23 ديسمبر، 2024 4:44 ص

من خلال تجربتي أثناء خدمتي العسكرية ، أقتنعت أن العراقيون الاكراد ناس طيبين ، تولدت هذه المشاعر عندي منذ فترة طويلة ، فقد شاء القدر أن اكون في وحدة عسكرية تدخل ناحية السندي أو ( شرانش ) شمال قضاء زاخو بعد أنتهاء تمرد البيشمركة بقيادة الراحل مصطفى البارزاني عام 1975، فقد أخبرنا الاهالي أن الجيش العراقي لم يأتي لهذه الناحية منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 .
كانت الناحية عبارة عن قريتين ( شرانش السفلى ) يقطنا اكراد فقط و( شرانش العليا ) يقطنها مسيحيون فقط ، كان فرز طبيعي دون تّدخل الدولة ، وكان مقر فوجنا في الوسط ، المهم ، كان آمر الفوج شخصية فذة يدعى المقدم محمد طيب رشيد النعيمي وكان يلقب ( نمر الفرقة الثانية ) لشجاعته في وقتها عندما كان ضابط في تلك الفرقة ومقرها كركوك ، هذا الضابط وبعد أن أطلعت على أضبارته الشخصية والبريد العسكري بشكل عام والسري والشخصي بشكل خاص بحكم كوني مسؤول اداري ومقرب من الآمر ، الذي كان من القوميين العرب ، ومفصول سياسي أعاده الرئيس الراحل أحمد حسن البكر للخدمة ، وكان قومي حد النخاع ، حتى أسماء اولاده تدل على اعجابه بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ( جمال ، عروبة ، وحدة ) .
ومن خلال أضبارته الشخصية عرفت انه دخل دورة استخبارات عسكرية في القاهرة ، في الستينيات عندما كان الرئيس الراحل عبد الرحمن عارف رئيس الجمهورية العراقية في حينها ، ومن المعلومات التي عرفتها عنه ، خبرته بتمييز الاشخاص ومعرفة نواياهم ، لذلك كانت الاستخبارات العسكرية تعتمد على المعلومات المهمة التي يحصل عليها من المواطنين العراقيين الاكراد أثناء مقابلاته معهم ، فقد كان يرسلها برسائل سرية وفورية ، وكانت تسمى في حينها ( برقيات ) في المكاتبات العسكرية ، رغم كونه آمر فوج ، وتدرج هذا الضابط ليصبح مدير ادارة فرقة المشاة الحادية عشر ومقرها قضاء زاخو ، قبل أحالته على التقاعد لكوني لم ينتسب لحزب البعث الحاكم !.
ومن كلماته البليغة لنا ، أقضوا على التمرد بالطيب ، وللامانة أن كلماته رافقتها توجيهات مهمة ، منها :- عدم مناداة اي شخص بأنه ( كردي) عندما يراجع مقر الفوج ، بل مواطن ، وابلغ الملازم الطبيب المجند لااتذكر اسمه كان من اهالي كربلاء ، بأن يستقبل المرضى من المدنيين أسوة بالجنود ، ويعاملهم معاملة حسنة ، وابلغ الضابط الاداري بتوزيع بعض المواد الغذائية الزائدة عن الحاجة على العوائل المحتاجة كالطحين ، وطلب من سائقي عجلات الحمل ، أن يجلبوا حاجة الاهالي من الوقود بعجلات الفوج ، نظرا لصعوبة ذلك عليهم ، لوعورة طريق الصعود الى ناحية السندي ، وخبرة السواق العسكريين بذلك ، وفي سابقة فريدة أستسلم احد قادة البيشمركة للجيش ، بعد أن ترك أمه الوحيدة والتحق بالتمرد الكردي ، وعندما علم بأن طبيب الوحدة العسكرية عالجها وشفيت من مرضها ، قرر الاستسلام ، والعيش كمواطن عادي ، وبعد عدة سنوات من المعايشة ، أفتتح الاهالي المطاعم ومحلات البقالة ووو الخ وأصبحت علاقتنا بهم ودية جدا ، لدرجة أن الجندي الذي يروم النزول بأجازة الى أهله في الفترة الحرجة قبل استلام الراتب ، يستلف مقدار راتبه من أي محل في المنطقة ، وعند عودته واستلام راتبه يسدد الدين لصاحبه .
وبعد نقل هذا الآمر في نهاية السبعينيات ، تعرضت بعض ربايا الفوج المنتشرة على قمم الجبال لهجمات البيشمركة ، بعد أن نشط التمرد من جديد ، عندما أسس الرئيس الراحل جلال الطالباني حزب الاتحاد الوطني الكردستناني عام 1976 وتلقيه الدعم من سوريا في أطار الصراع بين جناحي حزب البعث في العراق وسوريا ، ولكن لم تتأثر علاقتنا بالاهالي .
وبعد أن جاءت الاوامر بالتحرك الى العمارة في الجنوب ، وعلم الاهالي بذلك ، وفي لحظة تحرك الرتل بسيارات الفوج ، أصبح المنظر درامي ، بعد أن اجهش الاغلبية بالبكاء من المدنيين والجنود أثناء توديعهم لنا .
كان منظر أنساني مؤثر حفر أثره في قلبي ، ولازال ندي في ذاكرتي .
وآخيرا أقول ، من المؤسف أن القيادات الكردية لاتتعض من التجارب ، وأصبحت ألعوبة بيد هذه الدولة أو تلك ، والشعب يدفع الثمن …