عندما كنت أذكرفي بعض كتاباتي شيئا عن أعتقالي عام 1963 من قبل الحرس القومي في سجن قصر أنور الجوهر في الحلة , كان البعض يغمز من طرفي ظنا منه أني كنت شيوعيا لآن المعتقلين كانوا في تلك الفترة خصوصا بعد يوم 8 شباط عام 1963 أغلبهم من الشيوعيين , وعندما أهديت كتابي ” المرأة بين الفقه الطب ” الذي وفقني الله لتأليفه عام 1987 م وتمت طباعته في بيروت – دار العارف – عام 1990 وأهديت كتابي الى والدتي علية حمادي السويدي وقلت في ألآهداء : الى والدتي التي علمتني الصلاة ولما أدخل المدرسة ألآبتدائية بعد ” ولاحقا عرفت أهمية موقف والدتي رحمها الله والتي كانت سببا في أعطائي الصلابة العقائدية التي ترشحت لي من خلال مواظبتي على الصلاة وقراءة الكتب في زمن مبكر من طفولتي , وأذكر في هذا الباب : أن والدي رحمه الله أعطاني دينارين لآشتري ملابسا للعيد , وعندما دخلت الى سوق المكتبات المجاور لسوق الملابس تعلق نظري بالكتب المعروضة ورحت أشتري منها والى ألآن أتذكر أسمائها : دع القلق وأبدأ الحياة ” لديل كارنيجي وهو مؤلف أمريكي , وكتاب لا يافتاة الحجاز ” لمحمد أحمد باشميل وهو كاتب سعودي , ومجلة ألآضواء التي كانت تصدرها جماعة العلماء في النجف ألآشرف برئاسة الشيخ مرتضى أل ياسين , وكانت ألآفتتاحيات يكتبها الشهيد محمد باقر الصدر , وكتاب حياة كارل ماركس الذي سبق وأن قرأته وأنا في الصف الخامس أبتدائي ولم يستهويني كما أن معلما في مدرستي أعطاني منشورا للحزب الشيوعي وأنا في الصف السادس أبتدائي وعندما قرأته قلت للمعلم : أستاذ لاتعطيني مثل هذه المناشير فأنا لا أحب ما يكتب فيها فكان موقفي صدمة للمعلم الذي ظل خجلا لايدري ماذا يقول ؟ وهكذا ملئت صندوقا من الكتب ورجعت الى البيت ولم أشتر ملابسا وكان أخوتي بأنتظاري وعندما فتحت الصندوق وشاهدوا الكتب ولم يشاهدوا الملابس تعجبوا وسخروا مني , فقلت لهم أني أريد أن ألبس عقلي أما جسدي فعندي من الملابس ما يكفي , فقال والدي رحمه الله : أتركوه لاتتدخلوا في شأنه وحسم الموقف لصالحي .أذكر هذه المقدمات حتى تكون مفيدة لما قاله عني أقراني أبان أندلاع ثورة 14 تموز عام 1958 م والذين أجرفوا مع تنظيمات الحزب الشيوعي بدون وعي وأنما بسبب عواطف تلك المرحلة التي واجهت الشباب من عمري بتظاهرات تقول :
عاش زعيمي عبد الكريم …. حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم
ومثل هتافات :
ما كو مهر .. باجر نرمي القاضي بالنهر ؟
ويبدو أن منظمي تلك التظاهرات لم يكونوا على قدر كاف من الحكمة والمعرفة بالخلفية الدينية للشعب العراقي , ولذلك كانت فتوى واحدة من السيد محسن الحكيم ” الشيوعية كفر وألحاد ” كفيلة بأسقاط كل شعارات الحزب الشيوعي العراقي الذي لم يبق معه ألآ الذين ينطبق عليهم قول الشاعر :
ثلاث عجائز لهم وكلب … وأشياخ على ثلل قعود
وهؤلاء نتيجة فراغهم الفكري حتى بعد أن ماتت الشيوعية ودفنت في عقر دارها روسيا , ظل البعض في العراق وبعض الدول العربية يجترون الماضي ويعيشون على أوهام الماركسية أم الخرافة كما سماها بدر شاكر السياب وكما هجرها مظفر النواب بعد أن أخذت منه زهرة شبابه وكما تبرم منها محمد مهدي الجواهري في قصيدته ” يا أم عوف ” وفي مقدمته النثرية لديوانه ” على قارعة الطريق ” وكما نأى عنها بلند الحيدري عندما قال :
دع ألآمس لاتذكر لياليه … أني نفضت يدي من أثم تربته
وبعت للعالم المنسي لياليه
وفي خضم ذكريات ألآيام ألآولى لثورة 14 تموز أتذكر ما قاله لي بعض أبناء مدينتي عندما صارحوني قائلين : كان المسؤولون في الحزب الشيوعي يقولون لنا أن نقوم بتنظيمك فكنا نقول لهم : لانستطيع فهذا الشاب متمسك بالدين بقوة وهو قارئ للكتب ولديه ثقافة واسعة ؟
ومثلما أضر الحزب الشيوعي بجيل الشباب في العراق حيث قدم لهم أوهاما ولم يقدم لهم مشروعا فكريا يتلائم مع التكوين المجتمعي لهم ولا يبتعد عن بوصلة السماء التي خلقت كونا متدينا , وهذا الكون المتدين كان سببا في فشل ألآمم الماضية التي لم تستوعب حركة الزمان والمكان وحيوية روح ألآنسان التي تختمر فيها تطلعات المستقبل للحاق بركب النور ألآلهي الذي قال عنه الشاعر :من جانب المحراب يمضي ركبنا … للنور لا من جانب الماخور
كذلك أضر الحزب الشيوعي بعبد الكريم قاسم وبثورته والذي لم يكن شيوعيا وأجتمعت أمية البعث الفكرية مع الفوضى الشيوعية لتدخل العراق في نفق مظلم وجد فيه رعاة مشروع سايكس بيكو فرصتهم لتجنيد العملاء وتفتيت الولاءات العقائدية التي نمت وترعرت على أفكار فيلسوف القرن العشرين محمد باقر الصدر حتى كانت مواكب الجامعات العراقية عام 1967 في كربلاء وهي تصدح بقصيدة المرحوم الدكتور داود العطار :
ياشهيدا أين منك الشهدا … ما نرى شخصك ألآ أوحدا
أحمد منا ومنا حيدر … وحسين وهو نبراس الهدىعندها عرفت المخابرات البريطانية وألآمريكية أن المد ألآسلامي قادم فأسرعت لتغيير الحكم الذي كان هشا وضعيفا أيام عبد الرحمن محمد عارف وبعد أنقلاب عام 1968 تعرضت الحركة ألآسلامية الى هجمة شرسة عبر عنها أحد السجناء قائلا :
أبتاه ماذا قد يخط بناني … والحبل والسجان ينتظراني ؟
وبقتل المفكرين المؤسسين أمثال محمد باقر الصدر والمجاهدين ألآتقياء المخلصين أمثال عبد الصاحب دخيل والشيخ المجاهد عارف البصري ومجموعته التي أعدمت عام 1974 ثم تتالت حملات ألآعتقال وألآعدامات والتهجير حتى تركوا الحركة ألآسلامية بدون رأس وبدون عقول مفكرة , فخضعت لضغوطات الهجرة وقساوتها فظهرت عناصر هجينة لاتنتمي لآصالة الحركة ألآسلامية ولا تحتفظ بروحيتها فكثرت ألآنشقاقات وهي أمراض سلوكية عقائدية حتى سقطوا جميعا في حضن ألآحتلال ألآمريكي الذي أخرج ما يسمى بأحزاب السلطة التي عرفها الناس بالفشل والفساد وراح ينسب جهلا للدين وللآسلام , والدين وألآسلام بريئ من ذلك براءة الذئب من دم يوسف ؟
وهكذا تبقى ذكرى ثورة 14 تموز تثير شجون العراقيين ولكن بدون عبرة ولا دراسة حقيقية عميقة بعمق مشاكل العراق .
[email protected]