18 ديسمبر، 2024 10:40 م

(رأس الحسين) رواية عبد الله خليفة

(رأس الحسين) رواية عبد الله خليفة

(… وطعن الحسين عليه السلام، سنان بن أنس فصرعه،

 وبدرَ إليه خولي بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتزّ رأسهُ

 فأرعد، فقال له الشمر: فتّ الله عضدك مالك ترعد؟

ونزل الشمر إليه فذبحه، ثم دفع رأسه إلى خولي بن يزيد

فقال أحمله إلى الأمير عمر بن سعد… وسرّح عمر بن سعد

من يومه ذلك وهو يوم عاشوراء برأس الحسين عليه السلام

مع خولي بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي

إلى عبيد الله بن زياد../ عن الشيخ المفيد، عن الكلبي عن المدائني)

(*)

الكتابة الإبداعية عن ملحمة الطف تتحكم فيها الوثيقة الموجودة في كتب التاريخ، قبل سنوات توقفت عميقا عند مجلد (الملهوف على قتلى الطفوف) لابن طاووس وكذلك موسوعة الباحثة بثينة بنت حسين (الفتنة الثانية ..) وكتبتُ عنه مقالة منشورة في المواقع الثقافية 15/ 8/ 2022 وأطلعتُ أيضا على (الحسين في الفكر المسيحي) للكاتب أنطوان بارا وكتاب( الحسين الوسيط / دراسة تحليلية بنيوية لواقعة كربلاء) من تأليف تورستن هايلين. وقبل هذه الكتب قرأتُ في سنوات الحصار، (تراجيديا كربلاء) للكاتب إبراهيم الحيدري مستنسخا. وفي 2008 حين كنت مسؤولا عن البرامج الثقافية في إذاعة الملتقى ومع شهر محرم قدمت من اليوم الأول حتى اليوم الثالث عشر وبتوقيت الرابعة عصر حلقات بعنوان (تراجيديا كربلاء).. ولا يمكن نسيان كتاب عباس محمود العقاد( الحسين سيد الشهداء) ومسرحية الشاعر عبد الرحمن الشرقاوي (الحسين ثائرا) و(الحسين شهيدا) وفي 2022 ومن خلال ملتقى جيكور الثقافي كانت لي محاضرة عنوانها(التسلسل التاريخي لمجالس العزاء الحسيني)بتاريخ 27/ 8/ 2022 في قاعة الشهيد هندال.

أما موسوعة السيد كاظم القزويني طيب الله ثراه( زينب الكبرى من المهد إلى اللحد) التي تبلغ 620 صفحة فتحتوي مرحلة تاريخية وتهبنا جهدها الذي لامثيل له حول الفاجعة وقد صدرت الموسوعة عن دار المرتضى بيروت/ 1420 هجرية

(*)

عن كل هذه الكتب أقول أن مساحة الإبداع فيها أوسع بكثير من المساحة المتاحة للنصوص الأدبية عن فاجعة الطف.  هنا يكون الكاتب مقيدا بالمراجع التاريخية ويتحول النص المكتوب إلى نص تسجيلي ومهمة الأديب هي استقراء النصوص التاريخية ثم التقاط ما يوائم  النص المسرحي أو الروائي. وهي محاولات مصحوبة بجهود كبيرة. أما في الشعر فحرية التعبيرواسعة جداً فالجهد مشبع بالمخيلة المدججة بالكنايات والاستعارات كل هذه الحقول تقوم بتدوير السرد، مِنالتاريخي إلى إبداع يحتوي محموليّ الماضي المستبد وعلاقته  بالراهن الملتبس الذي نكابد منه كل يوم

(*)

في روايته ِ( رأس الحسين)/ط1/  2006/ الدار العربية للعلوم/ بيروت، حاول الروائي عبدالله خليفة أن  يجترح تعادلية بين  الوثيقة  والمخيلة فجعل الرواية تبدأ مع نهاية فاجعة الطف، وتوجه الجيش الأموي والسبايا إلى دمشق. ومحور الرواية يقدمه لنا الروائي مع الصفحة الأولى من خلال محاورة تجري بين أثنين من جنود الأمويين (انتزعتْ يداه الرأس. احتضنه في صدره. ارتجف قلبه ُ فجأة . حدق في بقية الجثة ورأى نافورة من دم. تدافعت الأيادي إليه. دخلت الأظافر وجهه، اندفع بعيداُ وهو يصرخ فرحا: الرأس لي. صاح الشمر: أنا الذي قتلته ولي هذا الرأس الثمين! قال حمزة من موقعه : صار لي الآن، وغداً أرميه تحت قدميّ الخليفة وأفوز بالعطايا يا أو غاد/ 5)  السطور القليلة هي محاورة بين قاتل الحسين وبين شخصاطلق عليه المؤلف اسم حمزة.   المحاورة هي الخلية السردية الموقوتة ، وستكون بسعة (176) صفحة من الحجم المتوسط ومن هذه السعة السردية ينهض الفضاء الروائي.. وقراءتي هي قراءة منتخبة اشتغلت على شخصية الإنسان المهمش أعني الجندي الأموي/ مهرج يزيد ويمتلك السرد حيوية التشويق من خلال تحولات يمر بها الجندي حمزة، من الوعي الزائف إلى الوعي الثوري.. وسؤال حمزة الأول ينطلق من الصفحة: (تأمل حمزة بقايا المعركة بدهشة وتساءل : لماذا ساقنا الخليفة يزيد إلى هذه الأرض الترابية والإحاطة بهذه العائلة الصغيرة والجماعة الضئيلة؟! هذه الأسرة التي حاصرناها طويلاً وهي لا تستحق كل هذا الحصار العنيف !) وسؤالي كقارئ: هل طوعاً أم كرها شارك حمزة في الجيش؟ وهو يحتضن رأس الحسينليلا يسأل نفسه (ما بال هؤلاء النسوة والأطفال لا يكفون عن البكاء؟ ألم يأمر قائد الجيش بعدم البكاء؟/ 9) وإذا سألنا من هو هذا الحمزة؟ يجيبنا السارد( هو جندي فقير يلتحق بجيوش المسلمين لكي يحصل على الغنائم) هنا يقترض الروائي عبدالله خليفة تقنية شبح الأب المغدور، من  شكسبير في مسرحية(هاملت)ينعس حمزة ويرى فيما يرى النائم، هناك مَن يحدثهُ(ماذا تريد مِن الجيوش والحروب يا حمزة، ألست شاباً قوياً ومقبول الطلعة وتستطيع أن تعمل منذ الصباح حتى السماء؟ تستطيع أن تكسب كثيراً بالعمل /11)هنا يتخذ الروائي عبدالله خليفة مساراً مغايراً في التعامل مع الوثيقة التاريخية فهو ينتج مخيلة ً تتجاور مع الوثيقة ولا تتماهى فيها، من خلال التحاور بين شخصين شاسع المسافة بينهما. شخصية خالدة لا تأفل شمسها هي شخصية  سيد الشهداء الحسين عليه السلام، وشخصية رجلٌ مِن همل الناس اسمه حمزة ومن خلال التحاور بين الحين والآخر يزداد حمزة وعيا بما يجري وينتقل إلى صف الحسين كما انتقل القائد في جيش الأمويين الحرُ الرياحي. مع الاختلاف الكبير بين القائد الرياحي وبين  الجندي حمزة، وأكبر الفروق بينهما أن الحر الرياحي أستشهد دفاعاً عن ثورة الحسين أثناء موقعة الطف. لكن حمزة سيفهم الحسين من خلال الحسين أعني من خلال صوت الحسين وهو يناجيه، وقد أصاب الروائي حين جعل ثريا  نص روايته (رأس الحسين) فهذا الرأس الثائر كان في حيازة الجندي حمزة، ولأسباب إنسانية محض كان الشهيد الحسين يحنو على الجندي الذي طمسوا وعيه وجعلوه يتصور أن هذا القتال لنصرة الدين الإسلامي. وهنا يأتي دور الحسين شهيدا في توعية الأحياء الميتين في حياتهم..  لنكمل الآن التحاور بين حمزة والحسين

(مَن يحدثني؟ مَن يتكلم معي؟

 أنا الحسين أتكلم معك مِن هذه الرأس التي تحملها؟) سنلاحظ أن  تحاور الحسين له منطق استدلي متمهل فهو يتعامل مع إنسان مِن همل ِ الناس. وحين يرتبكحمزة قائلا

(أعوذ بالله، ألا تكف أيها الوسواس الخناس من الحديث معي وأنا رجل مؤمن مسلم؟)

يكون جواب الحسين سؤالا: (متى صرت مسلما يا حمزة، بعد أن قالوا لك عن الغنائم

والأسلاب والنساء؟) ويكون جواب حمزة تساؤلا (كيف تريدني أن أكون مسلماً وأنا معوز، جيوش المسلمين تقدمت في كل مكان، وأنا شاب ٌ فقير ولا فرصة لي وهذه الجيوش تملأ جيوب جنودها بالمال) يسأله الحسين( وهل المال هو الذي جذبك إلى الإسلام، أليس هذا مخجلا ً ؟ / 12).. وهناك نوع آخر من التحاور العنيف بين الجندي حمزة وقاتل الحسين ومن خلال المحاورة نكتشف جهل حمزة بهوية الرأس، كما نكتشف شيئا من فطنته حين يخاطبه الشمر:

(أترك الرأس يا حمزة وإلاّ قطعت يدك !)

(لن أتركه.. لن أتركه!)

(قلت لك أتركه، ما أنت سوى فتى تافه وهذه الرأس لي، أنا الذي ضحيتُ وقطعتها

  عن الجسد، أنا الشمر!)

(أرجوك يا شمر أنت رجلٌ ميسور وأنا فقير معوز، دعني أخذ هذه الرأس للخليفة ليعطيني مالا كثيراً) هنا تتضح سذاجة الجندي حمزة، فيرد عليه الشمر: (لم يتقدم أحدٌ إلى الرأس غيري، والجيش كله خاف!) وهنا تتضح فطنة حمزة حين  يسأل الشمرَ(لماذا خاف الجيش كله مِن قطع رأس لرجلٍ أحاط به جيشٌ كثيف؟)

يجيبه الشمرٌ( لأن الجيش كله ُ جمعٌ مِن الجبناء، ليس فيهم رجلٌ شجاعٌ مثلي)

هنا يطلق حمزة صدمة التلقي في وجه الشمر حين يخاطبه( لا أرى فيها شجاعة يا شمر والرجلُ محاط بآلاف العسكر) ولأن الشمر يشعر أن منطق حمزة فضحه فيستعمل السيف ويهوى بسيفه على أصابع حمزة.. يضمد حمزة يده، بيده الثانية .الشمر القاتل  السارق يتوارى.. في ظلام يبصر العباءات والنجوم والقوافل والسبايا حشد من قطع شمس ٍ ممزقة حشد من السيوف، غابة ٌ من الرماح، على صدر الحسين وصوت الحسين واضحٌ جلي :

( لا تتركني يا حمزة!

يتلفت وهو في كل ألمه، الذي أنغمر بالصوت الشجي الدافئ يبحث

لا تتركني.. يا حمزة..!

من يتكلم هناك؟

أنا الحسين، أتحدث معك، لا تتركني أيها الفتى الطيب

أي صوت هذا، ماذا يريد هذا الصوت الغريب؟

لا تتركني يا حمزة أريد أن تحملني، لا أريد أن يلمسني هذا الرجلُ!

ما هذه الأصوات، كيف للظلام أن يتكلم!)

من هذا التحاور ستحل في حمزة الرؤية الجديدة حين يرى أجساد الجنود ملقاة على الحُصر والسجاد كأنها  مرمية ٌ من السماءِ كأحجار صلدة مستكينة خافتة الحس والضوء (لم يرهم من قبل هكذا/ 14) وأصابعه لم تعد تؤلمه ويواصل حمزة صراخه

(سرقوا الرأس مني أيها الناس) والصوت الغريب الخفي الذي لا يسمعه سوى حمزة

يناديه (أبحث عني يا حمزة، أنا تائه الآن في الصحراء والعالم، أبحث.. عن..)

الأصوات تختلف، حمزة وهو يبحث عن الرأس الحسين( صاح بهم مفزوعاً باكياً)

(صرخ جعدة) جندي آخر (أضاف بصوت ٍ هامس: أتعرف صاحب هذه الرأس)

(نهره آخر: أسكت وإلا قتلونا) (صاح حمزة : لا أعرف شيئا سوى أنه هدية أعطاني

إياها القائد..) ( صاحوا به جميعا).. (نهره الحراس) (علام هذه الضجة) نبرة هادئة

(تعال يا غلام) في خيمة القائد (لم تكن خيمته فرحة أيضا) (فالنسوة الجميلات والعود والدفوف وأطباق الأكل الباذخة والرجال الندامى، لم تكن تصنع متعة ً في هذا الهدوء الغريب/ 17).. ربما نجد بعضا من الجواب في كلام حمزة كما يصفه السارد (تساءل حمزة في روحه الضاجة : مَن الميت الحقيقي يا رب؟! كان المقتول يتكلم بهدوء وفرح غريب! وهؤلاء الأحياء الممتلئون بالطعام والشراب كأنهم جثثٌ متعفنة !) وحين يسأل القائد حمزة َ : ماذا تريد يا حمزة؟ يخبرنا السارد عن ترجمة حمزة لنبرة صوت القائد

(صوتٌ لم ينبثق من جسد كما أحس حمزة، بل من خرابة، بل من ثقب عميق غائر في الأرض وتخرج منه تنهدات الموتى وهي تتلوى مع الدود والعقارب!) تقابل نبرة صوت القائد، نبرة صوت حمزة (لم يخل عن هياجه) ثم تنتقل النبرة إلى هدأة الصوت الجواني( قال حمزة لنفسه ما بال هؤلاء القوم المنتصرون غير قادرين على الضحك؟ لماذا يبدو المنتصرون كأنهم موتى والموتى أحياء؟ لماذا تشتعل القناديل في البرية ولماذا يزهر العشب فجأة في اليباب، ماذا يحدث يا إلهي؟!/ 18) هذه نقلة جديدة في مشاعر حمزة مشحونةباستغراب ما يجري، يكوّر مشاعره ويقذفها بوجه أمير الجيش

(يا سيدي إذا كان الفوز في المعارك لا يجلب الضحك فكيف يستطيع معتوه مثلي أن

يضحك سادة القوم ويحوز على جواريهم؟) الوجوم الذي كان يطبق على وجه عمر بن سعد يستحيل ُ إلى غضب وحقد  ثم يصيح مخاطبا حمزة( قل لي ماذا حدث؟ أصدقني القول وإلاّ وضعتُ هذا النصل َ في حنجرتك) نلمسُ ونحن نقرأ الرواية أن تنويعات الصوت من خلال نبراته تتحكم بنسيج الرواية. أمير الجيش الأموي يصيح لا يتكلم

وبصياحه يهدد حنجرة حمزة (وإلاّ وضعت ُ هذا النصل َ في حنجرتك) النصل/ الحجرة وليس السيف / الرأس.وهنا يتماهى ذلك الصوت في حنجرة حمزة ولسانه

ويشعر حمزة ليس هو المتكلم فقد (راح الصوت الغريب في روحه يتصاعد ويكاد يشق صدره) الجثة المقطوعة الرأس المرمية في العراء تشخب دما لا يتوقف، يروي العشب

الأصفر الذي انتشر فجأة وبشكل مخيف ثم تخاطبه الجثة  من دون الآخرين (أين رأسي يا حمزة؟ أين رأسي يا حمزة..؟) وحين ينتهي حمزة من كلامه يرى صدمة التلقي واخزة ً في وجوههم (أبصر حمزة وجوه الجميع كأنها غير مرئية، لم تعد ثمة رؤوس، هناك أكتاف ضخمة أو ناعمة أو عارية، ولكن لم تكن ثمة عيون، ولا جباه، وحتى القائد بدا في وقوفه كأنه يصل إلى الفراغ، كان رذاذُ لعابه يتطاير لكن لم يكن ثمة لسان ولا وجه../ 18).. بمرور الوقت والقافلة تقصد دمشق يتقدم حمزة خطوات ٍ جديدة ً في وعيه التراجيدي لثورة الحسين المغدورة( يحس ُ الآن أنه آثم في عمل  ما، وشريك في جريمة لا يعرف عنها شيئا../ 25) وهو صادق في قوله عن نفسه( إنني لم أرسل سهماًـ بل أنا راوية هذا الجيش ومضحكه..) لكن تحولات وعيهُ تجعل منه الرواية الضد (.. لأروي كل هذه القصص وتسمع أشعار الحسين وزينب والعباس../ 27)

(*)

يزيد حين يخبره احد العاملين في بلاطه بمقتل الحسين وعدم تراجعه، سيغضب ويزداد حنقاً حين يعرف(الجثة لم نعثر لها على أثر، كأنها سرقت، أو خطفها أشباح أو جن أو بشر فجأة توارت في الظلام../ 33) هذا الكلام ضمن حرية مؤلف الرواية في استعمال المخيلةولا يحق لنا الاعتراض بل المخيلة  تعطي للحسين استحقاقه الرمزي ضمن الرواية. ويزيد يهمه جدا وصول رأس الحسين إليه ليعنّف الرأس حتى ينطق الحسين فالطاغية الحاكم الأموي يعلم جيدا ً منزلة آل البيت عليهم السلام(لعل الرأس تتكلم وتطلب الغفران وتعلن الطاعة.. هم أهل معجزات لعلهم هكذا كما يزعمون فأستطيع أن أجبر الرأس على الطاعة.. وإعلان الولاء..) ولدى يزيد مقترح آخر( لعلي أضعهاعلى طاولة كبيرة وعليها ستار وأجعل أحد ينطقُ وراءها).. وفي ص38 يتقمص حمزة شخصية دونكيشوت (رجل على فرس هزيلة ناتئة العظام، كريهة الشعر، وهو يحرك عصاه ويقطع أشلاء الجنود الوهمية ويقف على الفرس التعبة التي تكاد تسقطه، جعل الأطفال يحدقون فيه مبهورين، فيقوم بطعنهم بسيفه الوهمي، ووضع عمامته على رأسه فأخفى أجزاء كبيرة ً من بصره، وكاد يسقط ولكنه تمالك نفسه وهو يقبض ُ على الهواء، والأشياء عائدا ً إلى موقعه على الفرس، وذهل حين سمع جزءً من ضحكة طفل صغيرة حبسها  جبلُ الأشلاء والدموع/ 36) هذه هي خطوة حمزة الأولى في التقرب من السبايا.هنا استعاد حمزة دوره القديم كمهرج في بلاط يزيد حيث كان يربطه ويفتح فمه ويدلق الخدم ُ الخمرة َ، سيل من المياه الحارة تشتعل في أمعائه ثم يدلق الخدم كمية من الخروع فيصير كرش حمزة مثل تنور الخباز والكل يضحك في البلاط وتكون مكافأة حمزة حماراً..!!  الآن يقع حمزة تحت سطوة تأنيب الضمير ويخاطب نفسه (كيف تركتيا حمار القصر بجواريه وملاهيه لتلتحق بهؤلاء الذئاب،البدو القساة الجفاة .. يبيعون دينهم بدينار/ 46).. هنا يسطع صوت الحسين لينقذ حمزة مِن جلد ذاتهبالتحاور المحجوب عن سوى حمزة، يخاطب الحسين(لو أنك تأخذني يا حمزة، لو أنك ترفعني من هذا النصل، وتجري بعيداً، نحو الحجاز، أو نحو أي بقعة ٍنظيفة  من الدم والحراب..) لكن حمزة من أجل تحقيق مطلب الحسين يشترط عليه الحسين( لو أنك تغدو جريئا، تصير نظيفاً.. تخطفني.. لكنك لا تزال جباناً تافهاً../ 48) اعترافات حمزة توجع الحسين وحين يسأله حمزة عما به يجيبه الحسين (أبكي عليك كيف تذل نفسك إلى هذه الدرجة./ 50) ..

(*)

رأس الحسين تمرد على الشمر ولم يفز به حمزة وصار في حيازة الجندي الأموي هشام. لكن زوجته ترفضه زوجا حين تعلم أن يحمل رأس حفيد الرسول وحين يعرف الجيران  يقتحمون البيت.. فيجدون الجندي هشام ميتاً ..

(*)

يكتمل الوعي الثوري عند حمزة الراوية والجندي والمهرج السابق في بلاط يزيد، صار يحرض الناسعلى الثورة واصبح منشدا ً حزينا يلهج بمدائح آل بيت النبوة وصار رأس حمزة مطلوباً فقد جعل النسوة والصغار والأولاد والرجال تخرج من مكامنها في الظلام ومن أقبية الأزقة، وفتحات الخرائب وحفر الصاغة والحدادين من تصدعات الغرف إلى الخيمة التي فيها رأس الحسين، يتلو ما تيسر مِن الذكر الحكيم،

وصار الرأس مزار للناقمين على يزيد وهكذا في دمشق اندلع اللهب من شرارة الجندي حمزة ورأس الحسين يحاوره من كربلاء حتى دخول دمشق، وبالمحاورة تحول المهرج إلى حسيني الهوى ما كان من كلام ٍ  بينه والحسين، جعله الآن كلاما من الحسين إلى القوم جميعا(أيها الرجال والنساء جئت إليكم برأسي فقط، وتركت ُ جسدي هناك، يضيء مكانا معذبا آخر.. جئت لنزع الحديد الذي يدمي أقدامكم ونفوسكم../ 145)

(*)

رواية (رأس الحسين) يحق لي تصنفيها (مسراوية)  أي مسرحية روائية. فالحوار يشكل نسبة عالية وما يتبقى فهو للسرد. والرواية مكثفة مشوّقة والسيء فيها حروفها الطباعية الناعمة