مفهوم (الأبوة) المنسوب لله، والذي ناقشناه آنفا، يجرنا إلى مناقشة ما إذا كان معنى الأم هو الأرجح نسبته إلى الله مجازيا وعرفانيا من معنى الأب، إذ الأم أحن وأرق وأعطف وأدفأ، ولكن ربما اختير الأب، كونه الأقوى والأسيَد، ولعله الأحكم، والأكثر حزما، بحسب العرف السائد، لاسيما في عصور النبوات، والتي كانت عصور الهيمنة الذكورية، وليس في عصرنا، عصر مساواة المرأة بالرجل، وإن تخلفت عن ذلك مجتمعات، ومنها تلك ذات الأكثرية المسلمة. ولكن كون علاقة (البنوة – الأبوة) إنما يراد التعبير بها عن دفء العلاقة، لذا كانت الأمومة ستكون هي الأبلغ تعبيرا عن هذا المعنى، لاسيما أننا نعلم أن الله يتعالى عن اتصافه بالذكورة أو الأنوثة، ولكن الغريب أن كل اللغات التي تشتمل على التذكير والتأنيث قد ذكَّرته سبحانه ولم تُؤنِّثه أيّ منها، حسب معلوماتي، أو تُحيِّد جنسه، تعالى الله عن التجنُّس والتذكُّر والتأنث. ولعل تذكير الله لغويا متأت من هيمنة ثقافة المجتمع الذكوري لآلاف من السنين، وما كان للوحي – حسب التبرير الديني – إلا أن يأتي بلغة الناس، لأنهم هم المعنيون بمخاطبته، وهذا يستوجب مخاطبتهم بلغتهم هم وبأدوات لغتهم. ومع هذا لا نجد في كتاب مقدس من كتب الوحي ما يُنزّه الله عن الذكورة بالمعنى الحقيقي البشري للذكورة، فيشير – كما كان يجدر الإشارة إليه – إلى أن الذكورة شأن لغوي اعتباري، لا غير، وإنها بمعناها الحقيقي من صفات المخلوقين، وليست من صفات الخالق، كما نزهه القرآن من الأبوة بمعناها الحقيقي. ولو كانت كل اللغات تشتمل على ثلاثة أجناس؛ المذكر والمؤنث والمحايد كما في الألمانية، لكان الأقرب إلى تنزيه الله سبحانه استخدام الجنس المحايد، وهكذا بالنسبة للأشياء غير المتصفة بالجنس. ولكن اللغات عند تكونها لم تكن تعتمد المنطق والفلسفة والقانونية إلا بشكل محدود. وفي حدود اللغات التي اطلعت عليها، واطلاعي بلا شك محدود، وجدت اللغة الفارسية ومثلها الكردية، كلغتين وحيدتين، في حدود ما ذكرت، لا تميزان بين الذكر والأنثى، لا بالضمائر، ولا تصريف الأفعال، ولا الصفات، فحتى الضمير الثالث، الذي نجد في أكثر اللغات تمييزا بينهما، كالإنگليزية (he/she) والألمانية (er/sie)، مع إن الألمانية هي الأقرب للعربية فيما هو التذكير والتأنيث، باستثناء الضمير الثاني، وكذلك في كثير من قواعدها؛ أما الفارسية فالضمير الثالث للمذكر (هو) والمؤنث (هي) على حد سواء (أو). ولم تكتف الأديان الإبراهيمية بتذكير الله لغويا، بل صورته منحازا للرجل انحيازا شديدا، سيأتي بحثه قرآنيا.