ذاكرة الحصاد بين الماضي والحاضر

ذاكرة الحصاد بين الماضي والحاضر

كانت نهاية العام الدراسي وبداية العطلة الصيفية تمثل بالنسبة لنا في قريتنا الصغيرة، الواقعة جنوب الموصل، موسمًا مختلفًا تمامًا؛ موسم الحصاد اليدوي. كنا نحن الصغار، الذين تجاوزنا العاشرة من أعمارنا، نُعَدُّ جزءًا من القوة المساعدة لأهلنا في هذه الأيام المليئة بالعمل والبهجة في آن واحد.
‏في ذلك الزمن، لم تكن الحاصدات العملاقة ولا التكنولوجيا الحديثة قد وصلت إلينا بعد. كان المنجل هو سيد الساحة، وكانت السواعد السمراء هي التي تحصد القمح والشعير، محاصيلنا الأساسية.
‏ يعتمد فلاحونا على رحمة السماء ومواسم المطر، ورغم الطرق البدائية التي استخدموها، فإن الغلّة من المحصول كانت وفيرة، يباركها الله فيُخرج منها الخير الكثير.
‏يبدأ حصاد الشعير عادة في الشهر الخامس، بينما يحل حصاد القمح في الشهر السادس. وكانت مهمتنا نحن الصغار أن نسير خلف الحواصيد نجمع “الشمائل”، وهي حزم صغيرة من السنابل يرميها الحاصود. وبعد جمعها، تأتي النساء ليصففنها في كومات كبيرة تُسمى “القمر”. ثم يُنقل المحصول إلى القرية إمّا بعربات يجرها “التراكتور” أو بعربة يجرها حصان، حيث يُخزَّن في أطراف القرية بما يُعرف بالبيادر، ولكل بيت بيدر خاص به.
‏ولم تكن النساء أقل جهدًا من الرجال؛ فكثيرًا ما كنَّ يقمن بالحصاد إذا كان رب الأسرة متوفيًا أو مشغولًا بوظيفة حكومية. وما أجمل تلك المشاهد حين نرعى أغنامنا بالقرب من الحقول، فنمر على تلك النساء من الحاصودات لنشرب من جرار الفخار التي تُحفظ وسط أكوام القش. كان الماء باردًا عذبًا، لا أظن أنني ذُقت مثله يومًا، فلطالما رددت: “ذاك هو أطيب ماء مرّ على حياتي”.
‏كنا نعيش هواية أخرى لا تقل متعة: البحث عن أعشاش العصافير البرية، كالعصفور والصعوه والحجل والقطا. كانت الطيور منتشرة بكثرة في أراضينا، حتى إنني أذكر مرة وجدت أكثر من خمس عشرة بيضة للحجل في أحد الأودية، فتقاسمتها مع صديقي وعدنا بها إلى بيوتنا وكأننا حملنا كنزًا عظيمًا. لكن اليوم، قلّت تلك الطيور بفعل التكنولوجيا الحديثة وتغير المناخ.
‏بعد عودتنا من رعي الأغنام، كانت تنتظرنا مهمة جديدة في البيادر: ركوب “الجرجر”، وهي آلة تجرها الحيوانات لدرس السنابل وفصل الحبوب عن القش. وما إن تتراكم أكوام المخلوط، حتى يبدأ الفلاح بمذراة خشبية ليفصل الحبوب عن التبن. ثم ينقل المحصول من الحبوب إلى بيوت الفلاحين، حيث تُخزَّن الحبوب في غرفة خاصة، فيما يُحفظ التبن كعلف للحيوانات.
‏كان موسم الحصاد يمتد حتى الشهر التاسع أو العاشر، وبعده تدخل القرية في سكون شبه تام. يعود الطلاب إلى مدارسهم، وتعود النساء لإعداد ما يحتاجه البيت من القمح: يُنظَّف، ثم يُسلق في قدور كبيرة على نار الحطب ليُحضَّر منه البرغل بعد تجفيفه وطحنه. وكان البرغل طعامًا أساسيًا لا يخلو منه بيت ريفي في ذلك الزمان….
‏ورغم انشغالنا بالحصاد، كان لنا نحن الفتوة والشباب  وقت نسرقه للمرح واللعب. كنا نذهب إلى ضفاف دجلة، نسبح في مياهه ونلعب على شواطئه الرملية، وكأننا نحتفل بالحرية بعد عناء أيام الحصاد الطويلة.
‏رحم الله تلك الأيام، ورحم أهلها الذين رحلوا وتركوا خلفهم مناجلهم و”مذراتهم” و”جرجرهم”، فكلها اندثرت أمام آلات “جون دير” و”هولاند”. كان زمنًا بسيطًا لكنه عامر بالحب والرزق والبركة. زمنٌ مضى، ومعه مضت أجيال، ليأتي زمن آخر سيعيشه أبناؤنا بوسائل وأساليب جديدة، لكن ستبقى ذكريات الحصاد محفورة في قلوبنا ما حيينا.

أحدث المقالات

أحدث المقالات