقرب الطرق الموصلة إليها. وهذا واجب كل ذي بصيرة. وتكليف شرعي على كل مدرك لسوء الحال. ومن الله التوفيق.