5 نوفمبر، 2024 8:40 ص
Search
Close this search box.

ذكرى أبي وذكرى سيزيف

ذكرى أبي وذكرى سيزيف

ولد أبي في العام 1908، وتوفي في 1985. تلك المسافة الزمنية غارقة بعبارات الكد والعيش وحمل اكياس الشعير والحنطة على اكتافه، بالصبر نفسه الذي حمل فيه سيزيف الارض على اكتافه، ولكن الفرق بينهما هو ان ابي كان واقعيا في صناعة دموعه وعرق جبينه ونواحه، وسيزيف كان اسطوريا في تخيل أن يحمل الارض عوضا عن فقرائها بعد أن عاقبته الآلهة.

يصور الفقر العمق الأبعد في انعكاس مشاعرنا تجاه ما نراه ونعيشه، وربما بسببه كانت الحاجة للقصائد والثورات والجنائن المعلقة وافران الخبز، وبسببه أتت الفلسفات لتؤشر الى حكمة ما يسكننا من رغبة في صناعة الأمل المثالي لنحسن من وضعنا ونرفع مرتبتنا الاجتماعية من الفقر الى الغنى، وهذا ما لم يتحقق حتى هذه اللحظة، وربما لن يتحقق.

صورة أبي، بوجهه الحسيني ــ الماركسي والقريب الى ملامح غاندي، تسحبني الى بحيرة من بجعات قصص طفولتي… أتخيل صوت دموع أمي وهي تتقافز على مفاتيح اكورديون خدها، صوت موسيقى تجمل الهم الكتوم الذي يصنع الصبر والأمل لسعال ابي في الليل البارد الطويل. ومنذ أن فهمت مغزى العلاقة الروحية والغرامية بينهما، أدركت الآن أنني استطيع أن افعل شيئا يجعلني اطير في سماء تلم الميتافيزيقيا التي تجعلنا نتمنى ما صنعه سيزيف فقط لنحمل عن آبائنا ما يتحملوه من عبء وهم ومسؤولية وعوز في حياتهم.

هذا الفهم لم يدفعني لامسك معولا وأحفر في الارض مفتشا عن الذهب، كما لم يقدني حماس بندقية جيفارا لأسقط سدارة عبد السلام وعارف والبكر، واخصص لأبي راتبا شهريا مثلهم، 700 دينار، بعد أن كان يتقاضى 9 دنانير معاشه كأجير في بلدية الناصرية جبايش بعد أن فقد جواميسه وغادر القرية الى المدينة . لم افعل سوى اللجوء الى القبو السري لروح البشر (الكتابة)، فكانت خواطري الشعرية الاولى والمواضيع الانشائية وقصصي البدائية الأولى هي الواح الخشب التي اصنع منها سفينة نجاة لتنجي أبي من غرقه في طوفان هذه الحياة.

أظن أن كتاباتي لم تفعل شيئا. فقد كانت مجرد قمصان ملونة منشورة على حبل الريح، لا تفعل شيئا سوى انها تشم عطر الحدائق وتصادق الغيوم العابرة.

مات أبي ودفاتري علاها التراب. ورأسي امتلأ شيباً وصداعا من خوذة الحرب وحزن قوائم الاصدقاء الذين اغتربوا عن ارائك المقهى ذاهبين الى الشارع الذي يتنزه على ارصفته ابي في مساءات مدن دلمون الخالدة التي عدت اليها معلما في ريف الأهوار.

ما بقي هو العطر والأثر من رومانسيات ذلك الفقر الاسطوري الذي كان فيه ابي يستغرب في مشابهته لوجه غاندي وهو يصنع ملاحم سومرية ومدائح خالدة للخبز والملح ومجالس العزاء الحسينية .

أما أنا فقد ركبت موجة الورق وذهبت افتش عن منجم حقيقي لذهب روحي في عمق الأهوار ، متمنيا أن اصنع منه قلادة بصياغة متقنة من جارنا المندائي شاهين وألبسها امي المتكورة بسنينها السبعين مثلما تتكور البطيخة الناضجة التي ينسى الفلاح قطافها. وأتخيلها تحمل خواطر سيزيف وأن همومها هي الأرض التي تحملها على أكتافها بدون كلل وملل.

ألبسها القلادة، واهمس لها: ألبسكِ ما عجز أبي ان يلبسكِ اياه، يا امي!

الحق ان القلادة الذهبية ليست سلسلة وليرات رشادية، بل هي أول كتاب قصصي طبعته في حياتي!

أحدث المقالات

أحدث المقالات