17 نوفمبر، 2024 12:33 م
Search
Close this search box.

رأسمالية الكوارث

رأسمالية الكوارث

طالما حظي النظام الرأسمالية الحديث والمعاصر بالكثير من البحث والدراسة من جانب المفكرين والباحثين في شتى صنوف المعرفة. ومن هذه الكتابات الرائدة ما كان استباقيا أي توقع ما يحصل من تفاعلات وافرازات نتيجة هيمنة النظام الرأسمالي اقتصاديا وسياسيا على أرجاء واسعة من العالم. وتأتي في الصدارة كتابات كارل ماركس وفردريك أنجلز وخصوصا في المؤلف الأشهر رأس المال. وأيضا في كتابات الماركسيين الجدد وما حفلت فيه من تحليلات واستنتاجات لما تفرزه هيمنة النظام الرأسمالي من استغلال لمآسي الشعوب وكوارثها.
ومن بين الكتب المهمة ذات المنحى اليساري، كتاب “رأسمالية الكوارث: كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحا طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية”، لمؤلفه الصحفي الأسترالي الجنسية الألماني الأصل أنتوني لوينشتاين، ترجمة أحمد عبد الحميد، والصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة في تشرين الثاني| نوفمبر 2019، التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت. يقع الكتاب في 439 صفحة.
ينقسم الكتاب إلى جزأين يضمان سبعة فصول أضافة إلى المقدمة والخاتمة. وقد عالجت فصول الكتاب الآتي: باكستان وأفغانستان: البحث عن حرب جديدة، اليونان: نحن مجرد أرقام ولسنا بشرا، هايتي: إن قال أحد هنا إنهم حصلوا على مساعدة، فتلك أكذوبة، بابوا غينيا الجديدة: اكسروا عظامنا ولكنكم لن تُحطّموا أرواحنا أبدا، الولايات المتحدة: أرض الأحرار صارت دولة السجون، المملكة المتحدة: إنها الاستعانة بمصادر خارجية للعنف، أستراليا: إن كان قلبك ينبض، فلديك وظيفة في سيركو.
مقدمة
يكشف الكتاب الوجه القبيح للنظام الرأسمالي، ويُسقط القناع الذي يتخفى وراءه هذا النظام لكي يستمر في ممارساته لاستغلال الشعوب الضعيفة في العالم، والاستفادة من المآسي الإنسانية للاجئين والكوارث الطبيعية والحروب والصراعات من أجل التربُّح، ومواصلة النهب الممنهج لخيرات هذه الشعوب ومواردها، واستنزاف ثرواتها الطبيعية لمصلحة الحكومات الغربية والشركات المتعددة الجنسية.
هذا الكتاب يهدف إلى إحداث صدمة، واستفزاز، وإماطة اللثام عن عالم تطور خُلسة، ولكنه يهدف أيضا إلى الإصرار على أن البدائل ممكنة، هذا ما يقوله مؤلفه.
الحقيقة أن الكاتبة الكندية نعومي كلاين كانت أول من صاغ مصطلح “رأسمالية الكوارث”، وذلك في كتابها الأفضل مبيعا عام 2007، بعنوان “عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث”؛ ففي هذا الكتاب ترى كلاين أن برامج الخصخصة، وتخفيف الرقابة الحكومية أو إلغاءها، والاستقطاعات الكبيرة في الإنفاق الاجتماعي غالبا ما تُفرض بعد وقوع كوارث ضخمة، سواء كانت هذه الكوارث طبيعية أو من صنع الإنسان، حيث “يحدث هذا كله قبل أن يتمكن ضحايا الحرب أو الكارثة الطبيعية من تجميع أنفسهم والمطالبة بما هو لهم”(ص 18).
عندما شارك مات تايبي في “تظاهرة العمل”، التي نظمتها “حركة احتلوا وول ستريت” المناهضة للرأسمالية عام 2012، قال في كلمته للمتظاهرين: “هذه المؤسسة المالية العملاقة تُعَد الرمز المطلق لنوع جديد من الفساد على أعلى المستويات في المجتمع الأمريكي: فهذا الفساد يميل إلى خلق مصاهرة بين السلطة التي تكاد تكون بلا حدود للحكومة الفدرالية والمصالح المالية الخاصة التي يتنامى تركَّزُها وباتت غير مسؤولة على نحو متزايد”(ص 14).
يجوب صندوق النقد الدولي كل بقاع العالم، بمؤازرة من النخب الغربية والدول ذات التسليح القوي، سعيا وراء خصخصة مواردها وحثها على فتح أسواقها أمام الشركات المتعددة الجنسيات، والحقيقية أن المقاومة لهذا الدواء المر هي السبب الوحيد الذي أدى إلى أن تصبح مساحات كبيرة من أمريكا اللاتينية أكثر استقلالية منذ عام 2000. والخصخصة الجماعية التي تنشا نتيجة ذلك – وهي ما تعد حجر الزاوية في السياسية الخارجية الأمريكية- تَضمن تفشي الفساد في أنظمة الحكم الأوتوقراطية. وتعرض برقيات ووثائق الخارجية الأمريكية التي سربها موقع “ويكيليكس”، أمثلة لا حصر لها في هذا الشأن، من بينها تلك التسريبات المتعلقة بمصر إبان حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك. والبنك الدولي متورط في ذلك بالقدر نفسه، وهو بالمثل فوق المحاسبة؛ ففي عام 2015، اعترف البنك بأنه لم يكن لديه أدنى فكرة عن أعداد الأشخاص الذين أُجبروا على ترك أراضيهم حول العالم من جراء سياساته الخاصة بإعادة التوطين. هذه المسألة لم تحتل عناوين الأخبار بالقدر الكافي ولم يحرك أحد ساكنا.
إن النجاح الاستثنائي الذي حققه كتاب الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، بعنوان “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”،(1) والذي يجادل فيه بأن الخلاف الاجتماعي هو النتيجة المحتملة لازدياد عدم المساواة، يشير إلى أن عموم الناس يعرفون أنه توجد مشكلة، وأنهم يبحثون عن تفسيرات واضحة لها (ص 17).
الادعاء القائل بأن “العالم ساحة معارك” يعكس أيديولوجية عسكرية سلك نهجها كل من الإدارات الديمقراطية والجمهورية في الولايات المتحدة. وتعززت وجهة النظر هذه من خلال وثائق ويكيليكس التي نُشرت عام 2010، والتي كشفت عن عدد كبير من عمليات قتل وقعت في السابق ولم يُبلَّغ عنها، وقد ارتكبتها قوات مخصخصة تابعة لأجهزة مخابراتية وأمنية كانت تعمل في مناطق الصراع في أفغانستان والعراق. ومثل هؤلاء الأشخاص الأشباح يعملون في الظل في عشرات الدول، حيث يرتكبون عمليات الخطف، والاستجواب، والقتل لأشخاص يشتبه فيهم ومن دون أي مراقبة. إن شركات المرتزقة، المبررة من قبل الدولة بحجة أنها ضرورية لمكافحة الإرهاب، قد أُدمجت تماما في حرب أمريكا التي لا نهاية لها.
من الصعب إغفال استنتاج يمكن أن نخلص إليه مفاده أن الحروب غالبا ما تندلع للسبب الرئيس ذاته المتمثل في تحرير أسواق جديدة وطيعة، ومع احتمال أن تستمر الحرب على الإرهاب عقودا، فلن يكون ثمة نقص في الأعمال التي يمكن تأمينها. وحتى الأمم المتحدة ذاتها تعتمد بنحو متزايد على شركات مرتزقة غير خاضعة للمساءلة، مثل “دين كورب”، وشركة “جي فور إس” وهما شركتان لديهما سجلات مريبة.
أفغانستان وباكستان
قبل غزو أفغانستان عام 2001 بقيادة الولايات المتحدة، كانت طالبان هي التي تحكم البلاد. وكان نظام طالبان همجيا، ولكن لم يمنعه ذلك من التفاوض مع شركة الطاقة الأمريكية “أونوكال” بشأن إدارة خط أنابيب تركمانستان – باكستان – الهند والذي يمر عبر البلاد؛ فقلما كان التطرف حجر عثرة أمام رأسمالية الكوارث. وبعد الغزو باتت أفغانستان هي المكان المثالي لازدهار اقتصاد الحرب. والواقع أن هذا الخط والذي كان من المقرر افتتاحه عام 2018، كان القصد من إنشائه نقل الغاز من بحر قزوين في نطاق استمرارية حديثة لطريق الحرير.
كان لشركة “دين كورب” حضور كبير في أفغانستان والعراق، حيث استحوذت على نسبة 96 في المئة من عائداتها السنوية البالغة 3 مليار دولار من الحكومة الأمريكية. وحدث هذا على الرغم من إخفاق الشركة في تنفيذ أي آليات جادة بشأن التشاور مع السكان المحليين الذين كانوا يعملون لديها، واعتمدت، بدلا من ذلك، على إقامة علاقات خاصة والتي تضمنت استمرار المحسوبية والمحاباة. لقد باتت الخصخصة راسخة للغاية في الدولتين إلى درجة أن موضوع إسناد الخدمات العامة المتأثرة إلى مؤسسات عامة نادرا ما يُطرح حتى للمناقشة في دوائر الحكومات الغربية.
لقد أحدث الاحتلال الأمريكي لأفغانستان تغيرا عميقا في البلاد، وكان في معظمه تغيرا نحو الأسوأ، ففي مدينة قندهار اليوم نخبة أفغانية أَثرت بفعل الاحتلال الأمريكي، وتتوجس خفية من المستقبل.
الصورة الأكبر كانت تتمثل في ان حامد كرزاي قد نُصّب رئيسا لأفغانستان عام 2004 من خلال انتخابات غير ديمقراطية، ثم أُعيد انتخابه في تصويت صوري زائف عام 2009 مقوض بعمليات تزوير لأصوات الناخبين، وهو ما ثبت عبر أدلة واسعة الانتشار. وكان انتخاب المرشح البديل لكرزاي عام 2014 عملية ملتوية أدت إلى حالة من عدم اليقين، على الرغم من انتصار الزعيم المؤيد لأمريكا، أشرف غاني، والذي رتبت له الولايات المتحدة.
هناك طرق لا تحصى استخدمتها واشنطن بعد 11 سبتمبر 2001 وكذلك الأفغان للقتال في معارك محلية، والقضاء على أعداء في حين خلقت أعداء جدد، وضمنت انبعاث حركة طالبان المهزومة وعودة الروح إليها. ويكتب أناند جوبال “صارت الدولة متورطة في الجريمة، وتحولت إلى واحدة من أكثر الدول فسادا في العالم، فاسدة تماما مثل أمراء الحرب الذين سعت إلى تطويقهم وإجهاضهم” (ص 49).
ازدهرت رأسمالية الكوارث أيضا في باكستان، جارة أفغانستان. فهنا أيضا، كانت الأعمال المتعلقة بالأمن الخاص والمعلومات الاستخباراتية قد توسعت بنحو كبير منذ هجمات 11 سبتمبر، لاسيما أن الصراع الداخلي العنيف كان يغذي الوحش الكامن في الشركات العسكرية الخاصة. وقد ساعد على ذلك التقاطع المألوف حاليا بين الحكومة والمؤسسات العسكرية والمتربحين، ويذكر المؤلف: أطلعني صحافي بارز في كراتشي على قائمة تضم اثنين وستين من كبار الشخصيات السابقين في الجيش الباكستاني ممن يعملون الآن لدى الشركات العسكرية الخاصة، ولكنهم حافظوا على صلات وثيقة مع زملائهم القدامى (ص 75).
استطاعت الشركات العسكرية الخاصة أن تنمو في باكستان لأنها كانت خاضعة بالكاد للنظم والقوانين. إذ نشرت صحيفة “إكسبرس تربيون” عنوانا رئيسا مدويا يقول “الشركات الأمنية الخاصة تعمل بموجب قانون الغابة”(ص 76) حيث زعمت الصحيفة أن ما لا يقل عن 500 من هذه الشركات تعمل في باكستان. كما أفادت تقديرات بأنه كان يوجد ما يصل إلى 300 ألف من العاملين في مجال الأمن الخاص هناك.
اليونان
إن منطق التقشف أعطى تفويضا بشيطنة أقليلة عاجزة عن الدفاع عن نفسها. وأكملت رأسمالية الكوارث المهمة. حيث أفسدت كلا من المُهمشين وهؤلاء الذين يسعون إلى ظلمهم. وفي اليونان نجد أن كثيرا من الحكومات قد ارتبطت بعلاقات وثيقة مع الشركات إلى درجة يستحيل معها وجود سياسة تتسم بالشفافية.
يوثق المؤلف حجم المعاناة التي يعيشها اللاجئون المحتجزون في اليونان وفي لقاء مع بعضهم في أحد مراكز الاحتجاز يذكر: قال لنا هؤلاء “نحن نعاني هنا” وفي يونيو عام 2014 حدث إضراب جماعي عن الطعام احتجاجا على أمر وزاري جديد يسمح باحتجاز اللاجئين إلى أجل غير مسمى، ودعمته بصورة غير رسمية تلك التعليمات القاسية التي أصدرها الاتحاد الأوروبي. وجاء في جزء من بيان عام 2013 أصدره اللاجئون ما يلي: “مع استمرار الاحتجاز المنهجي والمفتوح، نحن نتعرض للذبح على يد الحكومة اليونانية. إنهم يُضيعون حياتنا، ويغتالون أحلامنا وآمالنا داخل السجون. وهذا يحدث بينما لم يتركب أي واحد منا أي جريمة”(ص 90).
ويشير المؤلف: في أثناء إقامتي في اليونان تحدثت إلى عدد لا حصر له من الصحافيين الذين أخبروني بأن مشكلة خصخصة نظام احتجاز اللاجئين قلما حظيت بالاهتمام المطلوب في وسائل الإعلام المحلية. “يجب أن تتحمل الدولة المسؤولية عن توفير الرعاية الصحية والأمن لأن الدولة هي من تسجن هؤلاء الأشخاص”، هكذا حاججت كوتسيوني (ص 100).
الواقع أن أعمال المراقبة والتوثيق للمهاجرين قد ولدت صناعة كبيرة. وتولى الاتحاد الأوروبي مسؤولية العمل مع شركات قد كانت لديها الرغبة القوية في تطوير التوسع في طرق تُستخدم في التصدي للجحافل اليائسة من المهاجرين. ص 123
كان المواطنون اليونانيون يعرفون حق المعرفة كيف سببت سياسة التقشف تدمير نظام الرعاية الصحية لديهم. كما أن السياسات النيوليبرالية(2) أثرت في المهاجرين وعامة السكان على حد سواء، ذلك أن التخفيضات الهائلة لرأسمالية الكوارث في الخدمات العامة والاجتماعية قد أنتجت قلة من الفائزين.
ولعل من السخرية أنه في بلد تهيمن عليه رأسمالية الكوارث إلى هذا الحد، أبدى حزب الفجر الجديد الفاشي معارضة تتسم بقوة البلاغة للخصخصة، ولكن في الواقع إنه يؤيد كل رأسمالي كبير في اليونان. وفي البرلمان صوت أعضاء الحزب ضد فرض ضريبة زهيدة على أصحاب السفن. علما كانت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية قد ساندت بنحو علني حزب الفجر الجديد ونهجه الفاشي.
رأسمالية الكوارث التي تتخفى وراء ستار التقشف سببت ضررا اجتماعيا غير مسبوق. فقد ارتفعت معدلات الانتحار في اليونان، حيث وجدت دراسة أجرتها جامعة بوتسماوث أن 551 رجلا قتلوا أنفسهم “فقط بسبب التقشف المالي” إبان الفترة 2009-2010. وواصلت هذه الأرقام ارتفاعها في السنوات التالية.
باتت روسيا بوتين رمزا للإعجاب لدى أقصى اليمين في أوروبا، من فرنسا إلى المجر واليونان والمملكة المتحدة. وبالنسبة إلى البعض في أوروبا، كان النظر إلى الشرق، باتجاه الصين وروسيا والشرق الأوسط، ورفض منطق بروكسل، احتمالا جذابا على نحو متزايد.
بيد أن رياح التغيير هبت في اليونان، إذ إن الفوز الساحق وغير المسبوق الذي حققه حزب “سيريزا” من تيار اليسار في الانتخابات عام 2015 كان بمنزلة توبيخ لسنوات سياسة التقشف الملهمة من الاتحاد الأوروبي، في حين تعثرت الأحزاب القديمة. وفي ليلة الانتخابات نشر حزب “بوديموس” اليساري الإسباني تغريدة جاء فيها: “أخيرا، أصبح لدى اليونانيين حكومة، لا مبعوث للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل” (ص 95). فقد كانت الانتخابات نقطة تحول هائل بالنسبة إلى بلد لم يحدث قط أن اختار سكانه، وبنحو جاد، سياسة تقدمية بمثل هذه الأعداد الضخمة. فبعد عقود تُجوهلت فيها مصالحهم، استطاع حزب “سيريزا” الاستفادة من موجة الاستياء في أوساط الشباب – الذي وصل معدل البطالة وسطهم إلى 60 في المئة- واستثمار هذا الاستياء ضد الفساد والتهرب الضريبي من جانب الأقلية الحاكمة.
هايتي
كان أعضاء أسرة دوفاليه الحاكمة معادين بإخلاص للشيوعية أثناء الحرب الباردة، ولذلك أغدقت عليهم واشنطن الدعم المالي بسخاء. وبفضل الدعم المالي والعسكري الذي كانت توفره القوة الكبرى حُكمت هايتي بقبضة من حديد، حيث سُحقت المعارضة، وكُممت الصحافة، كما قُتل عدة آلاف من الأشخاص. وبعد أن أخذ بيبي دوك زمام الحكم من والده وأعلن نفسه “رئيسا مدى الحياة”، بدأ تنفيذ سياسات نيوليبرالية بلا رحمة، وهو ما أدى إلى أن ترسخ الدولة حالة الفقر.
وقد كتب شفارتز أن هايتي لديها تاريخ قاتم عقودا طويلة من غزو المنظمات غير الحكومية للبلاد، وهو شيء مماثل للمبشرين. وفي الثمانينيات، تحولت هذه المنظمات إلى حكومة أمريكية كاملة، وإلى مقاولي مساعدات إنسانية. ولم يطرأ سوى تحسن قليل من ذلك الوقت.
بدأ تقريبا الاندفاع المحموم من قبل الشركات الخاصة بمجرد انتهاء الزلزال الذي ضرب البلاد عام 2010، وهو ما كان يعني في نهاية المطاف أن نسبة مئوية صغيرة للغاية فقط من مساعدات مالية بقيمة 1,8 مليار دولار، قدمتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، قد وصل إلى جيوب المواطنين العاديين، وفي “قمة هايتي”، التي عقدت بفندق فاخر في ميامي، بعد شهرين من الزلزال، راحت شركات مقاولات خاصة، من بينها شركة “تريبل كانوني” – التي استحوذت على عقد شركة “بلاك ووتر” سيئة السمعة في العراق في عام 2009- راحت تتزاحم من أجل اغتنام الفرص.
رأت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية أن هناك فرصا لمساعدة الشركات في كل منهما على جني أرباح عن طريق بناء مصانع ملابس لشركات مثل “وول مارت” في مناطق فقيرة في هايتي. وكان هذا كله بالضبط أحدث تجسيد لنموذج قديم منهك أخفق في تقديم فوائد طويلة الأمد إلى السكان المحليين، ولكنه قدم، بدلا من ذلك، عمالة رخيصة إلى الشركات المتعددة الجنسية.
بابوا غينيا الجديدة
في هذا البلد، تأجج الغضب تجاه منجم بانجونا منذ ميلاده في أواخر الستينيات، وهو الغضب الذي كان يعزى جزئيا إلى استغلال شركات أسترالية لمعادن البلد طوال عقود. وبحلول عام 1975، عندما حصلت بابوا غينيا الجديدة على استقلالها من أستراليا، كان التشغيل الكامل للمنجم هو أكبر كاسب في البلاد لا يعتمد على المساعدات. وقد اسهم المنجم بنسبة 20 في المئة من الميزانية الوطنية للدولة، على الرغم من أن المنجم كان، في الوقت ذاته، يدمر أي فرصه لاستدامة الموارد. غير أن مواطني بوجانفيل التي يقع فيها المنجم، وعلى الرغم من معاناتهم من الدمار البيئي، قد حصلوا على أقل من 2 في المئة من الأرباح لمساعدة مجتمعاتهم.
لسوء الحظ أنه من اليوم الأول للاستقلال، فإن بابوا غينيا الجديدة كانت تملك القليل من القدرة على المساومة في تعاملاتها مع شركات التعدين والأخشاب الأجنبية التي كانت متحمسة لاستغلال الموارد الطبيعية الوفيرة في البلاد. حيث أدت المرحلة الانتقالية إلى سن قوانين متساهلة منحت الشركات الأجنبية نفوذا هائلا لم تكن ثمة ضرورة له مكنها من السيطرة على دولة غير منظمة إلى حد كبير.
في أواخر الثمانينيات، استمر الغضب الهادئ في الغليان، وطالب جيش بوجانفيل الثوري بالاستقلال عن بابوا غينيا الجديدة، وبوضع نهاية للضرر البيئي الذي سببه المنجم. وقد أُغلق المنجم عام 1989 بعد عمليات تخريب مستمرة نفذها الجيش الثوري، غير أن الصراع المرير استمر ثماني سنوات أخرى، والذي أسفر عن مقتل ما بين 15-20 ألفا من السكان المحليين (نحو عُشر سكان البلاد)، حيث كان معظم هذه الوفيات ناتجة أساسا عن الحصار الذي فرضته بابوا غينيا الجديدة والقتال. كما تعرض إقليم بوجانفيل لدمار اقتصادي. وكان هذا ثمن الضربة التي وجهها الجيش الثوري ضد الاستعمار متعدد الجنسيات، وهو مثال نادر لشركة تعدين -بوجانفيل للنحاس المحدودة- كانت مرغمة على قبول الهزيمة على الرغم من حصولها على الدعم من حكومتين.
كان هذا شكلا من أشكال رأسمالية الكوارث: شركات مفترسة – مدعومة بأموال المساعدات الأجنبية والامتيازات الضريبية، ومعزولة عن الفحص والتدقيق من جانب وسائل الإعلام أو النقد السياسي- كانت تعمل فقط لتحقيق المنفعة لأصحاب المصلحة الدوليين، ومنعت أمة من الممارسة الفعلية لاستقلالها.
إن وجود بابوا غينيا الجديدة المستقلة حقا لم يتحقق عام 1975. ذلك أن رأسمالية الكوارث كانت مترسخة وتضرب بجذورها في النظام الجديد منذ البداية، وهو ما تتحمل أستراليا مسؤولية كبيرة عنه. لكن استقلال البلاد في القرن الحادي والعشرين ممكن بالتأكيد.
الولايات المتحدة
تحبس أمريكا نسبة من سكانها في سجن كبير، تعد الأعلى بالمقارنة بأي دولة أخرى في العالم. فهي تعكف على تشغيل نظام يتسم بشيطنة الأمريكيين الأفارقة والمهاجرين على نطاق غير مسبوق. ففي غصون ثلاثين عاما، ارتفع عدد سكان السجون من 300 ألف إلى أكثر من مليوني شخص.
من جانبها رأت شركات السجون الخاصة في ذلك كله فرصة فريدة لجني أرباح مالية هائلة من وراء ذلك الانفجار في أعداد الرجال والنساء خلف قضبان السجون. وقد مُني اعتقاد في أوساط الحزبين الجمهوري والديمقراطي بأن الحبس الجماعي ربما يكون الحل لمشاكل أمريكا الاجتماعية بالفشل الذريع- ولكن لا تخبر بذلك الشركات التي تجني أرباحا. علما تزايد عدد السجون الخاصة في جميع أنحاء البلاد عشرين ضعفا منذ التسعينيات.
أحد آثار رأسمالية الكوارث هو الحد من الرقابة الهامشية للولاية، وهو ما سمح لمسؤولين بإبرام تعاقدات خارجية للحصول على خدمات كانت ذات مرة تحت سيطرتها.
استخدمت “الصناعات الإصلاحية في ولاية واشنطن” نزلاء السجون أنفسهم لصنع الملابس والأثاث، وسُمح بتقييد السجناء بسلاسل إلى المقاعد. وذُكر بشكل عرضي أن الشخص المذنب قادر على الجلوس والعمل بسهولة تحت قيد كامل. رغم الاعتراف بأن نزلاء السجون كانوا يتقاضون أجورا زهيدة للغاية مقابل أداء عملهم.
النظام متلاعب به ليُفيد شركات مثل “سي سي أيه” وهناك أمثلة أكثر مما يمكن الاستشهاد به هنا لإظهار عدم استعداد الشركة لفرض الحد الأدنى من معايير الرعاية، بينما كان تزييف السجلات من الأمور الشائعة. إذ داب مركز الاحتجاز التابع لهذه الشركة ووزارة الأمن الداخلي عل رفض التحقيق في انتهاكات مستمرة بحق المحتجزين، ومن ثم انفضت قضايا من دون عقاب، وكانت تتضمن حالات ولادة لسجينات قبل الموعد المحدد للوضع، لأن حراس الشركة قد تجاهلوا صرخاتهن طلبا للمساعد( ص 261).
إن إمكانية إصلاح جاد للأحكام ظلت بعيدة المنال، لأن مقاولي السجون يمارسون ضغطا على مشرعين لحملهم على إصدار أحكام قضائية أكثر صرامة، وهو ما يؤدي إلى تحسين عائداتهم.
المملكة المتحدة
في المملكة المتحدة، خفضت الحكومات المتعاقبة من المعونة القانونية لطالبي اللجوء وتركت الآلاف منهم من دون أن تكون لديهم فرصة حقيقية للنجاح فالنظام مصمَّم لضمان ترك طالبي اللجوء في طي النسيان، بينما يعمل على إثراء ذلك العدد الذي لا حصر له من الشركات التي تتربح منه.
وكانت مارغريت تاتشر قد جادلت بسذاجة أو خبث، بأن الخصخصة كانت علاجا ناجعا لمجتمع محطم، وأن المديرين سيصبحون منارات مضيئة للفضيلة. وقد أظهرت الإخفاقات الكارثية لطبقة الأعمال العالمية أثناء الأزمة المالية عام 2008 الخطر الذي يمثله تنفيذيون مجهولو الهوية كانوا يديرون العالم.
“جي فور إس” شركة عملاقة، حيث تعمل في 125 دولة ولديها 657 ألف موظف، والتي تضمن عملها حراسة السجناء في سجون تديرها إسرائيل في فلسطين. وفي عام 2014، توقعت الشركة تحقيق نمو ضخم في الشرق الأوسط، خصوصا في مصر وبلدان الخليج.
عام 2013 كشفت “مؤسسة الاقتصاد الجديد” أن بريطانيا قد شهدت في الآونة الأخيرة أكبر انخفاض في مستويات المعيشة منذ العهد الفيكتوري، وهو ما أثر بشدة في عمال القطاع العام والنساء. وكانت الحقائق البسيطة لهذا التقشف المجنون كافية للإشارة إلى أن شيئا ما كان خاطئا بشكل مروع في السياسية الحديثة.
إن تقديم المنافسة في السوق بوصفها أولوية على جودة الرعاية الصحية قد بات هو الإعداد الافتراضي للقوى التي تدفع من أجل خصخصة وكالة الخدمة الصحية الوطنية، وذلك في مواجهة المعارضة القوية من الخبراء الطبيين والجمهور.
تجدر الإشارة إلى أن الديمقراطيين الأحرار حاولوا إظهار معارضة شديدة للاتجاه المتنامي لرأسمالية الكوارث. ففي عام 2014 تعهد الحزب بحماية غابات بريطانيا من الخصخصة، لكن تصريحاتهم البلاغية في هذا الصدد لم تتوافق مع الواقع. وفي العام نفسه، سُرّب ملف أظهر أن واحدا من كل خمسة سياسيين من المحافظين والديمقراطيين الأحرار تلقى تبرعات من أفراد كانوا يحثون على خصخصة وكالة الرعاية الصحية.
يمكن القول بأن النموذج الديمقراطي الغربي المتمثل في بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا وأوروبا لم يكن ديمقراطيا على الإطلاق. وهو بذلك يحرم ملايين الأشخاص عن طريق الحد من الخيارات والمناقشات الاقتصادية. وكان نعوم تشومسكي صائبا حين جادل بأن “الولايات المتحدة لديها بنحو أساسي نظام قائم على حزب واحد والحزب الحاكم هو حزب مجتمع الأعمال”(ص 286).
أستراليا
في غضون أكثر من عقدين، زادت كمية الأموال التي جمعها المقاولون بنحو كبير. فقد كانت هذه هي الظروف المثالية لازدهار رأسمالية الكوارث. ذلك أن شركات دولية مثل “سيركو” و”جي فور إس” – وهي شركات متعددة الجنسيات ليست لديها مساءلة فعليا في البرلمان الأسترالي – قد باعت كفاءتها لحكومات أسترالية متعاقبة، على الرغم من أنها أخفقت بشكل روتيني في توفير الرعاية لموظفيها أو لطالبي اللجوء. وبينما كانت هذه الشركات تمارس ضغوطا خلف الكواليس للحصول على مزيد من العمل فإنها لم تضطلع بدور مباشر في السياسات الأسترالية المحلية. وكان هذا شيئا نموذجيا ونمطيا بالنسبة إلى الثقافة المعولمة للشركات. المسؤولية النهائية عن المخالفات والانتهاكات تقع على مسافة تبعد آلاف الكيلومترات في بريطانيا. وهو ترتيب مناسب لكل من الشركات والحكومة.
في أستراليا لدى شبكة أستراليا الحديثة لطالبي اللجوء تاريخ دنيء. إذ إن وضعها بوصفها دولة استعمارية ارتكبت أعمال إبادة ضد سكانها الأصليين يفسر جزئيا المخاوف من الغرباء غير البريطانيين.
صدرت أستراليا ثقافة مخصخصة إلى مراكز الاحتجاز في الخارج. فقد أدارت شركة “سيركو” بعض المرافق في جزر كوكس، في حين حصلت شركة “جي فور إس” في البداية على عقد لإدارة موقع في جزيرة مانوس. وكان سكان جزيرة ناورو يتقاضون أربعة دولارات في الساعة من شركات المقاولات للعمل في أحد المركز هناك – وهو أقل عشر مرات من الأجر بالساعة الذي كان يحصل عليه مواطنون أستراليون في المرفق نفسه.
وكانت شركة “ترانسفيلد” تجني أموالا أكثر كلما طال بقاء اللاجئين وراء القضبان. وفرضت الشركة سياسة شديدة القسوة على موظفيها العاملين في جزيرتي ناورو ومانوس، حيث أخبرتهم بأن ثمة إمكانية لإقالتهم من العمل بناء على من يتابعهم على مواقع التواصل الاجتماعي أو لكونهم جزءا من جماعة أو حزب معارض لسياسات أستراليا تجاه اللاجئين.
منذ عام، كانت أربع شركات قد حصلت على أكثر من 5,6 مليار دولار من العمل في صناعة الاحتجاز. وفي تصريحات نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز” كشف ريتشارد هاردينج الذي شغل منصب كبير مفتشي السجون لمنطقة غربي استراليا، عن جوهر المشكلة بقوله: “هذه الشركات العالمية مثل سيركو هي أقوى من الحكومات التي تتعامل معها”(ص 340).
ذلك أن كل واحد من اللاجئين يمثل قيمة نقدية. كما أن قضاء شهور وسنوات في مكان بعيد، يديره في كل يوم حارس غير مبالٍ أو عنصري وظفته شركة خاصة، ضاعف من الشعور باليأس. فاللاجئون من التاميل والأفغان والعراقيين، من بين جنسيات أخرى، انتقلوا من جحيم سلطوي واستبدادي إلى متاهة بيروقراطية، في بلد افترضوا خطأ أنه عادل وديمقراطي.
ويختتم المؤلف الكتاب بالقول “رأسمالية الكوارث هي أيديولوجيا عصرِنا لأننا سمحنا لها بأن تكون كذلك. ولكن بوسعنا تغيير ذلك. ينبغي أن يكون هدفنا هو إيجاد نظام اقتصادي أكثر مساواة وديمقراطية تُمثلنا تمثيلا حقيقيا (ص 374).”
الهوامش
للمزيد راجع: توماس بيكيتي، رأس المال في القرن الحادي والعشرين، ترجمة وائل جمال وسلمى حسين (القاهرة: التنوير، ب. ت).
للمزيد حول الليبرالية الجديدة راجع: أشرف منصور، الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية، ط 1 (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2008)،خصوصا الفصل السابع المعنون خرافة السوق ذاتي التنظيم، ص 317-337.

أحدث المقالات