منذ ليلة الأمس والأمطار لم تتوقف, مع أن الأنواء الجوية أعلنت أن الخميس سيكون صحوا, يبدو أنه كذب مثل باقي ما يصلنا من الجهات الرسمية, لا اعرف كيف سأقضي النهار وحدي, حتى أن الكهرباء انقطعت مع الزخات الأولى للمطر, فرحلت معها أحلامي بمشاهدة مباريات الدوري الايطالي, يا لهذا اليوم السيئ.
اتجه عماد نحو الثلاجة ليأكل شيئا ما, فلم يجد الا نصف خيارة, وقطع صمون يابس, ورأس بصل متفسخ, وصراصير تتقافز هنا وهناك مذعورة من اكتشاف أمكانها من قبل سيد البيت.
– اللعنة على صدام, الثلاجة خاوية, كنت أتذكر قطع بطاطا موجودة, هل أكلتها الفئران, وهل تحسب نفسها أنها في بيت ثري, الا تعلم الفئران ضعف حالي, يا لهذا الحظ السيئ الذي يحاصرني, يقولون سابقا تفرج بعد العسر, وأنا قلبت القاعدة, فهي عسر في عسر, أما الفرج فكان وهما زرعوه في عقولنا كي نستمر بالحياة ولنخدم السلاطين.
كان صوت بطن عماد يبدد سكون مطبخه الصغير, نظر لساعته الجدارية الموضوعة بشكل مائل, فأدرك بأنه مرت عليه 18 ساعة من دون طعام, الجوع لا يحتمل, راتبه تبخر مع الأسبوع الثاني للشهر, مما يعني أن الفلافل هي وجبته الدائمة, بدا يفكر بعمق بقبول رشوة من سعادة معاون المدير أستاذ شهاب, لتمرير بعض المعاملات المخالفة للتعليمات.
– نعم هكذا فقط يمكن أن يقترب مني الفرج, لو قبلت الرشوة, ماذا افعل أذا سدت الأبواب بوجهي, وحكومتنا المصونة لا تفكر بنا, فخامة الرئيس وسعادة الوزيرة وحضرة المدير, كل عملهم يكمن في قضم الأموال كفئران ثلاجتي, يجب أن أفكر بطريقة الغرب, في أن أذوب بالنص المقدس “الغاية تبرر الوسيلة” واجعله جزء من طقوسي وأيماني, فانا غايتي أن أجد السعادة, والسعادة تكمن في الحصول على المال, وعندها لا يهم أي وسيلة استخدمتها للوصول للمال, فالغاية تبرر الوسيلة, العالم كله تحكمه هذه النظرية, فلماذا احرم نفسي منها.
أشعل عماد سيكارة جديدة عسى أن تشعل الدفء في ذاته المتثلجة, ووقف ينظر من شباك الصالة نحو الشارع, ويتابع بانتباه نزول المطر, (الماء المنهمر من السماء يغسل الأرض والشوارع والبيوت, الا يغسل القلوب, فهذا ما نحتاجه, العون الخفي لإصلاح البشرية), سحب نفسا عميقا جعله يحس ببعض الحياة, هكذا تنقلب الحقائق عند المحرومين, فما يكون سببا عند الإنسانية للمرض, وهو “التدخين”, يكون عند البعض الحبل الوحيد للعودة للحياة.
مازال المطر غزيرا, كان للسيكارة والمطر والهدوء النسبي وقع مؤثرة على ذاكرته, فعاد بعماد شريط الذكريات الى ذلك الشتاء الصاخب, عندما كان عاشقا لتلك الفتاة الغريبة, كيف أحبها, وتعلق بها, كأنها امرأة فريدة لا مثيل لها, وكيف تشاجر مع أخوها الرفيق الحزبي, وما حصل بعدها من محنة السجن, وهناك خلف القضبان ضٌرب وعُذب لأسابيع, وبعدها تمت مساومته بين البقاء بالسجن أو نسيان حبه, ومع انجذابه لتلك الذكريات الجميلة والحزينة, عادت بطنه تئن مع صوت عال, بدد الهدوء وبخر سيل الصور وأزال قطار الذكريات.
– اللعنة على صدام, سأخرج لاشتري صمون وقطعة جبن, فاني أذا بقيت ساعة أخرى, قد أصبح شهيدا للجوع, يجب أن أنقذ نفسي.
لبس ردائه وقبعته السوداء واخذ يركض, كان المطر غزيرا, والشارع قد غرق بمياه الأمطار, لفت انتباهه مواء قطة صغيرة كأنها تستجدي العون, كانت قدما هذه القطة محشورة بين أكياس القمامة, توقف عماد ليخرج القطة من الأكياس, وافلتها, فانطلقت مسرعة, بقي ينظر نحوها وهي تسرع تحت المطر.
– كم الحرية جميلة, هذه القطة أكثر حظا مني, فانا السجين بألف قيد, وهي قيدها واحد وزال.
ترك وساوسه عن الحرية بجانب أكياس القمامة, وعاد يركض نحو فرن حجي عبود, وصل الى الفرن, واخرج نقوده ليشتري الصمون, وفجأة شاهد وفاء, لم يكن حلما بل حقيقة, وهي مبللة تماما, لم تنقذها العباءة من قطرات المطر المنهمرة, وألان هي تقف لجانبه لشراء الصمون ايضا:
– صباح الخير, “اشلونك عماد”.
– صباح النور وفاء, ااااهلا, كيف خرجت في هكذا جو ممطر؟!
كان وجهها شاحبا, تبسمت لسؤاله العطوف, وأدركت انه مازال يهتم لأمرها, كما كان قبل عشر سنوات, فقالت له:- شكرا على تعاطفك, لكنه الجوع يا عماد, أبي ينتظر فطوره والأطفال يبكون من الجوع, فهل أبقى منتظره أن ينتهي عرض المطر المنهمر, والذي يبدو انه سيكون طويلا, عندها قررت الخروج, ولبست عباءتي وأسرعت, لكن أنت ما الذي أخرجك؟ضحك عماد وقهقه عاليا,وقال لها:
– الذي أخرجك أيضا أخرجني, انه الجوع يا وفاء.
أعطاهم عامل الفرن الصمون, تبسمت وفاء مع حزن لا يمكن أن يخفيه بقايا جمالها.
– عماد, وداعا, علي أن أسرع لأطفالي وأبي.
– وداعا وفاء.
فأسرعت وفاء في طريقها تحت مطر شديد, بقي عماد واقفا تحت المطر ينظر أليها وهي تعدو, ثم صاح بها:- وفاء, وفاء؟
وقفت وفاء والتفت لعماد, لتعرف ما يريد وهي عنه بمسافة, تنتظر أن يكمل شيء ما:- وفاء, اللعنة على أخيك.
ضحكت وفاء, وقالت:
– لعناتك لن تغير شيء مما جرى, أرجوك اهتم بنفسك.
ورحلت وفاء بعيدا مثل أي حلم بدا ثم انتهى, عاد عماد الى بيته منكسرا, كفارس مهزوم في حرب شديدة, أو شجرة يابسة تنتظر أن يقتلعها الفلاح, أغلق بابه وجلس أمام المائدة, وفجأة تذكر انه نسي أن يشتري قطعة جبن.