23 ديسمبر، 2024 4:04 ص

ذاكرة بصراوية/ الصحيفة القاتلة

ذاكرة بصراوية/ الصحيفة القاتلة

هذه الايام، تذكرني ايضا بايام السبعينات، حينها سيطر حزب الحكومة، والى حد ما، استطاع فرض الرعب والسكوت في الشارع، بالرغم من الرفض الشعبي الذي لا ينطق به احد. يستطيع المواطن ان يتحدث عن الرياضة والفن والطعام، بشرط ان لا يجرح مشاعر الحزب الحاكم، الذي سيطر على الشارع بالترغيب والترهيب.
⬛ بطل تلك الايام، في ذاكرتي، شاب نحيف اجمل من الملائكة، اذا شاهدتها، انه بائع الصحف مهدي. كلما امر على سوق حنا الشيخ اتذكره. كان محبا للعمال والفلاحين، متعاطفا مع الشعب وخاصة الفقراء. يقرأ كثيرا وياكل قليلا.
1️⃣ مهدي، تذكرني ملامحه بصورة السيد المسيح التي نراها في الاعلام والتواصل الاجتماعي. ابيض الوجه، يشع بطيبة ولطف.
كان الصراع العقائدي موجود بين ثلاث اتجاهات دينية ومادية وقومية. او بين اتجاهين: مادي وديني. الا ان الصراع الابرز هو بين الماديين، اقصد الصراع بين الماركسيين والقوميين.
2️⃣ عام ١٩٦٨ تم الافراج عن الوالد، لكنها لم تكن المرة الاخيرة، قد كان والده ثورياً بشدة، وينتمي الى جناح متطرف، او من جماعة [عزيز الحاج]. الذي تخلى عن الحزب لاحقاً والتحق بحزب السلطة. حينها بكى ابو مهدي عندما سمع الخبر. ومرض ودخل المستشفى، ليبقى مهدي في مواجهة صعوبات الحياة.
⬛ منذ 1970 صارت الحكومة في العراق بوليسية متخلفة، قد منعت كل شيء، وصارت تذبح وتصلخ، بموافقة امريكا، وروسيا والغرب طبعاً.
كان مهدي، كان يتحسس من هذا الظلم. وموقفه سلبي تجاه الحكومة، لانها انفردت بالحكم، واستخدمت العنف والسلاح ضد المجتمع. وبالرغم انه تأثر بانتماء والده السياسي، لكنه اختار موقف اخر في سنوات عمره الاخيرة.
3️⃣ عام 1973 تم اعلان الجبهة الوطنية وصار حزب مهدي مسموحا. لذلك ذهبت مع اخي ومهدي الى تجمع لشباب مثقفين وطيبين، ينتمون لحزب سري، محظور. التجمع في منطقة زراعية على ضفاف الشط، من جهة منطقة شط العرب. تقع مقابل المستشفى التعليمي، في الضفة المقابلة له. على يمين جسر التنومة الحالي.
كان التجمع منفتحاً، وحضرته عدد من الفتيات. ويطلقون عليه [اتحاد الشبيبة] وقد تأسس في الخمسينات من قبل حزبهم. لم اكن افهم شيء من حديثهم، لكن شعرت ان مهدي غير منسجم مع الجو، وغير مرتاح للفعاليات في التجمع. اعتقد ان مهدي كان يحمل معاناة الشعب واسرته اكثر من الباقين. ثم تأكد لي لاحقاً انه يعيش حالة مراجعة مستمرة لمسيرته.
4️⃣ نعم، اصبح حزب مهدي مشاركا في الحكومة وتم الافراج عن ابيه. الذي تم اعتقاله [ابو مهدي] مرات كثيرة. ودخل سجن [نكَرة السلمان] سابقا.. حينها كان مهدي يعيل الاسرة بالتعاون مع والدته. كانوا يجمعون اكياس الاسمنت الفارغة، ويصنعوا منها اكياس ورقية. وبالرغم من ذلك تجد الكتب متوفرة في منزل العائلة، لكن لا يتوفر عندهم الخبز.
5️⃣ رايت مهدي عام ١٩٧٧ يبيع صحيفة [طريق الشعب] في سوق حنا الشيخ. وهذا سوق معروف في البصرة. كان يجلس على الارض، مقابل جسر العشار مباشرة. كانت الصحيفة مجازة رسميا، لكنها ممنوعة واقعاً. لقد كان مهدي يخاطر بحياته لاجل الحزب. اذا لم يتم اعتقاله، سوف يرصده رجال الامن المنتشرين تحت اي سقف او زاوية مظلمة.
6️⃣ عام ١٩٧٩ تم الغاء ما يسمى بالجبهة الوطنية. وتم حظر الحزب، ومطاردة الجميع عدا قيادات الحزب التي سافرت الى الخارج. كان مهدي ينتقد الحزب، لان قياداته سافرت الى بلغاريا ودول اشتراكية اخرى. كان ذلك بسبب اتفاق الاتحاد السوفيتي [روسيا] مع الحكومة العراقية ضد الحزب، لاسباب اقتصادية. وتم حظر الحزب ومنعه في العراق. لذلك تم تشكيل تنظيم اخر، يسمى تنظيم الداخل، وله قيادة، وصحيفة من صفحة واحدة، حجمها صغير.
7️⃣ جاء مهدي ومعه الصحيفة القاتلة. اقصد جريدة الحزب السرية. ورقها خفيف يشبه ورق السكائر الابيض. وزن 30 او 40 غرام. الصحيفة قياس A4. وفيها بيان الحزب باستمرار النضال ضد الديكتاتورية. كان موقفا رهيبا. ان القبض علينا مع هذه الصحيفة يعني قتلنا مع عوائلنا وعشيرتنا ايضا. ان اقل عقوبة حينها هي قلع الاظافر. او ضغط الجمجمة حتى الطقطقة. ثم التهديد بافعال لا يمكن ذكرها تجاه المعتقل واهله. اف، انها كارثة.
اخبرني مهدي ان قبوله المركزي سوف يكون في كلية الهندسة في الجامعة المستنصرية، لكنه قد لا يستطيع السفر لاسباب مادية.
8️⃣ والد مهدي، يملك ساعة ويعتز بها، اضطر بيعها لاجل توفير اجرة النقل من البصرة الى سليمانية، لاجل مهدي.
ضغط حكومي، ومعاناة الاسرة، لم يمنعا مهدي من الاستمرار بالدراسة، فسافر الى جامعة السليمانية، لدراسة الهندسة. واتذكر انه وصل الى الجامعة وجيوبه فارغة. فاضطر الى التواصل مع جماعة الحزب ليساعدوه. واستمر في دراسته لغاية عام 1984. لذلك نجى من الاعتقالات.
رجع الى البصرة، حيث لا علاقة له بتنظيم البصرة. وافلت من الاعتقال. وسمعته ينتقد الحزب، لان قياداته قد سافرت الى الخارج، باتفاق روسي-عراقي. الا ان اعضاء الحزب وكوادره في الداخل، تم اعتقالهم وتعذيبهم بابشع الطرق.
مهدي كان يعمل ليساعد عائلته، ويحاول ان يوازن بين مسؤوليته تجاه وطنه ومسؤوليته تجاه عائلته.
9️⃣ بعد انهاء الخدمة العسكرية ، عمل مهدي مهندساً، وحافظ على استقلاليته الحزبية رغم الضغوط، وتزوج.
الشيء الاهم: ان مهدي كان حذراً، في حركته ويوازن. بين متطلبات الاسرة ومتطلبات المجتمع.
مهدي كان يطلع على ثقافة الآخر. ويراجع المسار. بالرغم من نضاله لسنوات عديدة، راجع انتماءه واتجاهه الفكري. وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وفي التسعينات اتخذ الاتجاه التوحيدي، . وبقي محافظاً على التزامات اخلاقية وقيم عليا. كذلك بعد ٢٠٠٣ بقي وطنيا نزيها، لم ينخرط في الفساد الذي سيطر على الدولة. وتعرض مهدي الى مضايقات من قبل مديره العام بسبب نزاهته، واجهها بحكمة وموعظة. كذلك لم يخضع لتهديدات المليشيات الوقحة التي سيطرت على دوائر محافظة البصرة. وقد اثر في محيطه ايجابيا، لانه يؤمن ان النجاة في الصدق. وان الخير هو الاقوى والمنتصر دائما، وصار يتظاهر ويطالب بالعدالة الاجتماعية. وللحديث بقية.
عرض آخين – عصمت شاهين دوسكي 2.jpg.